السنة الخامسة: الصلاة في النعلين

الحمد لله وحده وأشهد وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وبعد :

من السنن المهجورة الصلاة في النعلين الطاهرين في الأماكن التي يستطيع أن يصلي بها في نعاله كالصحراء ، والفلاة ، وفي الطريق وهو مسافر ، والمساجد غير المفروشة بالسجاد ونحوه كالمساجد المفروشة بالحصباء أو الرمل ، وغيرها .

قال ابن رجب في فتح الباري (2/276) : (عادة النبي ﷺ المستمرة الصلاة في نعليه ، وكلام أكثر السلف يدل على أن الصلاة في النعلين أفضل من الصلاة حافيا) .

وإليك الأدلة الدالة على استحباب الصلاة في النعلين بالشروط السابقة :

الدليل الأول : عن أَبي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ الأَزْدِيُّ قَالَ : (( سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ )) . رواه البخاري رقم الحديث (386) ومسلم رقم الحديث (555) .

الدليل الثاني : عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ ، وَلَا خِفَافِهِمْ )) . رواه أبو داود رقم الحديث (652) . قال الألباني في صحيح أبي داود (3/224) : (إسناده صحيح ، وكذا قال الحاكم ووافقه الذهبي ، وقال العراقي : إسناده حسن ، وقال الشوكاني : لا مطعن في إسناده . وأخرجه ابن حبان في صحيحه ) .

الدليل الثالث : عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : (( بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلَاتَهُ ، قَالَ : مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ ، قَالُوا : رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : إِنَّ جِبْرِيلَ ﷺ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا – أَوْ قَالَ : أَذًى – . وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ : فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا )) . رواه أبو داود رقم الحديث (650) . قال الألباني في صحيح أبي داود (3/221) : (إسناده صحيح على شرط مسلم ، وقال النووي: إسناده صحيح ، وقال الحاكم : حديث صحيح على شرط مسلم! ، ووافقه الذهبي . وأخرجه ابن خزيمة (1017) ، وابن حبان في صحيحيهما ، وقوّى إسناده ابن التًّرْكُماني) .

الدليل الرابع : عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : (( رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا )) . رواه أبو داود رقم الحديث (653) . قال الألباني في صحيح أبي داود (3/225) : (إسناده حسن صحيح) .

الدليل الخامس : عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ، فَسُئِلَ ؟ فَقَالَ : (( رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ صَنَعَ مِثْلَ هَذَا )) . قَالَ إِبْرَاهِيمُ : فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ ، لأَنَّ جَرِيرًا كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ . رواه البخاري رقم الحديث (387) ، ومسلم رقم الحديث (272) دون قوله : ((ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى)) .

 

 

تنبيه :

أما ما يروى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ –رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ : ((مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ : الصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ)) . فهو حديث ضعيف منكر . رواه الطبراني في الأوسط (1/54) رقم (150) وقال : ( لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُغِيرَةَ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ ، تَفَرَّدَ بِهِ : مُوسَى بْنُ أَبِي سَهْلٍ ) .

وقال الألباني في السلسلة الضعيفة رقم (6084) : (منكر) .

تنبيه آخر :

لا يصلى في النعال في المساجد الحديثة المفروشة لما في ذلك من أذية المصلين وإتلاف الفرش ، وتنفير الناس من هذه المساجد ، ونحو ها من المفاسد ، فالمفسدة هنا راجحة على الصلاة في النعلين . وسبق أن النبي ﷺ كان يصلي حافياً وكان يصلي منتعلا . والله أعلم .

السنة الرابعة : السنة الفصل بين صلاة النافلة بعد الفريضة بكلام أو بتغيير المكان

هذه السنة من السنن المهجورة عند كثير من الناس فتراه بعد أن ينتهي من صلاة الفريضة يقوم مباشرة لصلاة النافلة في المكان نفسه دون الفصل بين الفريضة والنافلة بكلام أو تغيير للمكان ، وهو مذهب الشافعية والحنابلة مطالب أولي النهى (1/550) ، والمجموع (4/29) ، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى (24/202) ، وذلك للأدلة الآتية :
الدليل الأول : عن عُمَرَ بْنِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ – ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ – يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي ، فَصَلَّيْتُ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ : ((لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ ، إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ ، فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ ، أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ)) . رواه مسلم رقم الحديث (883).
قال ابن رجب في فتح الباري (5/264) : (وهذا الحديث يدل على كراهة أن يَصِلَ المكتوبة بالتطوع بعدها من غير فصل ، وإن فصل بالتسليم) .
قال النووي شرح مسلم (6/171) : (قوله : (فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج) فيه دليل لما قاله أصحابنا : إن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحول لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر ، وأفضله التحول إلى بيته وإلا فموضع آخر من المسجد أو غيره ليكثر مواضع سجوده ، ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة : وقوله : (حتى نتكلم) دليل على أن الفصل بينهما يحصل بالكلام أيضا ولكن بالانتقال أفضل لما ذكرناه . والله أعلم ).
قال المناوي في فيض القدير (6/548) : ((لا توصل صلاة بصلاة حتى تتكلم أو تخرج) من المسجد فيسن الفصل بينهما بالانتقال من محل الفرض والخروج لغيره فإن لم يفعل فصل بنحو كلام ) .
الدليل الثاني : عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ فَقَامَ رَجُلٌ يُصَلِّي ، فَرَآهُ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِصَلَاتِهِمْ فَصْلٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْسَنَ ابْنُ الْخَطَّابِ )) . رواه الإمام احمد في المسند رقم الحديث (23121) بإسناد صحيح . ينظر السلسلة الصحيحة رقم (2549) .
الدليل الثالث : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إِذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ يَعْنِي السُّبْحَةَ )) . رواه ابن أبي شيبة رقم الحديث (6011) ، وابن ماجه رقم الحديث (1417) ، وأبو داود رقم الحديث (1006) . صححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (4/160) .
الدليل الرابع : قال ابن أبي شيبه حدثنا ابن عليه عن أيوب عن عطاء : (( أن ابن عباس وابن الزبير وأبا سعيد وابن عمر -رضي الله عنهم- كانوا يقولون : لا يتطوع حتى يتحول من مكانه الذي صلى فيه الفريضة )). المصنف (2/23) رقم (6012) . إسناده صحيح .
الدليل الخامس : روى عبد الرزاق عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : ((مَنَ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فَلْيَتَكَلَّمْ ، أَوْ فَلْيَمْشِ ، وَلْيُصَلِّ أَمَامَ ذَلِكَ)) قَالَ : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : (( إِنِّي لَأَقُولُ لِلْجَارِيَةِ : انْظُرِي كَمْ ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ؟ مَا بِي إِلَّا أَنْ أَفْصِلَ بَيْنَهُمَا )) . في المصنف (2/416) رقم (3914) . إسناده صحيح .
الدليل السادس : عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ –رضي الله عنهما- قَالَ : (( كَانَ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ ، تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعًا ، وَإِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّى الْجُمُعَةَ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقِيلَ لَهُ ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ )) . رواه أبوداود رقم الحديث (1130) . قال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (4/293) : (إسناده صحيح ، رجاله رجال الصحيح ) .

السنة الثالثة : الوضوء قبل الغسل الواجب أو المستحب

يستحب الوضوء قبل الغسل سواء كان واجباً أو مستحباً ، وذلك لما ثبت عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم : (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ ، فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ )) . رواه البخاري في الغسل/باب الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ رقم الحديث (248) ، ومسلم في الحيض/بَاب صِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ رقم الحديث (474)

قال ابن بطال في شرح البخاري (1/368) : (العلماء مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل ) .

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/429) : (( قوله باب الوضوء قبل الغسل) أي استحبابه ، قال الشافعي -رحمه الله- في الأم : فرض الله تعالى الغسل مطلقا لم يذكر فيه شيئا يبدأ به قبل شيء ، فكيفما جاء به المغتسل أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه ، والاختيار في الغسل ما روت عائشة).

وعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ : (( دَخَلَتْ أَسْمَاءُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ إِحْدَانَا إِذَا طَهُرَتْ مِنَ الْمَحِيضِ؟ قَالَ : تَأْخُذُ سِدْرَهَا وَمَاءَهَا فَتَوَضَّأُ ، ثُمَّ تَغْسِلُ رَأْسَهَا وَتَدْلُكُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ أُصُولَ شَعْرِهَا … )) . رواه البخاري في كتاب الحيض /باب دلك المرأة نفسها … وباب غسل المحيض ، رقم الحديث (314 و315) ، ومسلم في كتاب الحيض /باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة … رقم الحديث (332) ، وأبو داود في كتاب الطهارة /باب الاغتسال من الحيض ، رقم الحديث (309) واللفظ له . وقال الألباني عنه في صحيح أبي داود رقم الحديث (306) : حسن صحيح .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ )) . رواه البخاري في الجمعة/باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ رقم الحديث (841) ، ومسلم في الجمعة/باب الطِّيبِ وَالسِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رقم الحديث (2001)

ينظر: بدائع الصنائع (1/ 34)، وتبيين الحقائق (1/ 14) ، وحشية ابن عابدين (1/ 156) ، وحاشية الدسوقي (1/ 136) ، ومنح الجليل (1/ 128)، والقوانين الفقهية ص (23) ، والمجموع (2/ 215)، ومغني المحتاج (1/ 73)، وروضة الطالبين (1/ 89) ، وكشاف القناع (1/ 152)، والإنصاف (1/ 242) ، والمغني (1/ 287).

السنة الثانية : الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل ، أو يشرب ، أو ينام ، أو يعاود الجماع

يستحب للجنب إذا أراد أن يأكل ، أو يشرب ، أو ينام ، أو يعاود الجماع أن يتوضأ ، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة.
للأدلة الآتية :
عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ : (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ)) . رواه مسلم في الحيض/باب جَوَازِ نَوْمِ الْجُنُبِ وَاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لَهُ وَغَسْلِ الْفَرْجِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُجَامِعَ رقم الحديث (726) .
وعَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- قَالَتْ : (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ ، غَسَلَ كَفَّيْهِ ، ثُمَّ يَأْكُلُ ، أَوْ يَشْرَبُ ، إِنْ شَاءَ )). رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (24714) . وصححه الشيخ الألباني في صحيح النسائي رقم الحديث (257) ، وينظر صحيح أبي داود (1/402) رقم (220) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ)). رواه مسلم في الحيض/باب جَوَازِ نَوْمِ الْجُنُبِ وَاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لَهُ وَغَسْلِ الْفَرْجِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُجَامِعَ رقم الحديث (733)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : (( إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْعَوْدَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَإِنَّهُ أَنْشَطُ له في الْعَوْدِ)). رواه ابن خزيمة في صحيحه رقم الحديث (221) . وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (263) . وينظر صحيح أبي داود (1/400) .
قال في مرعاة المفاتيح (2/149) : (والحكمة في الوضوء أنه يخفف الحدث . ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبه بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال : إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف غسل الجنابة . وقيل : الحكمة أن يبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في منامه ، وقيل حكمته : أنه ينشط إلى العود أو إلى الغسل إذا بل أعضاءه ) .
ينظر : حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص (47) ، والمجموع (2/ 155) ، والمغني (1/229) ، وحاشية الدسوقي (1/137) ، والتاج والإكليل (1/316) ، والقوانين الفقهية ص (25) ، والموسوعة الفقهية (43/324)

السنة الأولى: الأكل والشرب قاعداً

نجد كثيرا من المسلمين يشربون أو يأكلون قياماً لغير حاجة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه عن الشرب قائماً :

أولاً : عَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه- : (( أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا)) . رواه مسلم رقم الحديث (5393) .

ثانياً : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه- : ((أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا )) . رواه مسلم رقم الحديث (5396) .

ثالثاً : عَنِ الْجَارُودِ بْنِ الْمُعَلَّى : (( أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا )). رواه الترمذي رقم الحديث (2001) وهو في صحيح الترمذي رقم (1881).

رابعاً : عَنْ أَنَسٍ –رضي الله عنه- : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِماً. قُلْتُ : فَالأَكْلُ ؟ قَالَ : ذَاكَ أَشَدُّ )) . رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (13218) . وفي رواية : (( زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِماً . قَالَ : فَقِيلَ لأَنَسٍ فَالأَكْلُ ؟ قَالَ : ذَاكَ أَشَدُّ وَأَشَرُّ )) . رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (13403) . وفي أخرى : (( زَجَرَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِماً . قَالَ : فَقُلْتُ : فَالأَكْلُ؟ قَالَ : أَشَرُّ وَأَخْبَثُ )) . رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (13968) . ينظر في السلسلة الصحيحة رقم (177) .

خامساً : عَنْ أَبِى زِيَادٍ الطَّحَّانِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- : (( أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يَشْرَبُ قَائِماً فَقَالَ لَهُ : « قِهْ ». قَالَ لِمَهْ ؟ قَالَ : « أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الَهِرُّ ». قَالَ لاَ. قَالَ : فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ » )) . رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (8224) . قال في السلسلة الصحيحة (1/174) : و هذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي زياد هذا ، قال ابن معين ثقة .

سادساً : قال صلى الله عليه وسلم : (( لو يعلم الذي يشرب و هو قائم ما في بطنه لاستقاء)). السلسلة الصحيحة رقم (176) .

فهذه الأحاديث فيها النهي الصريح عن الشرب قائماً ، وبين أنس –رضي الله عنه- أن الأكل كذلك بل هو أشر ، لكن جاءت أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائما :

أولا : عَنْ عَلِيٍّ – رضي الله عنه – : (( أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهْوَ قَائِمٌ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا ، وَإِنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ )) . رواه البخاري برقم (5616) .

ثانياً : عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ : (( أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ صَائِمٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ بِصَائِمٍ . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ )) . رواه البخاري برقم (1661) .

ثالثاً : عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – حَدَّثَهُ قَالَ : ((سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ . قَالَ عَاصِمٌ فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ )) . رواه البخاري برقم (1637) .

رابعاً : عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى عَمْرَةَ عَنْ جَدَّةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا كَبْشَةُ الأَنْصَارِيَّةُ : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ ، فَقَطَعَتْ فَمَ الْقِرْبَةِ تَبْتَغِي بَرَكَةَ مَوْضِعِ فِي رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- )) . صحيح ابن ماجه رقم (2763) .

خامساً : عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال : ((كنا نشرب ونحن قيام ، ونأكل ونحن نمشي على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم )) . السلسلة الصحيحة رقم (3178) .

اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في التوفيق بين هذه الأحاديث ، على مذاهب :

المذهب الأول : ذهب إلى ترجيح أحاديث النهي على الإباحة . قال الإمام الصنعاني في سبل السلام ( 7/42) : ( وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الشُّرْبِ قَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النَّهْيِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ ).

وذهب الإمام ابن حزم إلى التحريم في المحلى مسألة رقم (1107) ، والشيخ الألباني في السلسلة (1/76) ، وغيرهم .

المذهب الثاني : ذهب إلى ترجيح الإباحة على النهي ، وزعم أن أحاديث النهي منسوخة .

المذهب الثالث : ذهب إلى حمل أحاديث النهي على الكراهة ، وهو مذهب الجمهور .

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (16/94) : ( وَسَلَكَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ مَسَالِك :

أَحَدهَا : التَّرْجِيح وَأَنَّ أَحَادِيث الْجَوَاز أَثْبَت مِنْ أَحَادِيث النَّهْي ، وَهَذِهِ طَرِيقَة أَبِي بَكْر الْأَثْرَم ، فَقَالَ : حَدِيث أَنَس – يَعْنِي فِي النَّهْي – جَيِّد الْإِسْنَاد وَلَكِنْ قَدْ جَاءَ عَنْهُ خِلَافه ، يَعْنِي فِي الْجَوَاز ، قَالَ : وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْن الطَّرِيق إِلَيْهِ فِي النَّهْي أَثْبَت مِنْ الطَّرِيق إِلَيْهِ فِي الْجَوَاز أَنْ لَا يَكُون الَّذِي يُقَابِلهُ أَقْوَى لِأَنَّ الثَّبْت قَدْ يَرْوِي مَنْ هُوَ دُونه الشَّيْء فَيُرَجَّح عَلَيْهِ …

الْمَسْلَك الثَّانِي : دَعْوَى النَّسْخ ، وَإِلَيْهَا جَنَحَ الْأَثْرَم وَابْن شَاهِين فَقَرَّرَا عَلَى أَنَّ أَحَادِيث النَّهْي – عَلَى تَقْدِير ثُبُوتهَا – مَنْسُوخَة بِأَحَادِيث الْجَوَاز بِقَرِينَةِ عَمَل الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ وَمُعْظَم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بِالْجَوَازِ ، وَقَدْ عَكَسَ ذَلِكَ اِبْن حَزْم فَادَّعَى نَسْخ أَحَادِيث الْجَوَاز بِأَحَادِيث النَّهْي مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ الْجَوَاز عَلَى وَفْق الْأَصْل وَأَحَادِيث النَّهْي مُقَرِّرَة لِحُكْمِ الشَّرْع . فَمَنْ اِدَّعَى الْجَوَاز بَعْد النَّهْي فَعَلَيْهِ الْبَيَان ، فَإِنَّ النَّسْخ لَا يَثْبُت بِالِاحْتِمَالِ . وَأَجَابَ بَعْضهمْ بِأَنَّ أَحَادِيث الْجَوَاز مُتَأَخِّرَة لِمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع …

الْمَسْلَك الثَّالِث : الْجَمْع بَيْن الْخَبَرَيْنِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيل ، فَقَالَ أَبُو الْفَرَج الثَّقَفِيّ فِي نَصْره الصِّحَاح : وَالْمُرَاد بِالْقِيَامِ هُنَا الْمَشْي ، يُقَال قَامَ فِي الْأَمْر إِذَا مَشَى فِيهِ ، وَقُمْت فِي حَاجَتِي إِذَا سَعَيْت فِيهَا وَقَضَيْتهَا ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : ( إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ) أَيْ مُوَاظِبًا بِالْمَشْيِ عَلَيْهِ . وَجَنَحَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى تَأْوِيل آخَر وَهُوَ حَمْل النَّهْي عَلَى مَنْ لَمْ يُسَمِّ عِنْد شُرْبه ، وَهَذَا إِنْ سَلِمَ لَهُ فِي بَعْض أَلْفَاظ الْأَحَادِيث لَمْ يَسْلَم لَهُ فِي بَقِيَّتهَا . وَسَلَكَ آخَرُونَ فِي الْجَمْع حَمْل أَحَادِيث النَّهْي عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه وَأَحَادِيث الْجَوَاز عَلَى بَيَانه ، وَهِيَ طَرِيقَة الْخَطَّابِيّ وَابْن بَطَّال فِي آخَرِينَ ، وَهَذَا أَحْسَن الْمَسَالِك وَأَسْلَمهَا وَأَبْعَدهَا مِنْ الِاعْتِرَاض ، وَقَدْ أَشَارَ الْأَثْرَم إِلَى ذَلِكَ أَخِيرًا فَقَالَ : إِنْ ثَبَتَتْ الْكَرَاهَة حُمِلَتْ عَلَى الْإِرْشَاد وَالتَّأْدِيب لَا عَلَى التَّحْرِيم ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا ثُمَّ حَرَّمَهُ أَوْ كَانَ حَرَامًا ثُمَّ جَوَّزَهُ لَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَيَانًا وَاضِحًا ، فَلَمَّا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَار بِذَلِكَ جَمَعْنَا بَيْنهَا بِهَذَا .

وَقِيلَ إِنَّ النَّهْي عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَة الطِّبّ مَخَافَة وُقُوع ضَرَر بِهِ ، فَإِنَّ الشُّرْب قَاعِدًا أَمْكَن وَأَبْعَد مِنْ الشَّرَق وَحُصُول الْوَجَع فِي الْكَبِد أَوْ الْحَلْق ، وَكُلّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَأْمَن مِنْهُ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا ) انتهى كلامه –رحمه الله تعالى- مع شيء من الاختصار .

وَقَالَ الْحَافِظ اِبْن الْقَيِّم فِي حَاشِيَة السُّنَن (10/130) : ( وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْب قَائِمًا . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” لَا يَشْرَبَنَّ أَحَد مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيْ” وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ” سَقَيْت رَسُول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَم فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم ” . وَفِي لَفْظ آخَر ” فَحَلَفَ عِكْرِمَة مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا عَلَى بَعِير ” .

فَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث ، فَقَوْم سَلَكُوا بِهَا مَسْلَك النَّسْخ ، وَقَالُوا آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّرْب قَائِمًا كَمَا شَرِبَ فِي حَجَّة الْوَدَاع ، وَقَالَتْ طَائِفَة فِي ثُبُوت النَّسْخ بِذَلِكَ نَظَر ، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ شَرِبَ قَائِمًا لِعُذْرٍ ، وَقَدْ حَلَفَ عِكْرِمَة أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ رَاكِبًا . وَحَدِيث عَلِيّ قِصَّة عَيْن فَلَا عُمُوم لَهَا .

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي عُمَر عَنْ جَدَّته كَبْشَة قَالَتْ : ” دَخَلَ عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْت قِرْبَة مُعَلَّقَة فَشَرِبَ قَائِمًا فَقُمْت إِلَى فِيهَا فَقَطَعْته ” وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث صَحِيح ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ . وَرَوَى أَحْمَد فِي مُسْنَده عَنْ أُمّ سُلَيْمٍ قَالَتْ ” دَخَلَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْت قِرْبَة مُعَلَّقَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا وَهُوَ قَائِم فَقَطَعْت فَاهَا فَإِنَّهُ لَعِنْدِي ” فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوَقَائِع عَلَى أَنَّ الشُّرْب مِنْهَا قَائِمًا كَانَ لِحَاجَةٍ لِكَوْنِ الْقِرْبَةِ مُعَلَّقَة ، وَكَذَلِكَ شُرْبه مِنْ زَمْزَم أَيْضًا لَعَلَّهُ لَمْ يَتَمَكَّن مِنْ الْقُعُود لِضِيقِ الْمَوْضِع أَوْ الزِّحَام وَغَيْرهَا . وَالْجُمْلَة فَالنَّسْخ لَا يَثْبُت بِمِثْلِ ذَلِكَ .

وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عُمَر ” كُنَّا عَلَى عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَأْكُل وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَب وَنَحْنُ قِيَام ” رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد وَابْن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ ، فَلَا يَدُلّ عَلَى النَّسْخ إِلَّا بَعْد ثَلَاثَة أُمُور : مُقَاوَمَتُهُ لِأَحَادِيثِ النَّهْي فِي الصِّحَّة ، وَبُلُوغُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَأَخُّره عَنْ أَحَادِيث النَّهْي ، وَبَعْد ذَلِكَ فَهُوَ حِكَايَة فِعْل لَا عُمُوم لَهَا ، فَإِثْبَات النَّسْخ فِي هَذَا عُسْر) اِنْتَهَى كَلَامه .

وَقَالَ فِي زَاد الْمَعَاد (4/209) : ( وَكَانَ مِنْ هَدْيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّرْب قَاعِدًا . هَذَا كَانَ هَدْيه الْمُعْتَاد . وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الشُّرْب قَائِمًا . وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِي شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيءَ ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا .

قَالَتْ طَائِفَة : هَذَا نَاسِخ لِلنَّهْيِ ، وَقَالَتْ طَائِفَة : بَلْ مُبَيِّن أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ لِلْإِرْشَادِ وَتَرْك الْأَوْلَى . وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا تَعَارُض بَيْنهمَا أَصْلًا ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا شَرِبَ قَائِمًا لِلْحَاجَةِ ، فَإِنَّهُ جَاءَ إِلَى زَمْزَم وَهُمْ يَسْقُونَ مِنْهَا فَاسْتَقَى فَنَاوَلُوهُ الدَّلْو فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم ، هَذَا كَانَ مَوْضِع حَاجَة .

وَلِلشُّرْبِ قَائِمًا آفَات عَدِيدَة ، مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْصُل لَهُ الرِّيّ التَّامّ ، وَلَا يَسْتَقِرّ فِي الْمَعِدَة حَتَّى يَقْسِمهُ الْكَبِد عَلَى الْأَعْضَاء وَيَنْزِل بِسُرْعَةٍ وَحِدَّة إِلَى الْمَعِدَة فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبَرِّد حَرَارَتهَا وَتَشَوُّشهَا وَتُسْرِع النُّفُوذ إِلَى أَسْفَلِ الْبَدَن بِغَيْرِ تَدْرِيج ، وَكُلّ هَذَا يَضُرّ بِالشَّارِبِ ، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ لَمْ يَضُرّهُ ) .انتهى كلامه رحمه الله تعالى .

والراجح من هذا الخلاف –والله أعلم- :

اعلم أن الراجح من هذا الخلاف هو القول بتحريم الشرب قائماً وكذا الأكل إلا من حاجة ، وبهذا تجتمع النصوص ، بأن يقال إن الأحاديث التي جاءت للإباحة إنما هي للحاجة ، وبهذا نعمل بجميع الأدلة ، فَنَمْنَع الشرب والأكل قائما للأدلة المانعة ، ونجوزه للحاجة للأدلة المجوزة ، وهذا ظاهر كلام ابن القيم المتقدم ، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى – فإنه قال في مجموع الفتاوى (32/209) : (وأما الشرب قائماً فقد جاءت أحاديث صحيحة بالنهي وأحاديث صحيحة بالرخصة ، ولهذا تنازع العلماء فيه ، وذكر فيه روايتان عن أحمد ، ولكن الجمع بين الأحاديث أن تحمل الرخصة على حال العذر ، فأحاديث النهي مثلها في الصحيح أن النبي نهى عن الشرب قائما ، وفيه عن قتادة عن أنس : أن النبي زجر عن الشرب قائما ، قال قتادة : فقلنا الأكل ، فقال : ذاك شر وأخبث . وأحاديث الرخصة مثل حديث ما في الصحيحين عن علي وابن عباس قال : شرب النبي صلى الله عليه و سلم قائماً من زمزم ، … فيكون هذا ونحوه مستثنى من ذلك النهي ، وهذا جار عن أحوال الشريعة أن المنهي عنه يباح عند الحاجة ، بل ما هو أشد من هذا يباح عند الحاجة ، بل المحرمات التي حرم أكلها وشربها كالميتة والدم تباح للضرورة ، وأما ما حرم مباشرته طاهرا كالذهب والحرير فيباح للحاجة ، وهذا النهي عن صفة في الأكل والشرب فهذا دون النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة وعن لباس الذهب والحرير إذ ذاك قد جاء فيه وعيد ومع هذا فهو مباح للحاجة فهذا أولى . والله أعلم ) .

واعلم أنه لا يصح حمل النهي على الكراهة لما يأتي :

أولا : أن أحاديث النهي فيها الزجر الشديد عن الشرب قائماً ، فكيف يحمل هذا الزجر على الكراهة .

ثانياً : الأمر بالاستقاء كعقاب لمن شرب قائماً ، فيه كلفه ومشقة شديدة ، فلا يتصور أن يؤمر بالاستقاء من فعل مكروه ، بل من فعل ما هو إثم .

ثالثاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الَهِرُّ )) . وهذا لا يرضاه عاقل ، فمن يرضى أن يشرب معه الهر ، ونحن نعلم ما في فيّ الهر من جراثيم وغيرها ، أَبَعْد هذا التنفير الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم يقال بأن الشرب قائماً مكروه ؟!

رابعاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ )) ، أن الشرب قائما وسيلة لشرب الشيطان مع الإنسان ، ونحن نعلم أن عدو الله تعالى نهينا عن أن نتبع خطواته ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } (البقرة168) ، وهذا النهي للتحريم ، لأنه لنا عدو مبين ، فكيف بالشرب معه !! فإن الشيطان يشرب مع من يشرب وهو قائم ، وماذا نتصور أن يحصل لمن اعتاد أن يشرب الشيطان معه ؟! هل بعد هذا يصح أن يقال إن الشرب قائماً مكروه فقط؟!

خامساً : أن الشرب قائماً فيه ضرر لا محالة ولهذا نهانا الشارع عنه ، سواء أكان هذا الضرر دينياً كما سبق من شرب الشيطان مع من يشرب قائما ، أو دنيوياً كما قال بعض أهل العلم ، قال الحافظ : ( وَقِيلَ إِنَّ النَّهْي عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَة الطِّبّ مَخَافَة وُقُوع ضَرَر بِهِ ، فَإِنَّ الشُّرْب قَاعِدًا أَمْكَن وَأَبْعَد مِنْ الشَّرَق وَحُصُول الْوَجَع فِي الْكَبِد أَوْ الْحَلْق ، وَكُلّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَأْمَن مِنْهُ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا ) سبق . وقال ابن القيم : (وَلِلشُّرْبِ قَائِمًا آفَات عَدِيدَة ، مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْصُل لَهُ الرِّيّ التَّامّ ، وَلَا يَسْتَقِرّ فِي الْمَعِدَة حَتَّى يَقْسِمهُ الْكَبِد عَلَى الْأَعْضَاء وَيَنْزِل بِسُرْعَةٍ وَحِدَّة إِلَى الْمَعِدَة فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبَرِّد حَرَارَتهَا وَتَشَوُّشهَا وَتُسْرِع النُّفُوذ إِلَى أَسْفَلِ الْبَدَن بِغَيْرِ تَدْرِيج ، وَكُلّ هَذَا يَضُرّ بِالشَّارِبِ ، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ لَمْ يَضُرّهُ ) سبق .

والضرر منهي عنه في شرعنا في نصوص كثير من القرآن والسنة ، وهو محرم ، فإذا كان في الشرب قائماً ضرر فإنه يكون محرماً ، ولا يصح حمله على الكراهة .

سابعاً : أن أحاديث الإباحة يمكن توجيهها وهي ليست صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما لغير حاجة ، بخلاف أحاديث النهي ، وإليك البيان :

أما حديث علي -رضي الله عنه- فهو فهم منه -رضي الله عنه- وخالفه آخرون فإنه : (قَالَ : إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا) ، وهو يحكي حكاية حال عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا عموم لها ، فربما شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما لحاجة ، وهذا هو الظاهر من هديه صلى الله عليه وسلم مع نهيه ، ثم إن علياً رضي الله عنه ، لعله لم يبله حديث النهي لأنه بين أن أناسا يكرهون ، ولا يتصور أن يقول ذلك مع علمه أن الذي نهى عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما حديث أم الفضل رضي الله عنها فلا حجة فيه على جواز الشرب قائماً ، لأنها قالت : ((وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ )) ، وكذلك حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- فلا حجة فيه على جواز الشرب قائماً لأنه قال : ((سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ . قَالَ عَاصِمٌ فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ )) .

فالوقوف على البعير هو جلوس في الحقيقة ، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : (لَا حُجَّة فِي هَذَا عَلَى الشُّرْب قَائِمًا ، لِأَنَّ الرَّاكِب عَلَى الْبَعِير قَاعِد غَيْر قَائِم ) فتح الباري (16/96).

ولو سلمنا جدلا أنه كان قائماً فإنه فعل ذلك لحاجة وهي كثرة الزحام ، وكذلك أحب أن يرى الناس فعله ، ونحن لا نمنع من الشرب قائماً لحاجة كما سبق .

وأما حديث كبشة الأنصارية –رضي الله عنها- فلا حجة فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائما لحاجة وهي أن القربة معلقة ، وبحثنا في الشرب قائما من غير حاجة .

ولو سلمنا جدلا أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائماً من غير حاجة فإن الله تعالى يعصمه من أن يشرب الشيطان معه ومن الضرر ، ولهذا كانت بعض الأفعال خاصة به صلى الله عليه وسلم كالوصال –مواصلة الصوم- مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن ذلك .

وأما حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- فهو يحكي أنهم كانوا يشربون وهم قيام ، مع أن هذا الحديث جاء كأثر موقوف عن ابن أبي شيبة رقم (4167) بإسناد حسن قال : (إني أشرب وأنا قائم ، وآكل وأنا أمشي ) . فهذا اجتهاد من –رضي الله عنه- فلعله لم يبلغه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم هو ومن نقل عنهم هذا الفعل بقوله (كنا) ، وهذا الذي يغلب على الظن لأن ابن عمر رضي الله عنهما من أشد الناس إتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وكذا اجتناب نهيه ، وكذلك بقية الصحابة ، فلا بدّ من الاستدلال به هنا أن نعلم فعلهم هذا متأخر عن أحاديث النهي ، وأنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لوجود النصوص الصريحة المانعة ، ويحتمل أنه يريد أنهم كانوا يفعلون ذلك لحاجة ، للجمع بين النهي الشديد وبين فعلهم هذا ، وعلى كلّ لا يعارض بهذا الفعل وكذا فعل بعض الصحابة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصريحة في النهي مع وجود المخالف من الصحابة ، فلعل من شرب قائما لم يبلغه النهي ، ومن علم حجة على من لا يعلم . والله أعلم .

هذا ما تيسر جمعه ، فإن أصبت فمن الله تعالى وحده ، وإن كانت الأخرى فمني ومن الشيطان فأستغفر الله تعالى وأتوب إليه .

والله تعالى أعلى وأعلم .

إحياء السنن المهجورة من علامات الطائفة المنصورة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وبعد :

فإن إتباع هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه النجاة في الدنيا والآخرة ، وفي تركه الهلاك ، قال تعالى : {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (النور 54) ، وقال تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }(الحشر7) ، وقال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (آل عمران31) ، وقال سبحانه : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (الأنبياء107) ، وقال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } (الأحزاب36) ، وقال تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور63) .

وعَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُنَادِيهِمْ : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ )). السلسلة الصحيحة رقم (490) .

ولقد أصبحت كثير من سنن النبي صلى الله عليه وسلم مهجورة بل ربما يظن بعض المسلمين ممن لا علم لديه أن السنة بدعة والبدعة سنة ، وما ذاك إلا للجهل بسنن النبي صلى الله عليه وسلم ، وللغربة التي تمر بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر صلى الله عليه وسلم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (( بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ )) . رواه مسلم برقم (389) ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ –رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : (( إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا )) . رواه مسلم برقم (390) ، قال الإمام النووي في شرح مسلم (1/270) : (قَالَ : أَبُو الْحُسَيْن بْن سَرَّاج : ( لَيَأْرُز ) بِضَمِّ الرَّاء وَحَكَى الْقَابِسِيّ فَتْح الرَّاء وَمَعْنَاهُ يَنْضَمّ وَيَجْتَمِع . هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب . وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ غَيْر هَذَا مِمَّا لَا يَظْهَر .

وَقَوْله صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْن الْمَسْجِدَيْنِ ) أَيْ مَسْجِدَيْ مَكَّة وَالْمَدِينَة . وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَه : فِي قَوْله : ( غَرِيبًا ) رَوَى اِبْن أَبِي أُوَيْس عَنْ مَالِك -رَحِمَهُ اللَه – أَنَّ مَعْنَاهُ فِي الْمَدِينَة وَأَنَّ الْإِسْلَام بَدَأَ بِهَا غَرِيبًا وَسَيَعُودُ إِلَيْهَا . قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِر الْحَدِيث الْعُمُوم وَأَنَّ الْإِسْلَام بَدَأَ فِي آحَاد مِنْ النَّاس وَقِلَّة ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالْإِخْلَال حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ) انتهى .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الإسلام بدأ غريبا و سيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء . قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس )) . السلسلة الصحيحة رقم (1273) .

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : (ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن) . أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10 / 319 ). قال الهيثمي : رجاله موثوقون . مجمع الزوائد ( 1 / 188) .

وعن عبد الله بن المبارك – رحمه الله- قال : (اعْلَمْ- أي أَخي- أَن الموتَ اليومَ كرامة لكلِّ مسلم لقيَ اللهَ عَلى السنة ، فإنا للّه وإِنَّا إِليه راجعون ؛ فإِلَى اللهِ نَشكو وَحْشتَنا ، وذهابَ الإِخوان ، وقلةَ الأعوانِ ، وظهورَ البدع ، وإِلى الله نَشكو عَظيمَ ما حل بهذهِ الأمةِ من ذهاب العلماء ، وأَهل السنة ، وظُهور البدع) . البدع والنهي عنها لابن الوضاح ص (97) .

وكان الأعمش يقول : (لا أعلم لله قوما أفضل من قوم يطلبون الحديث ، ويحيون هذه السنة ، كم أنتم في الناس ؟! لأنتم أقل من الذهب ) . ذم الكلام رقم (963) .

لهذا كلّه أحببت أن أكتب في هذه المقالات إن شاء الله تعالى عن سنن هجرها كثير من الناس وسيكون عنوان هذه المقالات سلسلة إحياء السنن المهجورة من علامات الطائفة المنصورة ، فعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : (( لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ )) ، رواه البخاري ، سائلين المولى جل في علاه أن يجعلنا ممن قال فيهم : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } (العنكبوت69) ، وممن قال فيهم رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ )) . رواه مسلم برقم (2398) .

وسنجعل الكلام على هذه السنن متتابعاً إن شاء الله تعالى ، وسأتكلم في كلّ مقالة على سنة واحدة فقط ، سواء كانت في الصلاة أو الوضوء أو الطعام والشراب أو غيرها ، أسأل الله تعالى أن يرد جميع المسلمين إلى دينه رداً جميلا ، وأن نحقق الشرط المذكور في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (محمد7) ، فيتحقق لهذه الأمة النصر والعزة على أعدائها ، فنصر الله تعالى يكون بإتباع أوامره واجتناب نواهيه ، والله أعلم .