نجد كثيرا من المسلمين يشربون أو يأكلون قياماً لغير حاجة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه عن الشرب قائماً :
أولاً : عَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه- : (( أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا)) . رواه مسلم رقم الحديث (5393) .
ثانياً : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه- : ((أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا )) . رواه مسلم رقم الحديث (5396) .
ثالثاً : عَنِ الْجَارُودِ بْنِ الْمُعَلَّى : (( أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا )). رواه الترمذي رقم الحديث (2001) وهو في صحيح الترمذي رقم (1881).
رابعاً : عَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه- : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِماً. قُلْتُ : فَالأَكْلُ ؟ قَالَ : ذَاكَ أَشَدُّ )) . رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (13218) . وفي رواية : (( زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِماً . قَالَ : فَقِيلَ لأَنَسٍ فَالأَكْلُ ؟ قَالَ : ذَاكَ أَشَدُّ وَأَشَرُّ )) . رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (13403) . وفي أخرى : (( زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِماً . قَالَ : فَقُلْتُ : فَالأَكْلُ؟ قَالَ : أَشَرُّ وَأَخْبَثُ )) . رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (13968) . ينظر في السلسلة الصحيحة رقم (177) .
خامساً : عَنْ أَبِى زِيَادٍ الطَّحَّانِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- : (( أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يَشْرَبُ قَائِماً فَقَالَ لَهُ : « قِهْ ». قَالَ لِمَهْ ؟ قَالَ : « أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الَهِرُّ ». قَالَ لاَ. قَالَ : فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ » )) . رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (8224) . قال في السلسلة الصحيحة (1/174) : و هذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي زياد هذا ، قال ابن معين ثقة .
سادساً : قال صلى الله عليه وسلم : (( لو يعلم الذي يشرب و هو قائم ما في بطنه لاستقاء)). السلسلة الصحيحة رقم (176) .
فهذه الأحاديث فيها النهي الصريح عن الشرب قائماً ، وبين أنس –رضي الله عنه- أن الأكل كذلك بل هو أشر ، لكن جاءت أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائما :
أولا : عَنْ عَلِيٍّ – رضي الله عنه – : (( أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهْوَ قَائِمٌ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا ، وَإِنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ )) . رواه البخاري برقم (5616) .
ثانياً : عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ : (( أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ صَائِمٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ بِصَائِمٍ . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ )) . رواه البخاري برقم (1661) .
ثالثاً : عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – حَدَّثَهُ قَالَ : ((سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ . قَالَ عَاصِمٌ فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ )) . رواه البخاري برقم (1637) .
رابعاً : عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى عَمْرَةَ عَنْ جَدَّةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا كَبْشَةُ الأَنْصَارِيَّةُ : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ ، فَقَطَعَتْ فَمَ الْقِرْبَةِ تَبْتَغِي بَرَكَةَ مَوْضِعِ فِي رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- )) . صحيح ابن ماجه رقم (2763) .
خامساً : عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال : ((كنا نشرب ونحن قيام ، ونأكل ونحن نمشي على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم )) . السلسلة الصحيحة رقم (3178) .
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في التوفيق بين هذه الأحاديث ، على مذاهب :
المذهب الأول : ذهب إلى ترجيح أحاديث النهي على الإباحة . قال الإمام الصنعاني في سبل السلام ( 7/42) : ( وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الشُّرْبِ قَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النَّهْيِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ ).
وذهب الإمام ابن حزم إلى التحريم في المحلى مسألة رقم (1107) ، والشيخ الألباني في السلسلة (1/76) ، وغيرهم .
المذهب الثاني : ذهب إلى ترجيح الإباحة على النهي ، وزعم أن أحاديث النهي منسوخة .
المذهب الثالث : ذهب إلى حمل أحاديث النهي على الكراهة ، وهو مذهب الجمهور .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (16/94) : ( وَسَلَكَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ مَسَالِك :
أَحَدهَا : التَّرْجِيح وَأَنَّ أَحَادِيث الْجَوَاز أَثْبَت مِنْ أَحَادِيث النَّهْي ، وَهَذِهِ طَرِيقَة أَبِي بَكْر الْأَثْرَم ، فَقَالَ : حَدِيث أَنَس – يَعْنِي فِي النَّهْي – جَيِّد الْإِسْنَاد وَلَكِنْ قَدْ جَاءَ عَنْهُ خِلَافه ، يَعْنِي فِي الْجَوَاز ، قَالَ : وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْن الطَّرِيق إِلَيْهِ فِي النَّهْي أَثْبَت مِنْ الطَّرِيق إِلَيْهِ فِي الْجَوَاز أَنْ لَا يَكُون الَّذِي يُقَابِلهُ أَقْوَى لِأَنَّ الثَّبْت قَدْ يَرْوِي مَنْ هُوَ دُونه الشَّيْء فَيُرَجَّح عَلَيْهِ …
الْمَسْلَك الثَّانِي : دَعْوَى النَّسْخ ، وَإِلَيْهَا جَنَحَ الْأَثْرَم وَابْن شَاهِين فَقَرَّرَا عَلَى أَنَّ أَحَادِيث النَّهْي – عَلَى تَقْدِير ثُبُوتهَا – مَنْسُوخَة بِأَحَادِيث الْجَوَاز بِقَرِينَةِ عَمَل الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ وَمُعْظَم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بِالْجَوَازِ ، وَقَدْ عَكَسَ ذَلِكَ اِبْن حَزْم فَادَّعَى نَسْخ أَحَادِيث الْجَوَاز بِأَحَادِيث النَّهْي مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ الْجَوَاز عَلَى وَفْق الْأَصْل وَأَحَادِيث النَّهْي مُقَرِّرَة لِحُكْمِ الشَّرْع . فَمَنْ اِدَّعَى الْجَوَاز بَعْد النَّهْي فَعَلَيْهِ الْبَيَان ، فَإِنَّ النَّسْخ لَا يَثْبُت بِالِاحْتِمَالِ . وَأَجَابَ بَعْضهمْ بِأَنَّ أَحَادِيث الْجَوَاز مُتَأَخِّرَة لِمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع …
الْمَسْلَك الثَّالِث : الْجَمْع بَيْن الْخَبَرَيْنِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيل ، فَقَالَ أَبُو الْفَرَج الثَّقَفِيّ فِي نَصْره الصِّحَاح : وَالْمُرَاد بِالْقِيَامِ هُنَا الْمَشْي ، يُقَال قَامَ فِي الْأَمْر إِذَا مَشَى فِيهِ ، وَقُمْت فِي حَاجَتِي إِذَا سَعَيْت فِيهَا وَقَضَيْتهَا ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : ( إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ) أَيْ مُوَاظِبًا بِالْمَشْيِ عَلَيْهِ . وَجَنَحَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى تَأْوِيل آخَر وَهُوَ حَمْل النَّهْي عَلَى مَنْ لَمْ يُسَمِّ عِنْد شُرْبه ، وَهَذَا إِنْ سَلِمَ لَهُ فِي بَعْض أَلْفَاظ الْأَحَادِيث لَمْ يَسْلَم لَهُ فِي بَقِيَّتهَا . وَسَلَكَ آخَرُونَ فِي الْجَمْع حَمْل أَحَادِيث النَّهْي عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه وَأَحَادِيث الْجَوَاز عَلَى بَيَانه ، وَهِيَ طَرِيقَة الْخَطَّابِيّ وَابْن بَطَّال فِي آخَرِينَ ، وَهَذَا أَحْسَن الْمَسَالِك وَأَسْلَمهَا وَأَبْعَدهَا مِنْ الِاعْتِرَاض ، وَقَدْ أَشَارَ الْأَثْرَم إِلَى ذَلِكَ أَخِيرًا فَقَالَ : إِنْ ثَبَتَتْ الْكَرَاهَة حُمِلَتْ عَلَى الْإِرْشَاد وَالتَّأْدِيب لَا عَلَى التَّحْرِيم ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا ثُمَّ حَرَّمَهُ أَوْ كَانَ حَرَامًا ثُمَّ جَوَّزَهُ لَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَيَانًا وَاضِحًا ، فَلَمَّا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَار بِذَلِكَ جَمَعْنَا بَيْنهَا بِهَذَا .
وَقِيلَ إِنَّ النَّهْي عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَة الطِّبّ مَخَافَة وُقُوع ضَرَر بِهِ ، فَإِنَّ الشُّرْب قَاعِدًا أَمْكَن وَأَبْعَد مِنْ الشَّرَق وَحُصُول الْوَجَع فِي الْكَبِد أَوْ الْحَلْق ، وَكُلّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَأْمَن مِنْهُ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا ) انتهى كلامه –رحمه الله تعالى- مع شيء من الاختصار .
وَقَالَ الْحَافِظ اِبْن الْقَيِّم فِي حَاشِيَة السُّنَن (10/130) : ( وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْب قَائِمًا . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” لَا يَشْرَبَنَّ أَحَد مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيْ” وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ” سَقَيْت رَسُول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَم فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم ” . وَفِي لَفْظ آخَر ” فَحَلَفَ عِكْرِمَة مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا عَلَى بَعِير ” .
فَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث ، فَقَوْم سَلَكُوا بِهَا مَسْلَك النَّسْخ ، وَقَالُوا آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّرْب قَائِمًا كَمَا شَرِبَ فِي حَجَّة الْوَدَاع ، وَقَالَتْ طَائِفَة فِي ثُبُوت النَّسْخ بِذَلِكَ نَظَر ، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ شَرِبَ قَائِمًا لِعُذْرٍ ، وَقَدْ حَلَفَ عِكْرِمَة أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ رَاكِبًا . وَحَدِيث عَلِيّ قِصَّة عَيْن فَلَا عُمُوم لَهَا .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي عُمَر عَنْ جَدَّته كَبْشَة قَالَتْ : ” دَخَلَ عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْت قِرْبَة مُعَلَّقَة فَشَرِبَ قَائِمًا فَقُمْت إِلَى فِيهَا فَقَطَعْته ” وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث صَحِيح ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَرَوَى أَحْمَد فِي مُسْنَده عَنْ أُمّ سُلَيْمٍ قَالَتْ ” دَخَلَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْت قِرْبَة مُعَلَّقَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا وَهُوَ قَائِم فَقَطَعْت فَاهَا فَإِنَّهُ لَعِنْدِي ” فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوَقَائِع عَلَى أَنَّ الشُّرْب مِنْهَا قَائِمًا كَانَ لِحَاجَةٍ لِكَوْنِ الْقِرْبَةِ مُعَلَّقَة ، وَكَذَلِكَ شُرْبه مِنْ زَمْزَم أَيْضًا لَعَلَّهُ لَمْ يَتَمَكَّن مِنْ الْقُعُود لِضِيقِ الْمَوْضِع أَوْ الزِّحَام وَغَيْرهَا . وَالْجُمْلَة فَالنَّسْخ لَا يَثْبُت بِمِثْلِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عُمَر ” كُنَّا عَلَى عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَأْكُل وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَب وَنَحْنُ قِيَام ” رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد وَابْن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ ، فَلَا يَدُلّ عَلَى النَّسْخ إِلَّا بَعْد ثَلَاثَة أُمُور : مُقَاوَمَتُهُ لِأَحَادِيثِ النَّهْي فِي الصِّحَّة ، وَبُلُوغُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَأَخُّره عَنْ أَحَادِيث النَّهْي ، وَبَعْد ذَلِكَ فَهُوَ حِكَايَة فِعْل لَا عُمُوم لَهَا ، فَإِثْبَات النَّسْخ فِي هَذَا عُسْر) اِنْتَهَى كَلَامه .
وَقَالَ فِي زَاد الْمَعَاد (4/209) : ( وَكَانَ مِنْ هَدْيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّرْب قَاعِدًا . هَذَا كَانَ هَدْيه الْمُعْتَاد . وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الشُّرْب قَائِمًا . وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِي شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيءَ ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا .
قَالَتْ طَائِفَة : هَذَا نَاسِخ لِلنَّهْيِ ، وَقَالَتْ طَائِفَة : بَلْ مُبَيِّن أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ لِلْإِرْشَادِ وَتَرْك الْأَوْلَى . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا تَعَارُض بَيْنهمَا أَصْلًا ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا شَرِبَ قَائِمًا لِلْحَاجَةِ ، فَإِنَّهُ جَاءَ إِلَى زَمْزَم وَهُمْ يَسْقُونَ مِنْهَا فَاسْتَقَى فَنَاوَلُوهُ الدَّلْو فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم ، هَذَا كَانَ مَوْضِع حَاجَة .
وَلِلشُّرْبِ قَائِمًا آفَات عَدِيدَة ، مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْصُل لَهُ الرِّيّ التَّامّ ، وَلَا يَسْتَقِرّ فِي الْمَعِدَة حَتَّى يَقْسِمهُ الْكَبِد عَلَى الْأَعْضَاء وَيَنْزِل بِسُرْعَةٍ وَحِدَّة إِلَى الْمَعِدَة فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبَرِّد حَرَارَتهَا وَتَشَوُّشهَا وَتُسْرِع النُّفُوذ إِلَى أَسْفَلِ الْبَدَن بِغَيْرِ تَدْرِيج ، وَكُلّ هَذَا يَضُرّ بِالشَّارِبِ ، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ لَمْ يَضُرّهُ ) .انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
والراجح من هذا الخلاف –والله أعلم- :
اعلم أن الراجح من هذا الخلاف هو القول بتحريم الشرب قائماً وكذا الأكل إلا من حاجة ، وبهذا تجتمع النصوص ، بأن يقال إن الأحاديث التي جاءت للإباحة إنما هي للحاجة ، وبهذا نعمل بجميع الأدلة ، فَنَمْنَع الشرب والأكل قائما للأدلة المانعة ، ونجوزه للحاجة للأدلة المجوزة ، وهذا ظاهر كلام ابن القيم المتقدم ، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى – فإنه قال في مجموع الفتاوى (32/209) : (وأما الشرب قائماً فقد جاءت أحاديث صحيحة بالنهي وأحاديث صحيحة بالرخصة ، ولهذا تنازع العلماء فيه ، وذكر فيه روايتان عن أحمد ، ولكن الجمع بين الأحاديث أن تحمل الرخصة على حال العذر ، فأحاديث النهي مثلها في الصحيح أن النبي نهى عن الشرب قائما ، وفيه عن قتادة عن أنس : أن النبي زجر عن الشرب قائما ، قال قتادة : فقلنا الأكل ، فقال : ذاك شر وأخبث . وأحاديث الرخصة مثل حديث ما في الصحيحين عن علي وابن عباس قال : شرب النبي صلى الله عليه و سلم قائماً من زمزم ، … فيكون هذا ونحوه مستثنى من ذلك النهي ، وهذا جار عن أحوال الشريعة أن المنهي عنه يباح عند الحاجة ، بل ما هو أشد من هذا يباح عند الحاجة ، بل المحرمات التي حرم أكلها وشربها كالميتة والدم تباح للضرورة ، وأما ما حرم مباشرته طاهرا كالذهب والحرير فيباح للحاجة ، وهذا النهي عن صفة في الأكل والشرب فهذا دون النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة وعن لباس الذهب والحرير إذ ذاك قد جاء فيه وعيد ومع هذا فهو مباح للحاجة فهذا أولى . والله أعلم ) .
واعلم أنه لا يصح حمل النهي على الكراهة لما يأتي :
أولا : أن أحاديث النهي فيها الزجر الشديد عن الشرب قائماً ، فكيف يحمل هذا الزجر على الكراهة .
ثانياً : الأمر بالاستقاء كعقاب لمن شرب قائماً ، فيه كلفه ومشقة شديدة ، فلا يتصور أن يؤمر بالاستقاء من فعل مكروه ، بل من فعل ما هو إثم .
ثالثاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الَهِرُّ )) . وهذا لا يرضاه عاقل ، فمن يرضى أن يشرب معه الهر ، ونحن نعلم ما في فيّ الهر من جراثيم وغيرها ، أَبَعْد هذا التنفير الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم يقال بأن الشرب قائماً مكروه ؟!
رابعاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ )) ، أن الشرب قائما وسيلة لشرب الشيطان مع الإنسان ، ونحن نعلم أن عدو الله تعالى نهينا عن أن نتبع خطواته ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } (البقرة168) ، وهذا النهي للتحريم ، لأنه لنا عدو مبين ، فكيف بالشرب معه !! فإن الشيطان يشرب مع من يشرب وهو قائم ، وماذا نتصور أن يحصل لمن اعتاد أن يشرب الشيطان معه ؟! هل بعد هذا يصح أن يقال إن الشرب قائماً مكروه فقط؟!
خامساً : أن الشرب قائماً فيه ضرر لا محالة ولهذا نهانا الشارع عنه ، سواء أكان هذا الضرر دينياً كما سبق من شرب الشيطان مع من يشرب قائما ، أو دنيوياً كما قال بعض أهل العلم ، قال الحافظ : ( وَقِيلَ إِنَّ النَّهْي عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَة الطِّبّ مَخَافَة وُقُوع ضَرَر بِهِ ، فَإِنَّ الشُّرْب قَاعِدًا أَمْكَن وَأَبْعَد مِنْ الشَّرَق وَحُصُول الْوَجَع فِي الْكَبِد أَوْ الْحَلْق ، وَكُلّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَأْمَن مِنْهُ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا ) سبق . وقال ابن القيم : (وَلِلشُّرْبِ قَائِمًا آفَات عَدِيدَة ، مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْصُل لَهُ الرِّيّ التَّامّ ، وَلَا يَسْتَقِرّ فِي الْمَعِدَة حَتَّى يَقْسِمهُ الْكَبِد عَلَى الْأَعْضَاء وَيَنْزِل بِسُرْعَةٍ وَحِدَّة إِلَى الْمَعِدَة فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبَرِّد حَرَارَتهَا وَتَشَوُّشهَا وَتُسْرِع النُّفُوذ إِلَى أَسْفَلِ الْبَدَن بِغَيْرِ تَدْرِيج ، وَكُلّ هَذَا يَضُرّ بِالشَّارِبِ ، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ لَمْ يَضُرّهُ ) سبق .
والضرر منهي عنه في شرعنا في نصوص كثير من القرآن والسنة ، وهو محرم ، فإذا كان في الشرب قائماً ضرر فإنه يكون محرماً ، ولا يصح حمله على الكراهة .
سابعاً : أن أحاديث الإباحة يمكن توجيهها وهي ليست صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما لغير حاجة ، بخلاف أحاديث النهي ، وإليك البيان :
أما حديث علي -رضي الله عنه- فهو فهم منه -رضي الله عنه- وخالفه آخرون فإنه : (قَالَ : إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا) ، وهو يحكي حكاية حال عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا عموم لها ، فربما شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما لحاجة ، وهذا هو الظاهر من هديه صلى الله عليه وسلم مع نهيه ، ثم إن علياً رضي الله عنه ، لعله لم يبله حديث النهي لأنه بين أن أناسا يكرهون ، ولا يتصور أن يقول ذلك مع علمه أن الذي نهى عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما حديث أم الفضل رضي الله عنها فلا حجة فيه على جواز الشرب قائماً ، لأنها قالت : ((وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ )) ، وكذلك حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- فلا حجة فيه على جواز الشرب قائماً لأنه قال : ((سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ . قَالَ عَاصِمٌ فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ )) .
فالوقوف على البعير هو جلوس في الحقيقة ، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : (لَا حُجَّة فِي هَذَا عَلَى الشُّرْب قَائِمًا ، لِأَنَّ الرَّاكِب عَلَى الْبَعِير قَاعِد غَيْر قَائِم ) فتح الباري (16/96).
ولو سلمنا جدلا أنه كان قائماً فإنه فعل ذلك لحاجة وهي كثرة الزحام ، وكذلك أحب أن يرى الناس فعله ، ونحن لا نمنع من الشرب قائماً لحاجة كما سبق .
وأما حديث كبشة الأنصارية –رضي الله عنها- فلا حجة فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائما لحاجة وهي أن القربة معلقة ، وبحثنا في الشرب قائما من غير حاجة .
ولو سلمنا جدلا أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائماً من غير حاجة فإن الله تعالى يعصمه من أن يشرب الشيطان معه ومن الضرر ، ولهذا كانت بعض الأفعال خاصة به صلى الله عليه وسلم كالوصال –مواصلة الصوم- مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن ذلك .
وأما حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- فهو يحكي أنهم كانوا يشربون وهم قيام ، مع أن هذا الحديث جاء كأثر موقوف عن ابن أبي شيبة رقم (4167) بإسناد حسن قال : (إني أشرب وأنا قائم ، وآكل وأنا أمشي ) . فهذا اجتهاد من –رضي الله عنه- فلعله لم يبلغه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم هو ومن نقل عنهم هذا الفعل بقوله (كنا) ، وهذا الذي يغلب على الظن لأن ابن عمر رضي الله عنهما من أشد الناس إتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وكذا اجتناب نهيه ، وكذلك بقية الصحابة ، فلا بدّ من الاستدلال به هنا أن نعلم فعلهم هذا متأخر عن أحاديث النهي ، وأنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لوجود النصوص الصريحة المانعة ، ويحتمل أنه يريد أنهم كانوا يفعلون ذلك لحاجة ، للجمع بين النهي الشديد وبين فعلهم هذا ، وعلى كلّ لا يعارض بهذا الفعل وكذا فعل بعض الصحابة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصريحة في النهي مع وجود المخالف من الصحابة ، فلعل من شرب قائما لم يبلغه النهي ، ومن علم حجة على من لا يعلم . والله أعلم .
هذا ما تيسر جمعه ، فإن أصبت فمن الله تعالى وحده ، وإن كانت الأخرى فمني ومن الشيطان فأستغفر الله تعالى وأتوب إليه .
والله تعالى أعلى وأعلم .