المرسل الخفي

النوع الثاني من أنواع السقط الخفي : المرسل الخفي :

لا زال الكلام على الحديث الضعيف ولا زال الكلام على المسلك الأول وهو انقطاع السند وانتهينا من القسم الأول وهو السقط الظاهر ثم شرعنا في القسم الثاني وهو السقط الخفي وانتهينا من النوع الأول وهو الحديث المدلس ونشرع الآن في النوع الثاني وهو المرسل الخفي :

المسألة الأولى : تعريفه :

المرسل الخفي : هو أن يروي الراوي عمَّن عاصره ولم يلقه موهماً أنه سمعه منه([1]) .

مثاله :

قال الإمام أحمد : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ ، وَإِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ قَالَ : أَخْبَرَنَا الدَّسْتُوَائِيُّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ قَالَ : أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ ))([2]) .

هذا الحديث إسناده ضعيف([3]) لأن يحيى بن أبي كثير عاصر أنساً -رضي الله عنه- لكن لم يسمع منه شيئاً ، فالحديث مرسل وهو من الإرسال الخفي ، قال الحافظ ابن حجر([4]) : (يحيى بن أبي كثير الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل ) وقال([5]) : (روى عن أنس وقد رآه … وقال أبو حاتم : يحيى إمام لا يحدث إلا عن ثقة وروى عن أنس مرسلا وقد رأى أنسا يصلي في المسجد الحرام رؤية ولم يسمع منه … قال عمرو بن علي : مات سنة تسع وعشرين ومائة وقال غيره : مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة ) .

فروايته عن أنس –رضي الله عنه- بالعنعنة من قبيل الإرسال الخفي وإن كان بعضهم يرها من قبيل التدليس لأن يحيى بن أبي كثير وصف بالتدليس لكن على التعريف المختار للإرسال الخفي  تكون روايته عن أنس –رضي الله عنه- من المرسل الخفي أما لو روى عن غيره بالعنعنة ممن عاصره وسمع منه فهو من باب التدليس ، كما سيأتي تفصيله في المسألة الثالثة . والله أعلم .

المسألة الثانية : الفرق بين المرسل الخفي والمرسل الظاهر :

سبق أن المرسل الظاهر هو ما أضافه التابعي إلى النبي ﷺ مما سمعه من غيره ، أما المرسل الخفي فهو هو أن يروي الراوي عمَّن عاصره ولم يلقه موهماً أنه سمعه منه ، فالفرق بينها فيما يأتي :

أولا : أن المرسل الظاهر فيه عدم المعاصرة والإدراك بين المرسل والمرسل عنه ظاهرة فاللقاء مستحيل بينهما بخلاف المرسل الخفي ، فإن المعاصرة موجودة بينهما ، واللقاء بينهما ممكن ومن هنا جاء الخفاء ، لكن بعد البحث يتبين أنه عاصره دون لقاء .

ثانياً : أن المرسل الظاهر ما أضافه التابعي إلى النبي ﷺ ، أما المرسل الخفي فهو ما أضافه الراوي إلى من عاصره فهو يشمل ما أضيف إلى النبي ﷺ أو دونه .

ثالثاً : أن المرسل الظاهر هو ما أضافه التابعي ، أما المرسل الخفي فيشمل ما أضافه التابعي أو غيره عن من عاصره فيكون الانقطاع في أي موضع من السند بين راويين متعاصرين لم يلتقيا .

المسألة الثالثة : الفرق بين المرسل الخفي وتدليس الإسناد :

المرسل الخفي فيه شبه بالتدليس لخفاء السقط في كل منهما مع الإيهام بالسماع ، إلا أن هناك فرقا بينهما ، وهو أن تدليس الإسناد أن يروي الراوي عمّن عاصره وسمع منه ما لم  يسمع منه موهماً أنه سمعه منه ، فالتدليس فيه لُقيا وسماع ، ولكن هذه الرواية لم يسمعها من شيخه ، أما المرسل الخفي ففيه معاصرة لكن ليس فيه لُقيا ولا سماع مطلقاً ، كما سبق في رواية يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- فإن يحيى بن أبي كثير عاصر أنساً -رضي الله عنه- لكن لم يسمع منه شيئاً .

المسألة الرابعة : ما يعرف به المرسل الخفي :

سبق أن المرسل الخفي فيه معاصرة مع عدم ملاقاة ، وذلك يعرف بما يأتي :

أولا : أن يخبر الراوي المُرسِل أنه عاصر فلان لكنه لم يلقه ، أو يخبر أنه لم يلق فلاناً .

ثانياً : أن يجزم بذلك أمام مطلع ، فيجزم أن فلانا لم يلق فلانا ، مع وجود المعاصرة بينهما .

 

  ([1])ينظر : شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (423) ، شرح ألفية السيوطي الأثيوبي (1/184) ، النكت على ابن الصلاح لابن حجر (2/623) ، والتقييد والإيضاح ص (249) ، الباعث الحثيث (1/175) ، وكفاية الحفظة ص (230) ، فتح الباقي ص (142) ، فتح المغيث (4/70) ، وتدريب الراوي (2/205) .

  ([2])رواه الإمام أحمد في المسند (19/215) رقم الحديث (12177) .

  ([3])هذا الإسناد ضعيف إلا أن الحديث صحيح ثابت فقد رواه أبو داود قال : حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ جَاءَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ ، فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ ﷺ : (( أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ )) وهذا سند صحيح .

  ([4])تقريب التهذيب رقم الترجمة (7632)  .

  ([5])تهذيب التهذيب (11/235) رقم الترجمة (440) .

الحديث المدلس

القسم الثاني : السقط الخفي :

مازال الكلام على المسلك الأول من مسالك ضعف الحديث وهو انقطاع السند ، وتكلمت على القسم الأول وهو السقط الظاهر ، وبينت أنواعه ، وسأتكلم هنا على القسم الثاني وهو السقط الخفي .

المسألة الأولى : تعريفه :

هو السقط الذي لا يدركه إلا الأئمة الحذاق المطلعون على طرق الحديث ، وعلل الأسانيد([1]) .

المسألة الثانية : أنواعه :

يتنوع السقط الخفي إلى نوعين :

النوع الأول : المدلس([2]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

المُدَلَّس لغة([3]) : اسم مفعول مشتق من الدَلَس  وهو الظُّلْمَة  ، كالدُّلْسَةِ ، بالضّمّ . وفلان لا يُدالِسُ ولا يُوالِسُ أَي لا يُخادِعُ ولا يَغْدُِرُ والمُدالَسَة المُخادَعَة ، وفلان لا يُدالِسُك ولا يخادِعُك ولا يُخْفِي عليك الشيء فكأَنه يأْتيك به في الظلام ، والتَّدْلِيسُ في البيع كِتْمانُ عيب السِّلْعَة .

المدلس اصطلاحا : لم أجد تعريفا جامعا مانعا لكل أقسام التدليس ، ولعل أقربها هو : إخفاء عيب في الإسناد أو في الصيغة الإسنادية ، أو قل : ما أخفي عيبه على وجه يوهم أنه لا عيب فيه([4]) .

فائدة :

المدلس غير الكذاب ، لأن المدلس قد يكون ثقة كما سيأتي لكنه يدلس ، وحديثه يقبل إذا صرح بالتحديث كما سيأتي بخلاف الكذاب ، بل قد يقبل تدليسه حتى مع العنعنة إذا كان لم يوصف بذلك إلا نادرا كيحيى بن سعيد الأنصاري ، ونحو ذلك مما يذكر في طبقات المدلسين ، فالمدلس قد يدلس عن ثقة وقد يدلس عن ضعيف أو كذاب يريد علو الإسناد أو غيره .

المسألة الثانية : أقسام التدليس :

ينقسم التدليس إلى ستة أقسام :

القسم الأول : تدليس الإسناد([5]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

هو أن يروي المحدث عمن لقيه ما لم يسمع منه موهماً أنه سمع منه ، كأن يقول : (قال فلان ، أو عن فلان ، أو أن فلانا قال أو فعل كذا ) ونحو هذا .

وعليه لتصور معنى تدليس الإسناد لا بد من معرفة حال الراوي عمن يروي عنه :

الأولى : السماع .

الثانية : اللقاء .

الثالثة : المعاصرة .

الرابعة : عدم المعاصرة ، ومن باب أولى عدم اللقاء والسماع .

وعليه فالصور كما يأتي :

الصورة الأولى : أن يروي المحدث عمن سمع منه حديثا لم يسمعه منه بصيغة موهمة للسماع فهذا تدليس بلا خلاف .

الصورة الثانية : أن يروي المحدث عمن لقيه حديثا لم يسمعه منه بصيغة موهمة للسماع وهذا تدليس كذلك .

الصورة الثالثة : أن يروي المحدث عمن عاصره  فقط بصيغة موهمة للسماع ، وهذا على رأي ابن الصلاح تدليس ، والصواب أنه مرسل خفي لا تدليس كما سيأتي في النوع الثاني من أنواع السقط الخفي .

قال الحافظ ابن حجر([6]) : (وممن قال باشتراطِ اللقاء في التدليس الإمامُ الشافعي ، وأبو بكر البزار ، وكلامُ الخطيب في الكفاية يقتضيه ، وهو المُعْتَمَدُ) .

الصورة الرابعة : أن يروي المحدث عمن لم يعاصره بصيغة موهمة للسماع ، وعد هذا بعضهم تدليساً والصحيح أنه انقطاع ظاهر وليس تدليساً .

مثال تدليس الإسناد :

عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ : الزُّهْرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : حَدَّثَكُمُ الزُّهْرِيُّ؟ فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : الزُّهْرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : سَمِعْتَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ؟ فَقَالَ : لَا ، لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ، وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ([7]) .

فسفيان ابن عيينة قد دلس في الإسناد الأول طلبا لعلو الإسناد كما يظهر من الإسناد الثاني ، قال الحافظ ابن حجر([8]) : (سفيان بن عيينة الهلالي الكوفي ثم المكي الإمام المشهور ، فقيه الحجاز في زمانه كان يدلس لكن لا يدلس إلا عن ثقة  ) .

مثال آخر : قال الإمام أحمد([9]) : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ )) .

هذا الحديث إسناده ضعيف ، فإن حبيب بن ثابت مدلس ، وقد عنعنه ، وفيه عِلة أخرى وهي الشذوذ – فالمتن منكر- ، فقد روى غير واحد عن ابن عباس أنها أربع ركعات وأربع سجدات .

قال الحافظ ابن حجر([10]) : (حبيب بن أبي ثابت الكوفي ، تابعي مشهور ، يكثر التدليس ، وصفه بذلك ابن خزيمة ، والدارقطني ، وغيرهما ، ونقل أبو بكر بن عياش عن الأعمش عنه أنه كان يقول : لو أن رجلا حدثني عنك ما باليت أن رويته عنك يعني وأسقطته من الوسط) .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس الإسناد :

تدليس الإسناد لا يقبل معه الحديث حتى يصرح المُدَلِس – إذا كان ثقة أو صدوقاً -بالتحديث بينه وبين من روى عنه ، إلا إذا كان لا يدلس إلا عن الثقة أو كان الراوي عنه كفانا تدليسه كما سيأتي تفصيله في حكم التدليس وطبقات المدلسين .

القسم الثاني : تدليس التسوية([11]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

هو أن يروي المدلس حديثاً سمعه من شيخه ، وشيخه سمع الحديث عن رجل ضعيف أو مجهول أو مجروح عن شيخ ثقة ، وشيخ المدلس سمع من الرجل الضعيف وعن الشيخ الثقة كليهما أو عاصرهما ، لكنه لم يسمع هذا الحديث الذي رواه المدلس عن الشيخ الثقة إنما بواسطة هذا الرجل الضعيف ، فيعمد المدلس إلى إسقاط الرجل الضعيف ويرويه مباشرة عن شيخه عن الشيخ الثقة ، فيظهر الحديث على أنه صحيح .

وهذا التدليس قد يكون في شيخ شيخ المدلس ، وقد يكون في الطبقة الأعلى فيعمد المدلس إلى إسقاط الضعيف حتى في الطبقة العليا إذا كان الساقط بين شيخين أدرك أحدهما الآخر أو سمع منه ، وهكذا في بقية الطبقات ، ولهذا لا بد مع هذا النوع من التدليس أن يصرح بالتحديث في جميع طبقات السند بعد المدلس ، بمعنى أنه لا بد أن يصرح المدلس بالتحديث بينه وبين شيخه ، وبين شيخه وشيخ شيخه ، وهكذا في بقية طبقات السند .

وسمي هذا النوع من التدليس تدليس التسوية ؛ لأن المدلس يسقط المجروح من الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله كلهم ثقات .

وكان بعض المحدثين يسميه (تجويداً) لأن المدلس يبقي جيد رواته ويحذف المجروح ، قال السخاوي([12]) : (وبالتسوية سماه أبو الحسن من القطان فمن بعده فقال : سواه فلان  . وأما القدماء فسموه تجويدا حيث قالوا : جوده فلان ) .

مثاله :

المثال الأول : روى ابن عساكر([13]) : من طريق أبي بكر عبد الله بن خيثمة بن سليمان الأطرابلسي حدثني أبوعبد الملك أحمد بن جرير بن عبدوس بصور نا موسى بن أيوب النصيبي نا الوليد بن مسلم نا بكير بن معروف الأزدي عن أبان وقتادة عن أبي أمامة الباهلي قال : قال النبي ﷺ : (( أبعدُ الخلق من اللهِ رَجُلَانِ ، رجلٌ يجالسُ الأمراءَ فما قالوا من جُوْرٍ صَدَّقَهُم عليه ، ومُعَلِّمُ الصِّبيانِ لا يُواسي بينهم ولا يُراقب اللهَ في اليَتِيم ))([14]) .

هذا الحديث في إسناده الوليد بن مسلم وقد صرح بالتحديث بينه وبين شيخه بكير ولم يصرح بالتحديث بين شيخه بكير وبين شيخه أبان بل رواه بينهما بالعنعنة ، فإسناد الحديث ضعيف ، والحديث منكر ، وفيه علل أخرى ، لكن الذي يهمنا هنا هو تدليس الوليد بن مسلم .

المثال الثاني : قال السراج([15]) : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللهِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ ، ثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ : ثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ : حَدَّثَني عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبيِّ ﷺ قالَ : (( لَمَّا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عليه السلامُ ؛ خُيِّرَ بِبَنِيهِ ، فَجَعَلَ يَرَى فَضَائِلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَرَآى نُوراً سَاطِعاً فِي أَسْفَلِهِمْ فَقَالَ : يَا رَبِّ ! مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا ابْنُكَ أَحْمَدُ ، هُوَ أَوَّلٌ ، وَهو آخَرٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ شَافِعٍ )) .

هذا الحديث إسناد رجاله ثقات غير مبارك بن فضالة فإنه صدوق وكان يدلس تدليس التسوية ، وقد صرح بالتحديث بينه وبين شيخه عبيد الله بن عمر ولم يصرح بالتحديث في بقية السند فالإسناد ضعيف .

المسألة الثانية : ممن كان يدلس تدليس التسوية :

عرف بعض الرواة بتدليس التسوية فممن عرف بذلك :

أولا : الوليد بن مسلم . قال الحافظ بن حجر ([16]) : (الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية من الثامنة مات آخر سنة أربع أو أول سنة خمس وتسعين ) .

وقال الذهبي([17]) : (وكان الوليد مَعَ حفظه وثقته قبيح التدليس ، يحملُ عَنْ أُناسٍ كذّابين وتلقى عَنِ ابن جُرَيج وغيره ، ثمّ يُسْقِط الَّذِي سمع منه ويقول : عَنِ ابن جُرَيج .

قَالَ أبو مُسْهِر : كَانَ الوليد يأخذ مِن ابن أَبِي السَّفَر حديث الأوزاعيّ ، وكان ابن أَبِي السفر كذّابًا ، وهو يَقُولُ فيها : قَالَ الأوزاعيّ .

قَالَ صالح جَزرة : سَمِعْتُ الهيثم بْن خارجة يَقُولُ : قلت للوليد : قد أفسدتَ حديث الأوزاعيّ . قَالَ : وكيف؟ قلت : تروي عَنِ الأوزاعي عَنْ نافع ، وعن الأوزاعيّ عَنِ الزُّهْرِيّ ، وَعَنْهُ : عَنْ يحيى، وغيرك يُدخل بين الأوزاعيّ ونافع عَبْد الله بْن عامر الأسلميّ، وبينه وبين الزُّهْرِيّ قرة وغيره ، فما يحملك عَلَى هذا ؟ قَالَ : أُنْبلُ الأوزاعيّ أن يروي عَنْ مثل هَؤلاءِ . قلت : فإذا روى الأوزاعيّ عَنْ هَؤلاءِ الضُّعفاء مناكير ، فأسقطتهم أنتَ وصيّرتها مِن رواية الأوزاعيّ عَنِ الثقات ضعف الأوزاعيّ . فلم يلتفت إلى قولي ) .

ثانياً : مبارك بن فضالة . قال الحافظ بن حجر ([18]) : (مبارك بن فضالة بفتح الفاء وتخفيف المعجمة أبو فضالة البصري صدوق يدلس ويسوي من السادسة مات سنة ست وستين على الصحيح) .

وقال الذهبي([19]) : ( قال أبو داود شديد التدليس فإذا قال حدثنا فهو ثبت … وقال ابن معين قدري وقال أحمد أيضا : يقول في غير حديث عن الحسن حدثنا عمران بن حصين وأصحاب الحسن لا يقولون ذلك . وقال أبو زرعة يدلس كثيرا فإذا قال حدثنا فهو ثقة … ) .

ثالثاً : محمد بن مصفى . قال الحافظ بن حجر([20]) : (محمد بن مصفى بن بهلول الحمصي القرشي صدوق له أوهام وكان يدلس من العاشرة مات سنة ست وأربعين ) . وقال([21])  : ( وقد تقدم في ترجمة صفوان بن صالح قول أبي زرعة الدمشقي أن محمد بن مصفى كان ممن يدلس تدليس التسوية )([22]) .

رابعاً : صفوان بن صالح بن صفوان . قال الحافظ بن حجر([23]) : ( صفوان بن صالح بن صفوان الثقفي مولاهم أبو عبد الملك الدمشقي ثقة ، وكان يدلس تدليس التسوية قاله أبو زرعة الدمشقي . من العاشرة مات سنة ثمان أو سبع أو تسع وثلاثين وله سبعون سنة ) .

خامساً : بقية بن الوليد . عرف واشتهر بتدليس الشويخ  ، قال الحافظ بن حجر([24]) : ( بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو يحمد بضم التحتانية وسكون المهملة وكسر الميم صدوق كثير التدليس عن الضعفاء من الثامنة مات سنة سبع وتسعين وله سبع وثمانون) .

وقد اتهمه بعض العلماء بتدليس التسوية ، واكتفى أكثرهم بتدليسه للشيوخ ، قال الشيخ الألباني([25]) : (إن بقية بن الوليد قد اتهم بالتدليس في هذا الحديث تدليس التسوية ؛ فقد قال ابن أبي حاتم في العلل أيضاً ( 2 / 154 ) : سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه عن بقية قال : حدثني أبو وهب الأسدي قال : حدثنا نافع عن ابن عمر [ عن النبي ﷺ قال ] : (( لا تحمدوا إسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة رأيه )) . قال أبي : [هذا الحديث له علة قل من يفهمه ] : رواه عبيد الله بن عَمرو عن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ . وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب ، وهو أسدي ، فكأن بقية كنى عبيد الله بن عمرو ونسبه إلى بني أسد ؛ لكيلا يفطن له ، حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدى له ، وكان بقية من أفعل الناس لهذا .

وأما ما قال إسحاق في روايته عن بقية عن أبي وهب : ” حدثنا نافع ” ؛ فهو وهم ، غير أن وجهه عندي أن إسحاق لعله حفظ عن بقية هذا الحديث ، ولم يفطن لما عمل بقية من تركه إسحاق من الوسط وتكنيته عبيد الله بن عمرو ، فلم يتفقد لفظة بقية في قوله : ” حدثنا نافع ” أو : ” عن نافع ” .

قلت : يتلخص من كلامه أمران :

1 – أن بقية كان يدلس الشيوخ والأسماء .

2 – اتهامه بأنه كان يدلس تدليس التسوية ، كالوليد بن مسلم .

أما الأول ؛ فهو من المسالم به ؛ فقد ذكر ذلك عنه كثير ممن ترجم له من الأئمة ، القدامى منهم والمحدَثين ؛ لكن في شيوخه ، وليس في شيوخهم ، منهم الحافظ يعقوب الفسوي ؛ فقال في ” المعرفة والتاريخ ” ( 2 / 424 ) : (وبقية يقارب إسماعيل والوليد في حديث الشاميين ، وهو ثقة إذا حدث عن ثقة ، فحديثه يقوم مقام الحجة ، يذكر بحفظ ، إلا أنه يشتهي المُلَح والطرائف من الحديث ، ويروي عن شيوخ فيهم ضعف ، وكان يشتهي الحديث ، فيكني الضعيف المعروف بالاسم ، ويسمي المعروف بالكنية باسمه . وسمعت إسحاق بن راهويه قال : قال ابن المبارك : أعياني بقية ! كان يكني الأسامي ، ويسمي الكنى ، قال : حدثني أبو سعيد الوحاظي ، فإذا هو عبد القدوس) .

وقد قال أهل العلم : بقية إذا لم يُسَمِ الذي يروي عنه وكناه ؛ فلا يسوى حديثه شيئا . ورواه عنه الخطيب في تاريخ بغداد ( 7 / 124 ) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ( 10 / 208 – 209 ، 212 – 213 ) ، وتجد عندهما روايات أخرى في ذلك عن ابن معين وغيره .

وأما الآخر – وهو اتهامه بأنه كان يدلس تدليس التسوية – ؛ فما أعتقد أن ذلك صح عنه ، وذلك لأمور :

أولاً : أن استدلال أبي حاتم برواية إسحاق بن راهويه عن بقية – إن كانت محفوظة – لا تنهض بذلك ؛ لأن فيها تصريح أبي وهب – شيخ بقية – بالتحديث عن نافع ، وكذلك صرح بقية بالتحديث عن أبي وهب ، فهي رواية مسلسلة بالتحديث ، فأين التدليس المدَّعى ؟ ! والمدلس إذا أسقط من الإسناد راوياً – سواء كان شيخه أو شيخ شيخه – ؛ رواه بصيغة توهم السماع ؛ كأن يقيل : قال فلان ، أو : عن فلان ، ونحوه . فلو قال مكان ذلك : سمعت ، أو : حدثني ، أو نحو ذلك مما هو صريح في الاتصال ؛ كان كذباً ، وسقطت به عدالته ، وبقية صدوقاً اتفاقاً ، وقد قال أبو زمعة : (ما لبقية عيب إلا كثرة روايته عن المجهولين ، فأما الصدق فلا يؤتى من الصدق ، وإذا حدث عن الثقات فهو ثقة ) ؛ كما رواه عنه ابن أبي حاتم ( 1 / 1 / 435 ) ، وتقدم نحوه عن يعقوب الفسوي .

ولذلك ؛ اضطر أبو حاتم إلى توهيم الإمام إسحاق بن راهويه في الإسناد : حدثنا نافع ؛ لتصوره الانقطاع بين أبي وهب ونافع ؛ الناتج من إسقاط بقية لابن أبي فروة من بينهما ! وإذا جاز مثل هذا التوهيم منه ، أفلا يجوز لغيره أن يقول :

لعل الإسقاط المذكور كان من أبي حاتم مجرد دعوى ؛ فإن بقية قد ذكر ابن أبي فروة في إسناد الحديث كما تقدم في رواية موسى بن سليمان ، على ما فيها من الكلام الذي سبق بيانه ؟ ! وعلى افتراض سقوطه في رواية ابن راهويه عن بقية ؛ فليس هناك دليل على أنه كان مقصوداً من بقية ، فيمكن أن يكون وهما منه كما تقدم مثله في أول هذا التخريج من منصور بن صقير ، وذلك لا يبرر اتهامه بتدليس التسوية كما لا يخفى على الناقد البصير بهذا الفن الشريف ، بل ويمكن أن يكون الإسقاط المدعى من غير بقية ؛ فقد أشار إلى ذلك الحافظ في النكت على ابن الصلاح ، فقال ( 2 / 622 ) :  تنبيه آخر : ( ذكر شيخنا ممن عرف بالتسوية جماعة ، وفاته أن ابن حبان قال في ترجمة بقية : إن أصحابه كانوا يسوون حديثه .

قلت : ذكر ذلك ابن حبان في الضعفاء ( 1 / 200 – 201 ) بعد أن صرح بأن بقية كان مدلساً يسقط الضعفاء من شيوخه بينه وبين شيوخهم الثقات ، فقال : فرأيته ثقةً مأموناً ، ولكنه كان مدلساً ؛ سمع من عبيد الله بن عمرو وشعبة ومالك أحاديث يسيرة مستقيمة ، ثم سمع عن أقوام متروكين عن عبيد الله بن عمر وشعبة ومالك ؛ مثل المجامع بن عمرو ، والسري بن عبد الحميد ، وعمر بن موسى المَيتمي وأشباههم ، وأقوام لا يعرفون إلا بالكنى ، فروى عن أولئك الثقات الذين رآهم بالتدليس ما سمع من هؤلاء الضعفاء ، وكان يقول : قال عبيد الله بن عمر عن نافع ، وقال مالك عن نافع ، فحملوا عن بقية عن عبيد الله ، وبقية عن مالك ، وأسقط الواهي بينهما ، فالتزق الموضوع ببقية ، وتخلص الواضع من الوسط .

وإنما امتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه ، فالتزق ذلك كله به ).

قلت : هذا كله كلام ابن حبان -رحمه الله- ، وهو صريح في تبرئته من تدليس التسوية ، وأن ذلك كان من بعض تلاميذه . ولعل هذا هو سبب إعراض كل من ترجم عن رميه بهذا النوع من التدليس ، وبخاصة المتأخرين منهم الذين أحاطوا بكل ما قيل فيه من مدح وقدح من الأئمة المتقدمين ، واقتصروا على وصفه بتدليس شيوخه فقط ، فقال الذهبي في كتابه الكاشف : (وثقه الجمهور فيما سمعه من الثقات)  ، وقال النسائي : (إذا قال : ( ثنا ) و : ( نا ) ؛ فهوثقة ) . وهذا الحافظ ابن حجر ؛ لما أورده في طبقات المدلسين ؛ لم يزد على قوله : (وكان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين ، وصفه الأئمة بذلك ) . أورده في المرتبة الرابعة  ، وهي التي يورد فيه : من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل ؛ كبقية بن الوليد . كما قال في مقدمة الرسالة .

قلت : فلم يرمه لا هو ولا الذهبي بتدليس التسوية ، وقوله فيما تقدم نقله عنه في النكت : ” ذكر شيخنا ” إنما يعني به الحافظ العراقي ؛ فإنه لما ذكر في كتابه التقييد والإيضاح ( ص 78 – الحلبية ) تدليس التسوية ، ضرب على ذلك مثالاً هذا الحديث نقلا عن ( العلل ) لابن أبي حاتم ، وكان نقله عنه باختصار تبعه عليه السيوطي في ( التدريب ) ( 1 / 224 – 225 ) ، ذلك ؛ أنهما لم ينقلا عنه قوله المتقدم : ( وأما ما قال إسحاق في روايته . . . ) إلخ . وبناء على ذلك تصرفا فيما نقلاه عنه ، فقالا : ( عن نافع ) بدل : ( حدثنا نافع ) ، وهو تصرف غير مرضي ؛ لأنه خلاف ما وقع في رواية ابن راهوية عند أبي حاتم ولا يجوز تغييره إلا بالبيان كما فعل أبو حاتم في تمام كلامه ، فاختصارهما إياه من الاختصار المخل كما هو ظاهر ، ويكفي العاقل دليلا على ذلك أن هذا التحقيق الذي أجريناه على كلامه ما كان بإمكاننا ذلك لو لم نقف عليه في ( العلل ) واعتمدنا فقط على ما نقلاه عنه !

ولذلك ؛ انطلى الأمر على بعض الطلاب في العصر الحاضر وأخذوا يعللون بعض أحاديث بقية التي صرح فيها بالتحديث عن شيخه بتدليس التسوية ! كحديث : (( وكاء السَّه العينان ، فَمَنْ نام ؛ فَلْيَتَوَضَّأْ )) وهو مخرج في ( صحيح أبي داود ) ( 198 ) ، وأوردته في ( صحيح الجامع ) ( 4025 ) ، فلم يعجب بعضهم اغترارا بأن فيه تدليس التسوية ! ونحوه تعليق بعضهم على ترجمة بقية في ( سير أعلام النبلاء ) بقوله ( 8 / 458 ) : ( بل قد وصفوه بأخبث أنواع التدليس ، وهو تدليس التسوية ، وهو أن يحذف من سنده غير شيخه . . . ) . واستند في ذلك على (التدريب) ، وقد خفي عليه ما ذكرته من التحقيق . زد على ذلك أن من علماء التخريج لم يجرء على إعلال حديث بقية بتدليس التسوية فيما علمت ، وإنما يعللونه بعنعنته عن شيخه ، فإذا صرح بالتحديث عنه صححوه ، فهو دليل عملي منهم على عدم الاعتداد بقول من اتهمه بتدليس التسوية ، ولا نذهب بعيدا في ضرب الأمثلة . فهذا هو الإمام مسلم قد ذكر في مقدمة (صحيحه) ( ص 14 ، 20 ) بقية بالتدليس . ثم روى في ( النكاح ) من (صحيحه) ( 4 / 152 ) بسنده عن بقية : حدثنا الزبيدي عن نافع عن ابن عمر مرفوعا : (( من دُعي إلى عرس أو نحوه ؛ فَلْيُجِبْ )) ولما أخرجه الذهبي في ( السير ) ( 8 / 467 ) من طريق أبي عوانة الحافظ بسنده عن جمع قالوا : حدثنا بقية : حدثنا الزبيدي به ؛ قال المعلق المشار إليه آنفا : ( إسناده صحيح ؛ فقد صرح بقية بالتحديث ) ! ! وقد فاته إخراج مسلم إياه ! كما غفل عن اتهامه بتدليس التسوية كما تقدم نقل عنه ؛ فإن شيخ بقية ( الزبيدي ) لم يصرح بالتحديث ! !.

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس التسوية :

تدليس التسوية لا يقبل معه الحديث حتى يصرح المُدَلِس – إذا كان ثقة أو صدوقاً -بالتحديث بينه وبين شيخه ، وبين شيخه وشيخ شيخه ، وهكذا بقية الإسناد ، لأنه إذا أسقط ضعيفاً بين شيخه وشيخ شيخه لا يبعد أن يفعل ذلك في بقية السند ، ولهذا قال السيوطي شرحاً كلام النووي([26]) : ( (وربما لم يسقط شيخه أو أسقط غيره) أي شيخ شيخه أو أعلى منه لكونه (ضعيفا) وشيخه ثقة (أو صغيرا) وأتى فيه بلفظ محتمل عن الثقة الثاني (تحسينا للحديث) وهذا من زوائد المصنف على ابن الصلاح وهو قسم آخر من التدليس يسمى تدليس التسوية ) .

وقال الخطيب([27]) : (وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلا يكون ضعيفا في الرواية أو صغير السن ويحسن الحديث بذلك ) .

وقال السخاوي([28]) : (وشرها أي أنواع أي أنواع التدليس حتى ما ذكر ابن الصلاح أنه شرة أخو أي صاحب التسويه الذي أشار إليه الخطيب بقوله : وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه لكنه يسقط ممن بعد في الإسناد رجلا يكون ضعيفا في الروايه أي صغير السن الحديث بذلك . وتبعه النووي في ذلك في القسم الأول من تقريبه وجماعه  ) .

وقال الشيخ الألباني([29]) : (فيشترط في المدلس تدليس التسوية أن يصرح بالتحديث بين كل رواة الإسناد ، فتنبه لهذا ؛ فإنه مهم جداً ، فإني كنت من الغافلين عنه سنين تبعاً لبعض من سلف من الجارحين والمخرجين ، والله يغفر لنا ولهم ) .

القسم الثالث : تدليس الشيوخ([30]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

هو أن يروي المدلس عن شيخ حديثاً سمعه منه ، فيسميه ، أو يكنيه ، أو ينسبه ، أو يصفه ، بما لايعرف به ، كي لا يعرف .

مثاله :

المثال الأول : قال الإمام أحمد([31]) حَدَّثَنَا مَرْوَانُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَكِّيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ : (( الْعُسَيْلَةُ هِيَ الْجِمَاعُ)) .

هذا الحديث إسناده ضعيف ، لأجل جهالة أبي عبد الملك المكي ، فمروان الراوي عنه هو ابن معاوية ، قد دلس في هذا الإسناد تدليس الشيوخ ولم يصرح باسم أو كنية من أخبره بهذا الحديث التي يعرف بها عند العلماء بل ذكره بكنية غير معروفه عندهم تعمية لأمره ، قال الحافظ ابن حجر([32]) : (مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري أبو عبد الله الكوفي نزيل مكة ودمشق ثقة حافظ وكان يدلس أسماء الشيوخ ) . وقال أبو حاتم : (تكثر روايته عن الشيوخ المجهولين)([33]) . وقال المزي([34]) : (وَقَال عَبد الله بن علي بن المديني عَن أبيه : ثقة فيما روى عن المعروفين ، وضعفه فيما روى عن المجهولين . وَقَال علي بن الحسين بن الجنيد عن ابن نمير : كان يلتقط الشيوخ من السكك . وَقَال العجلي : ثقة ثبت ، ما حدث عن المعروفين فصحيح ، وما حدث عن المجهولين ففيه ما فيه وليس بشيءٍ ) .

المثال الثاني : قال الإمام أحمد([35]) حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ زُفَرَ عَنْ هَاشِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ –رضي الله عنهما- قَالَ : ((مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ ، لَمْ يَقْبَلِ اللهُ لَهُ صَلَاةً مَادَامَ عَلَيْهِ ، قَالَ : ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : صُمَّتَا إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ )) .

هذا الحديث إسناده ضعيف جدا ، لأجل عثمان بن زفر فهو مجهول الحال ، وهشام مجهول العين ، والراوي عن عثمان هو بقية بن الوليد وهو مدلس تدليس الشيوخ ، وقد رواه عن عثمان بالعنعنة ولم يصرح بالتحديث ، قال الحافظ بن حجر([36]) : (بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو يحمد بضم التحتانية وسكون المهملة وكسر الميم صدوق كثير التدليس عن الضعفاء من الثامنة مات سنة سبع وتسعين وله سبع وثمانون) . وقد اتهم بتدليس التسوية ، وسبق بحث هذا في تدليس التسوية .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس الشيوخ :

تدليس الشيوخ لا يقبل معه الحديث حتى لو صرح المدلس بالتحديث بينه وبين من روى عنه كما في المثال الأول ، فلا بد في قبول حديث المدلس تدليس الشيوخ أن يصرح المدلس باسم أو كنية الرواي الذي يروي عنه بحيث يصرح باسمه أو كنيته التي اشتهر بها عند العلماء ، ولا يأتي باسمٍ أو كنية مجهولة عند المحدثين .

تنبيه :

يلحق بتدليس الشيوخ تدليس البلدان ، قال الحافظ ابن حجر([37]) : (ويلتحق بقسم تدليس الشيوخ تدليس البلاد ، كما إذا قال المصري : حدثني فلان بالأندلس . وأراد موضعا بالقرافة . أو قال : بزقاق حلب . وأراد موضعا بالقاهرة . أو قال البغدادي : حدثني فلان بما وراء النهر . وأراد نهر دجلة . أو قال : بالرقة . وأراد بستانا على شاطئ دجلة . أو قال الدمشقي : حدثني بالكرك . وأراد كرك نوح وهو بالقرب من دمشق . ولذلك أمثلة كثيرة ) .

القسم الرابع : تدليس العطف([38]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

هو أن يروي الراوي عن شيخين من شيوخه حديثاً ، وهذان الشيخان سمعاه من شيخ اشتركا فيه ، ويكون الراوي عنهما قد سمع ذلك من أحدهما دون الآخر ، فيصرح عن الأول بالسماع ويعطف الثاني عليه ، فيقول : حدثنا فلان وفلان قالا : حدثنا فلان ، فيوهم أنه حدث عن الأول والثاني بالسماع – أيضا – ، وإنما حدث بالسماع عن الأول ثم نوى القطع فقال : وفلان أي : حدث فلان ، فإذا قال : حدثنا فلان وفلان ، فهو لا يريد الواو العاطفة ، بل يريد الواو الاستئنافية ، فيخبر عن فلان الثاني بخبر يضمره ، يقول : حدثني فلان ، صحيح أن الثاني حدثه ، لكنه ليس هذا الحديث الذي دلس فيه وأوهم أنه سمعه منه .

مثاله :

ذكر الحاكم أن جماعة من أصحاب هشيم([39]) اجتمعوا يوما على أن لا يأخذوا منه التدليس ، ففطن لذلك ، فكان يقول في كل حديث يذكره : حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ، فلما فرغ قال لهم : هل دلست لكم اليوم ؟ فقالوا : لا . فقال : لم أسمع من مغيرة حرفاً مما ذكرته ، إنما قلت : حدثني حصين ومغيرة غير مسموع لي([40]) .

يعني أنه لم يسمع من مغيرة وإنما عطفه على حصين موهما السماع ، وكان يضمر في نفسه كلاما بعد واو العطف ثم يقول : حصين .

إلا أن هذه الرواية التي ذكرها الحاكم لم يسندها فهي لا تصح ، ولم أقف على مثال صحيح على تدليس العطف .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس العطف :

تدليس العطف لا يقبل معه الحديث حتى يصرح المدلس بالتحديث بينه وبين من روى عنه بالعطف .

تنبيه :

وليس من هذا القسم ما لو روى الراوي الخبر عن اثنين أحدهما ثقة والآخر ضعيف ، واقتصر على ذكر الثقة وحذف الضعيف ، فإن هذا لا يدخل معنا في أقسام التدليس ، مثل ما لو أن البخاري روى خبراً من طريق مالك وابن لهيعة ، وهو قد سمع الحديث الذي سيحدث به عنهما ، لكنه حذف ابن لهيعة ، واقتصر على رواية هذا الحديث عن مالك ، فإن هذا ليس تدليساً ؛ لأنه ليس بحاجة إلى ذكر الضعيف ، يكفيه ذكر الثقة الذي سمع عنه الحديث .

القسم الخامس : تدليس القطع ، ويسمى تدليس الحذف([41]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

وهو أن يسكت الراوي بين صيغ الأداء ناوياً بذلك القطع أو الحذف ثم يذكر الراوي موهما أنه سمعه عنه بمعنى أن يسقط الراوي اسم الشيخ الذي سمع الحديث منه مباشرة مقتصراً على ذكر أداة الرواية ، أو أن هو أن يسقط المدلس أداة الرواية مقتصرا على اسم الشيخ موهما أنه سمعه منه .

مثال أن يسقط المدلس من حدثه به ويبقي الأداة :

قال الحافظ ابن حجر([42]) : (وفاتهم أيضاً فرع آخر وهو تدليس القطع ، مثاله : ما رويناه في «الكامل» لأبي أحمد بن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول : ثنا ثم يسكت ينوي القطع ثم يقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها-) .

فهنا صيغة التحديث موجودة وهو أن عمر بن عبيد قال : حدثنا ، لكنه سكت بعد هذه الصيغة ناويا القطع بينها وبين الراوي الذي سيذكره ، ثم قال : هشام بن عروة ، موهما أنه سمع الحديث من هشام والواقع ليس كذلك .

مثال أن يسقط المدلس أداة الرواية مقتصرا على اسم الشيخ :

قال ابن الصلاح([43]) : ( مَا رُوِّينَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، فَقَالَ : الزُّهْرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : حَدَّثَكُمُ الزُّهْرِيُّ؟ فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : الزُّهْرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : سَمِعْتَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ؟ فَقَالَ : لَا ، لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ، وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ) .

فهنا سفيان بن عيينة لم يذكر أداة الرواية بينه وبين شيخه الزهري ، فلم يقل عن الزهري أو قال الزهري ونحو ذلك ، فأسقط بينه وبين شيخه اثنين ، فعبد الرزاق تلميذ سفيان ، فلما لم يسمع سفيان هذا الحديث من شيخه الزهري مباشر فلا بد له أن يرويه عن تلميذه عبد الرزاق وبهذا سيصبح السند نازلا ، فكأن سفيان لثقته بتلميذه عبد الرزاق وشيخه معمر ، لم يجد حرجا بإسقاطهما ورواية الحديث مباشرة عن شيخه الزهري الذي لم يسمع منه هذا الحديث مباشرة ، لأنه متأكد أنه صحيح إلى الزهري .

وسبق أن سفيان بن عيينة لا يدلس إلا عن ثقة فمثل تدليسه يحتمل ويقبل ، لأنه لا يسقط إلا راوياً ثقة .

وممن كان يدلس تدليس القطع كذلك :

عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي ، قال الحافظ ابن حجر([44]) : (عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي أبو جعفر البصري مولى ثقيف … قال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي ذكره فأثنى عليه خيرا وقال : كان يدلس . وقال ابن معين : كان يدلس ، وما كان به بأس حسن الهيئة وأصله واسطي نزل البصرة لم أكتب عنه شيئا . وقال ابن سعد : كان ثقة ، وكان يدلس تدليسا شديدا ، يقول : سمعت وحدثنا ثم يسكت فيقول : هشام بن عروة والأعمش ، وقال كان رجلا صالحا ، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس ، وأما غير ذلك فلا ، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا . وقال أبو حاتم : محله الصدق ولولا تدليسه لحكمنا له إذا جاء بزيادة غير أنا نخاف أن يكون أخذه عن غير ثقة . وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به ) .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس القطع :

تدليس العطف لا يقبل معه الحديث حتى يصرح المدلس بالتحديث بينه وبين من روى عنه ، ويثبت أنه لم يسكت ناويا القطع بينه وبين شيخه ، وذلك يعرف بقبول الحفاظ لحديثه هذا بعينه ، أو تصحيحهم لهذا الحديث ، ونحو ذلك ، هذا مع تصريحه بالتحديث ، إلا إذا كان هذا المدلس لا يدلس إلا عن الثقات فإنه يقبل حديثه([45]) .

القسم السادس : تدليس صيغ الأداء([46]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

وَهُوَ ما يقع من الْمُحَدِّثِيْنَ من التعبير بالتحديث أَوْ الإخبار عَنْ الإجازة([47]) موهماً للسماع ، وَلَمْ يَكُنْ تحمله لِذَلِكَ المروي عَنْ طريق السَّمَاع .

فهذا التدليس يظهر فيه الراوي ما تحمله بالإجازة ، بصيغة الأداء مثل أخبرني أو حدثني موهماً أنه سمعه من المجيز ، أو أنه كتب بهذا الحديث إليه ، وهو لم يسمع منه إلا عبارة الإجازة فقط ، أو كتب إليه بالإجازة فقط ، ونحو ذلك .

وبعض أهل العلم لم يعد هذا تدليساً ، قال العلائي([48]) : ( فأما تدليس الإجازة والمناولة والوجادة بإطلاق أخبرنا فلم يعده أئمة الفن في هذا الباب ، كما قيل في رواية أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب ، ورواية مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه ، وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري وشبه ذلك بل هو إما محكوم عليه بالانقطاع أو يعد متصلا ، ومن هذا القبيل ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي عن الحافظ أبي الحسن الدارقطني أنه كان يقول فيما لم يسمع من البغوي : قُرئ على أبي القاسم البغوي حدثكم فلان ويسوق السند إلى آخره ، بخلاف ما هو سماعه فإنه يقول فيه : قُرئ على أبي القاسم وأنا أسمع أو أخبرنا أبو القاسم البغوي قراءة ونحو ذلك ، فأما أن يكون له من البغوي إجازة شاملة بمروياته كلِّها فيكون ذلك متصلا له أو لا يكون كذلك فيكون وجادة ، وهو قد تحقق صحة ذلك عنه على أن التدليس في المتأخرين بعد سنة ثلاثمائة يقل جدا قال الحاكم : لا أعرف في المتأخرين من يذكر به إلا أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي . والله أعلم ) .

والذي يظهر – والله أعلم- أن هذا الفعل يعد تدليساً فبالنظر إلى الصيغة التي حدث بها الراوي فقد دلس فيها ، فقوله حدثني أو أخبرني يدل على المشافهة وليس الأمر كذلك .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس صيغ الأداء :

الحديث المدلس تدليس صيغ الأداء ينظر فيه إلى الراوي الذي فعل ذلك ، فإذا كان الراوي موصوفاً بهذا النوع من التدليس ، فينبغي النظر إلى هذا المدلس الذي فعل هذا النوع من التدليس وكلام العلماء النقاد عليه ، وهل يقبل فعله هذا عندهم أو لا ، وكذلك فينبغي النظر إلى هذه الإجازة التي يروي بها الراوي عن المجيز هل أجازه بشي معين من كتبه أو أجاز له أن يروي مسموعاته ونحو ذلك مما سيأتي في تفصيل الإجازة ؛ فلا يقبل هذا الحديث الذي فيه تدليس صيغ الأداء ولا يرد بل لا بد في النظر والبحث في اتصال الإسناد ونحوه والمتن هل فيه شذوذ أو نكارة أو غرابة ونحو ذلك .

فمثلا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ، صاحب التصانيف قال عنه الحافظ ابن حجر([49]) : (أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الحافظ أبو نعيم صاحب التصانيف الكثيرة الشائعة ، منها حلية الأولياء ، ومعرفة الصحابة ، والمستخرجين على الصحيحين كانت له إجازة من أناس أدركهم ولم يلقهم فكان يروى عنهم بصيغة أخبرنا ولا يبين كونها إجازة ، لكنه كان إذا حدث عن من سمع منه يقول : حدثنا ، سواء كان ذلك قراءة أو سماعا ، وهو اصطلاح له تبعه عليه بعضهم وفيه نوع تدليس بالنسبة لمن لا يعرف ذلك . قال الخطيب : رأيت لأبي نعيم أشياء يتساهل فيها منها أنه يطلق في الإجازة أخبرنا ولا يبين . قال الذهبي : هذا مذهب رآه أو نعيم وهو ضرب من التدليس وقد فعله غيره) .

وقد ذكره الحافظ في الطبقة الأولى من المدلسين التي يقبل معها تدليسه ، وذكر غيره في هذه الطبقة ممن عرفوا بتدليس صيغ الأداء .

مسائل مكملة للحديث المدلس :

المسألة الأولى : حكم التدليس :

قد ذم بعض العلماء التدليس وحذروا منه ، ووصفوه بأبشع العبارات ، فَقَدْ ورد عن شعبة –رحمه الله تعالى- أنه قَالَ : (التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ)([50]) ، وجاء نحوه عن حماد بن زيد وعوف الأعرابي([51]) ، وَقَالَ شعبة : (لأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ)([52]) ، ونحو ذلك من العبارات التي ورد فيها التشنيع على التدليس وإنكاره ، والمبالغة في الزجر عنه والتنفير منه ومن فاعله([53]) .

ومنهم من تسامح فيه ، فقد قَالَ أبو بكر البزار : (التدليس ليس بكذب وإنما هو تحسين لظاهر الإسناد )([54]) .

والصحيح أنه ليس بكذب يقدح به في عدالة الرَّاوِي ويرد به جميع حديثه ، وإنما هُوَ ضَرْبٌ من الإيهام ، وهو الذي عليه الجمهور ، وهو صنيعهم ، فشعبة من أشد الناس نكارة للتدليس وأهله ، ومع ذلك فقد روى عن جماعة من شيوخه المعروفين بالتدليس ، كأبي إسحاق السبيعي والأعمش من أئمة زمانه ، فلو كان التدليس عنده كذباً ما روى عنهم  مطلقاً ، وهَذَا ما نصّ عليه الإمام الشَّافِعِيّ -رحمه الله- فإنه قَالَ([55]) : (ومن عرفناه دلّس مرة فَقَدْ أبان لنا عورته في روايته ، وليست تِلْكَ العورة بالكذب فنرد بِهَا حديثه ، ولا النصيحة في الصدق ، فنقبل مِنْهُ ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق) .

وأما حكم الحديث المدلس ، فقد اختلف العلماء فيه على مذاهب([56]) :

المذهب الأول : أن خبر المدلس لا يقبل مطلقاً ، لأن المدلس أوهم بشيء لا أصل له وهو أن الحديث متصل وأسقط أو ترك تسمية من لعله غير مرضي عند العلماء وليس ثقة ، ولأنّ التدليس عندهم هو جرح بنفسه تسقط بِهِ عدالة من عُرِف بِهِ ، وهذا المذهب نقل عن جماعة من أهل الحديث والفقه .

المذهب الثاني : قبول خبر المدلس مطلقاً ، فالتدليس عندهم ضرب من الإرسال ، فمن قبل المرسل وقال به فإنه من باب أولى عندهم قبول خبر المدلس لأن إعراض الثقة عن ذكر الرَّاوِي في الإسناد تعديلٌ لَهُ ، فإن من مقتضيات ثقته أن يصرح باسم من روى عَنْهُ إذا لم يكن ثقة لكن لما أسقطه من الإسناد إذا هو ثقة عنده ، وهذا مذهب جمهور من قبل المراسيل .

المذهب الثالث : التفصيل ، فإن روى المدلس بصيغة مبينة للسماع أو التحديث([57]) ، فيقبل حديثه ، وإن روى بصيغة محتملة للسماع كالعنعنة ونحوها فلا يقبل . وهذا الَّذِيْ عَلَيْهِ جمهور أَهْل الْحَدِيْث ، وهو قول الإمام الشافعي ، والْخَطِيْب البغدادي ، وابن الصَّلاَحِ وغيرهم .

المذهب الرابع : إذا عرف من حال المدلس أنه لا يدلس إلا عن الثقات ، فخبره مقبول كيفما كانت صيغة التحديث ، وإن كَانَ يدلس عن غَيْر الثقات رد حديثه حَتَّى يصرح بالسماع ، قال ابن عبد البر([58]) : (وَقَالُوا : لَا يُقْبَلُ تَدْلِيسُ الْأَعْمَشِ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ أَحَالَ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ ، يَعْنُونَ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ ، إِذَا سَأَلْتَهُ عَمَّنْ هَذَا ؟ قَالَ : عَنْ مُوسَى بْنِ طَرِيفٍ وَعَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ وَالْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ . قَالُوا : يُقْبَلُ تَدْلِيسُ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ أَحَالَ عَلَى ابْنِ جُرَيْحٍ وَمَعْمَرٍ وَنَظَائِرِهِمَا) .

حكاه هذا المذهب الْخَطِيْبُ عن بعض أهل العلم ، ونقله ابن حجر في النكت عن البزار وأبي الفتح الأزدي وغيرهما .

والراجح من هذه المذاهب أن رواية المدلس لا ترد مطلقاً ولا تقبل مطلقا ، فقد تقبل إذا صرح بالتحديث والسماع كما قال أصحاب المذهب الثالث ، وقد لا تقبل حتى لو صرح بالتحديث كتدليس الشيوخ ونحوه كما سبق في أقسام التدليس ، وقد يقبل خبر المدلس إذا كان لا يدلس إلا عن ثقة كما قال أصحاب المذهب الرابع إلا أنه على تفصيل سيأتي في المسألة الثالثة ، ولهذا ذكرت لك أقسام التدليس الستة وحكم كل قسم هذا هو الراجح في حكم التدليس هو بيان حكم كل قسم لوحده . والله أعلم .

المسألة الثانية : المدلس إذا كان لا يدلس إلا عن ثقة فهل يقبل مطلقاً ؟

سبق في المذهب الرابع أن المدلس إذا كان لا يدلس إلا عن ثقة فإنه يقبل حديثه عندهم لكن ينبغي أن يرعى الآتي في قبول روايته :

أولا : إذا كان المدلس لا يدلس إلا عن ثقة عنده وهو مجهول عند غيره فإنه ينبغي أن لا يقبل تدليسه والحالة هذه لأنه قد يكون ثقة عنده ضعيف عند غيره ، وهو كما لو قال حدثني الثقة ، فالراوي مبهم لا يقبل معه الحديث حتى يسميه ، فالمدلس أحيانا إنما يدلس لأجل أن شيخه ثقة عنده ضعيف عند غيره كما سيأتي في الأسباب الحاملة على التدليس .

ثانياً : إذا كان المدلس لا يدلس إلا عن ثقة عنده وعند غيره ، وهذا يعرف بأقوال العلماء الذين تتبعوا أحاديث هذا المدلس التي ذكرها بغير صيغة التحديث أو السماع فوجدوه أنه لا يدلس إلا عن الثقات فقط ، فهذا يقبل حديثه مع العنعنة مطلقا .

ولهذا ينبغي في قبول المدلس الذي قيل عنه أنه لا يدلس إلا عن ثقة أن ينظر في حكم العلماء على حديثه وهل قبلوه مطلقاً أوردوه في أحوال ، قال ابن حبان([59]) : (وأما المدلسون الذين هم ثقات وعدول فإنا لا نحتج بأخبارهم إلا ما بينوا السماع فيما رووا ، مثل الثوري والأعمش وأبي إسحاق وأضرابهم من الأئمة المتقين ، وأهل الورع في الدين لأنا متى قبلنا خبر مدلس لم يبين السماع فيه وإن كان ثقة لزمنا قبول المقاطيع والمراسيل كلّها لأنه لا يدري لعل هذا المدلس دلس هذا الخبر عن ضعيف يَهِي الخبر بذكره إذا عرف اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنه ما دلس قط إلا عن ثقة ، فإذا كان كذلك قبلت روايته ، وإن لم يبين السماع ، وهذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده ، فإنه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا وجد الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه ، والحكم في قبول روايته لهذه العلة وإن لم يبين السماع فيها كالحكم في رواية ابن عباس إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع منه) .

وسيأتي تفصيل شيء من ذلك في طبقات المدلسين في المسألة السادسة إن شاء الله تعالى وسنبين من يقبل تدليسه ومن لا يقبل .

المسألة الثالثة : إذا صرح الثقة بأنه كفانا تدليس المدلس في الحديث أو صرح المدلس نفسه أنه لا يدلس في حديثه عن فلان فهل يقبل ذلك؟

صرح بعض الرواة عن المدلسين أنه إذا حدث عن المدلس الفلاني فإن حديثه يقبل حتى مع عنعنة المدلس لأنه تتبع حديثه ، وكذلك ثبت عن بعض المدلسين أنه لا يدلس عن فلان ، فمن ذلك :

أولا : شعبة عن الأعمش أو عن أبي إسحاق السبعي أو عن قتادة .

فإذا روى شعبة عن هؤلاء ورووا بالعنعنة فإنه تقبل روايتهم مع أنهم عرفوا بالتدليس ، وذلك لما ثبت عن شعبة أنه قال : (كفيتكم تدليس ثلاثة : الأعمش ، وأبي إسحاق، وقتادة)([60]) ، قال الحافظ ابن حجر([61]) : (فهذه قاعدة جيّدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة أنها جاءت من طريق شعبة دلّت على السماع ، ولو كانت معنعنة) .

ثانياً : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن عطاء بن أبي رباح أو ابن أبي مُلَيكة .

عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عرف بالتدليس ، ولا يقبل حديثه إلا إذا صرح بالتحديث ، قال الدارقطني : (تجنب تدليسه فإنه وحش التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح )([62]) . إلا أنه إذا روى عن عطاء بن أبي رباح أو ابن أبي مُلَيكة فإنه لا يدلس عنهما ، ويقبل حديثه حتى مع عدم التصريح بالتحديث أو السماع .

أما عنعنته عن عطاء ، فلما ثبت عن ابن جريج أنه قال : (إذا قلت : قال عطاء فأنا سمعته منه ، وإن لم أقل : سمعت)([63]) . قال الشيخ الألباني([64]) : (فهذا نص منه أن عدم تصريحه بالسماع من عطاء ليس معناه أنه قد دلسه عنه ، ولكن هل ذلك خاص بقوله : (قال عطاء) أم لا فرق بينه وبين ما لو قال : (عن عطاء) كما في هذا الحديث وغيره ؟ الذي يظهر لي الثاني وعلى هذا فكل روايات ابن جريج عن عطاء محمولة على السماع . إلا ما تبين تدليسه فيه . والله أعلم). وقال أيضاً([65]) : (وهذه فائدة هامة جدا تدلنا على أن عنعنة ابن جريج عن عطاء في حكم السماع) . وقال كذلك([66]) : (وهذه فائدة عزيزة فاحفظها فإني كنت في غفلة منها زمنا طويلا ثم تنبهت لها فالحمد لله على توفيقه . وبها تبين السر في إخراج الشيخين لحديث ابن جريج عن عطاء معنعنا) .

ومن المتقرر في علم مصطلح الحديث أنَّ (قال) لها حكم (عن) .

وكذلك فيما يرويه ابن جريج عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي ملكية ، فقد قال عمرو بن علي الفلاس ، سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : (أحاديث ابن جريج عن ابن أبي ملكية كلها صحاح ) ، وجعل يحدثني بها ، ويقول : (حدثنا ابن جريج ، قال : حدثني ابن أبي ملكية) ، فقال في واحد منها : (عن ابن أبي مليكة) ، فقلت : قل حدثي ، قال : ( كلها صحاح)([67]) .

ثالثاً :  حفص بن غياث عن سليمان بن مهران الأعمش .

قال الحافظ ابن حجر([68]) : (حَفْص بن غياث بن طلق بن مُعَاوِيَة النَّخعِيّ أَبُو عَمْرو القَاضِي الْكُوفِي من الْأَئِمَّة الْأَثْبَات ، أَجمعُوا على توثيقه والاحتجاج بِهِ إِلَّا أَنه فِي الآخر سَاءَ حفظه ، فَمن سمع من كِتَابه أصح مِمَّن سمع من حفظه ، قَالَ أَبُو زرْعَة وَقَالَ ابن الْمَدِينِيّ : كَانَ يحيى بن سعيد الْقطَّان يَقُول : حَفْص أوثق أَصْحَاب الْأَعْمَش . قَالَ : فَكنت أنكر ذَلِك ، فَلَمَّا قدمت الْكُوفَة بآخرة أخرج إِلَيّ ابْنه عمر كتاب أَبِيه عَن الْأَعْمَش ، فَجعلت أترحم على الْقطَّان . قلت : اعْتمد البُخَارِيّ على حَفْص هَذَا فِي حَدِيث الْأَعْمَش لِأَنَّهُ كَانَ يُمَيّز بَين مَا صرح بِهِ الْأَعْمَش بِالسَّمَاعِ وَبَين مَا دلسه ، نبه على ذَلِك أَبُو الْفضل بن طَاهِر ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ) .

روى الخطيب بسنده([69]) إلى ابن عمار قَالَ : (كَانَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ … قَالَ : وَقُلْتُ لَهُ : مَا لَكُمْ حَدِيثُكُمْ عَنِ الأَعْمَشِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ فُلانٍ عَنْ فُلانٍ لَيْسَ فِيهِ حَدَّثَنَا ، وَلا سَمِعْتُ قَالَ : فَقَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَمَّارٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، يَقُولُ : ” لَيَأْتِيَنَّ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يُقِيمُونَهُ إِقَامَةَ الْقِدْحِ ، لا يَدَعُونَ مِنْهُ أَلِفًا وَلا وَاوًا ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ ” ، قَالَ : وَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ مِثْلَهُ قَالَ : وَكَانَ عامة حَدِيث الأعمش عند حفص بْن غياث على الخبر وَالسماع).

المسألة الرابعة : مراسيل الصحابة ليست من التدليس :

سبق بيان مراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- وسبق حكمها وذكرت هذه المسألة لأن بعضهم نسب للصحابي الجليل أبي هريرة –رضي الله عنه- التدليس ، وزعم أن شعبة يقول بذلك ، وهذه الزعم باطل سندا ، منكر وقبيح لفظا ، وإليك البيان :

أولا : قال ابن عدي([70]) : حَدَّثَنَا الحسن بن عثمان التستري ، أَخْبَرنا سلمة بن شبيب ، قال : سَمِعتُ يزيد بن هارون ، قَالَ : سَمِعْتُ شُعْبَة يقول : (أبو هريرة كان يدلس) .

وهذه الرواية ساقط مكذوبة لا تصح عن شعبة ، وعلتها التستري الكذاب فقد قال عنه ابن عدي([71]) : ( الحسن بن عثمان بن زياد بن حكيم أبو سعيد التستري كان عندي يضع ويسرق حديث الناس ، سألت عبدان الأهوازي عنه فقال : هو كذاب ) .

ثانياً : أنه لا يصح أن ينسب إلى الصحابة –رضي الله عنهم- التدليس بحال ، لأن التدليس جرح بالراوي قطعاً ولهذا لا تقبل رواته مطلقاً ولا ترد كما سبق التفصيل ، فكيف يصح أن يقال ذلك في الصحابة –رضي الله عنهم- المزكون من رب العالمين ، وسبق أن العلماء –رحمهم الله تعالى- أجمعوا على قبول مراسيلهم ، قال السرخسي([72]) : (ولا خلاف بين العلماء في مراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- أنها حجة ، لأنهم صحبوا رسول الله ﷺ ، فما يروونه عن رسول الله عليه السلام مطلقا يحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم ، وهم كانوا أهل الصدق والعدالة ).

وقال ابن قدامة([73]) : (مراسيل أصحاب النبي ﷺ مقبولة عند الجمهور وشذ قوم فقالوا : لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره ، أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي ، وإلا فلا ، لأنه قد يروي عمن لم تثبت لنا صحبته .

وهذا ليس بصحيح ، فإن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من أصاغر الصحابة مع إكثارهم ، وأكثر روايتهم عن النبي ﷺ مراسيل ) .

وقد صح عن البراء بن عازب –رضي الله عنه- فإنه قال : (مَا كُلُّ الْحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الإِبِلِ)([74]) .

وروى قتادة السدوسي عن أنس بن مالك قصةً ، فقال له رجلٌ : سمعت هذا من أنس؟ قال : نعم . قال رجل لأنس : أَسَمِعه من رسول الله ﷺ ؟ قال : نعم ، وحدثني من لم يكذب ، والله ما كنّا نكذب ولا ندري ما الكذب([75]) .

فهذا يرد أن يوصف أحدهم بالتدليس ، فالتدليس قصد به رد رواية الموصوفين بالتدليس خشية أن يكون الساقط الذي لم يذكره المدلس مجروحاً ، وهو أظهر سلامة الإسناد في روايته ، وهذا غير موجود في مراسيل الصحابة قطعا ، فلا وجه لذكر مراسيلهم في صور التدليس مطلقا ، وأيضاً التدليس هو أمرٌ حادث بعد الصحابة –رضي الله عنهم- لم يعرفه أحد منهم ، فكيف بعد ذلك يصح أن توصف مراسيلهم بالتدليس ؟!!

المسألة الخامسة: الأسباب الحاملة على التدليس([76]) :

هناك أسباب كثيرة تحمل المدلس على التدليس منها :

أولا : ضعف شيخ المُدَلِّس أو كونه غير ثقة عند العلماء إلا أنه ثقة عند المدلس فيعمد إلى حذفه حتى لا يرد حديثه .

ثانياً : صغر سن الشيخ المُدَلَّس عن سن المُدَلِّس فيأنف أن يروي عن شيخ أصغر منه سناً أو هو من تلاميذه فيعمد إلى حذفه .

ثالثاً : لأن المُدَلِّس قد شاركه في الرواية عن شيخه من هم دونه في السن أو العلم ، فلهذا يعمد المدلِّس في تدليس هذا الشيخ .

رابعاً : كثرة الرواية عن هذا الشيخ ، فيعمد الراوي إلى تغير اسم أو كنية هذا الشيخ  دفعاً للتكرار وتوهيما أنه يروي عن أكثر من شيخ والحقيقة أنه واحد .

خامساً : فَوَات شيء من الحديث عن شيخ سمع منه الكثير فيعمد إلى أنه يرويه عنه هذا الحديث الذي لم يسمعه منه حتى لا يكون قد فاته شيء من الحديث لم يروه عن هذا الشيخ .

هذه بعض الأسباب الحاملة على التدليس ، وله أهداف وغايات ذكرها بعض أهل العلم كتحسين الحديث ، وإيهام كثرة الشوخ ، وإيهام علو الإسناد ، وإيهام كثرة الرحلة ، والاختصار في الصيغة ونحو ذلك من المقاصد .

المسألة السادسة : طبقات المدلسين :

اعلم أن المدلسين ليسوا على طبقة واحدة فهم على طبقات فقد قسمها العلماء إلى خمس طبقات فمنهم من يقبل تدليسه ومنهم من لا يقبل حتى يصرح بالتحديث أو ما يدل على عدم التدليس كما مر تفصيله في حكم التدليس ، وطبقات المدلسين هي :

قال العلائي([77]) : (ثم ليعلم بعد ذلك أن هؤلاء كلهم ليسوا على حد واحد بحيث إنه يتوقف في كل ما قال فيه واحد منهم عن ولم يصرح بالسماع ، بل هم على طبقات :

أولها : من لم يوصف بذلك إلا نادرا جدا بحيث إنه لا ينبغي أن يعد فيهم كيحيى بن سعيد الأنصاري ، وهشام بن عروة ، وموسى بن عقبة .

وثانيها : من احتمل الأئمة تدليسه وخرجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع ، وذلك إما لإمامته أو لقلة تدليسه في جنب ما روى ، أو لأنه لا يدلس إلا عن ثقة ، وذلك كالزهري وسليمان الأعمش ، وإبراهيم النخعي ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وسليمان التيمي ، وحميد الطويل والحكم بن عتبة ، ويحيى بن أبي كثير ، وابن جريج ، والثوري ، وابن عيينة ، وشريك ، وهشيم …

وثالثها : من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا بهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ، وقبلهم آخرون مطلقا كالطبقة التي قبلها لأحد الأسباب المتقدمة كالحسن([78]) ، وقتادة ، وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي ، وأبي سفيان طلحة بن نافع ، وعبد الملك بن عمير .

وخامسها : من قد ضعف بأمر آخر غير التدليس فرد حديثهم به لا وجه له إذ لو صرح بالتحديث لم يكن محتجا به كأبي جناب الكلبي ، وأبي سعد البقال ونحوهما فليعلم ذلك ) .

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه طبقات المدلسين هذه الطبقات وذكر تحت كل طبقة عددا من الموصوفين بالتدليس ، كذلك ذكر في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح([79]) طبقات المدلسين والموصوفين به .

وسبق في بيان حكم المدلسين وكيفية التعامل مع كل نوع من أنواع التدليس فلا يجوز الاعتماد على طبقات المدلسين فقط في قبول الحديث أو رده بل ينبغي النظر كذلك إلى نوع التدليس ، وكلام العلماء على هذا المدلس ، وحكمهم على هذا الحديث الذي دلس إسناده .

 

  ([1])ينظر  : نزهة النظر ص (61) ، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (414) ، واليواقيت والدرر للمناوي  (2/7) ، والنكت على نزهة النظر ص (112) .

  ([2])ينظر  : توضيح الأفكار (1/346) ، التبصرة والتذكر (1/179) ، الشذا الفياح في علوم ابن الصلاح (1/173) ، فتح الباقي شرح ألفية العراقي ص (164) ، اليواقيت والدرر (2/10) ، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (416) ، نزهة النظر ص (160) ، الباعث الحثيث (1/172) ، فتح المغيث شرح ألفية الحديث (1/313) ، تدريب الراوي (1/256) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (165) والإرشاد (1/205) ، والتقريب ص (63) ، والاقتراح ص (217) ، والمنهل الروي ص (72) ، والخلاصة ص (74) ، والموقظة ص (47) ، ومقدمة طبقات المدلسين ص (13) ، وظفر الأماني ص (373) .

  ([3])ينظر  : المصباح المنير ص (76) ، ومختار الصحاح ص (209) ، والقاموس المحيط ص (703) ، وتاج العروس (16/84) ، ومعجم مقاييس اللغة (2/340) ، وتهذيب اللغة (12/362) ، والمحكم (8/452) ، لسان العرب (4/387) .

  ([4])ينظر  :  اليواقيت والدرر (2/10)  ، والخلاصة للطيبي ص (74) ، وظفر الأماني اللكنوي ص (373) ، وشرح ديباج المذهب ص (46) ، وجوهر الأصول ص (49) .

  ([5])ينظر  : فتح الباقي ص (164) ، والباعث الحثيث (1/172) ، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (420) ، وتدريب الراوي (1/256) ، فتح المغيث (1/313) ، اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر (2/15) ، وتوضيح الأفكار (1/350) ، التبصرة والتذكرة (1/179) ، والشذا الفياح (1/173) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (165) ، والاقتراح لابن دقيق العيد ص (217) ، والموقظة ص (47) ، والتوضيح الأبهر للسخاوي ص (46) ، والتقييد والإيضاح للعراقي ص (78) ، إرشاد طلاب الحقائق (1/205) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح (2/614) ، أصول الحديث ص (363) .

  ([6])نزهة النظر ص (115) .

  ([7])رواه في المسند رقم الحديث (1975) .

  ([8])طبقات المدلسين ص (50) ذكره في المرتبة الثانية .

  ([9])ينظر : معرفة علوم الحديث للحاكم ص (130) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (166) .

  ([10])طبقات المدلسين ص (59) ذكره في المرتبة الثالثة .

  ([11])ينظر  : التقييد الإيضاح ص (78) ، والنكت على ابن الصلاح (2/616) ، تدريب الراوي (1/257) ، وفتح المغيث (1/338) ، والشذا الفياح (1/174) ، وتوضيح الأفكار (1/372) ، شرح شرح نخبة الفكر ص (422) ، شرح ألفية العراقي (1/190) .

  ([12])فتح المغيث (1/338) .

  ([13])تاريخ دمشق (28/18) . ينظر السلسلة الضعيفة رقم (6158) .

  ([14])لا يواسى بينهم : لا يسوى بينهم ، فيعلم ابن الغنى ومن يعطيه مالاً أكثر ما لا يعلم ابن الفقير ، أو اليتيم.

  ([15])حديث السرج (3/236) رقم (2628) ، والبيهقي في دلائل النبوة (6/107) . ينظر السلسلة الضعيفة رقم (6482) .

  ([16])تقريب التهذيب (1/485) رقم (7456) .

  ([17])تاريخ الإسلام (4/1240) .

  ([18])تقريب التهذيب (1/519) رقم (6464) .

  ([19])ميزان الاعتدال (6/15) .

  ([20])تقريب التهذيب (1/507) رقم (6304) .

  ([21])تهذيب التهذيب (9/406) رقم (744) .

  ([22])تنبيه : الشيخ الألباني –رحمه الله تعالى- صنيعه في السلسلة الصحيحة حديث رقم (2308) يدل على أن محمد بن مصفى يدلس تدليس الإسناد فقط ، وأما في كتابه تخريج أحاديث مشكلة الفقر ص (54) فكأنه ارتضى قول أبي زرعة في أن محمد بن مصفى يدلس تدليس التسوية فإنه قال – على إسناد رواه الطبراني عن محمد بن مصفى حدثنا العباس بن إسماعيل الهاشم حدثنا الحكم بن عطية عن عاصم الأحول عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ – : (إسناده حسن لولا العنعنة بين الحكم وعاصم من جهة ، وبين عاصم وأنس من جهة أخرى ، فيخشى أن يكون ابن مصفى واسطة ما في أحد الموضعين ) .

  ([23])تقريب التهذيب (1/276) رقم (2934) .

  ([24])تقريب التهذيب (1/126) رقم (734) .

  ([25])السلسلة الضعيفة (12/105) .

  ([26])تدريب الراوي (1/257) .

  ([27])الكفاية ص (402) .

  ([28])فتح المغيث (1/338) .

  ([29])السلسلة الضعيفة (13/1082) .

  ([30])ينظر : الكفاية ص (373) ، والإقتراح ص (218) ، فتح الباقي ص (168) ، الباعث الحثيث (1/176) ، شرح شرح نخبة الفكر ص (421) ، الموقظة ص (48) ، التوضيح الأبهر ص (46) ، اليواقيت والدرر (2/15) ، شرح ألفية العرقي للأنصاري (1/179) ، توضيح الأفكار (1/370) ، الشذا الفياح (1/173) ، وفتح المغيث (1/331) ، إرشاد طلاب الحقائق (1/207) ، النكت على كتاب ابن الصلاح (2/615) ، تدريب الراوي (1/216) ، التقييد والإيضاح ص (80) ، مقدمة ابن الصلاح ص (167) ، وأصول الحديث ص (365) .

  ([31])في المسند رقم الحديث (24331) .

  ([32])تقريب التهذيب (1/526) رقم (6575) .

  ([33])الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/272) .

  ([34])تهذيب الكمال (27/409) .

  ([35])في المسند رقم الحديث (5732) .

  ([36])تقريب التهذيب (1/126) رقم (734) .

  ([37])النكت على كتاب ابن الصلاح (1/651) .

  ([38])ينظر :  النكت على كتاب ابن الصلاح (2/617) ، وتعريف أهل التقديس ص (16) ، وفتح المغيث (1/ 202) ، وتدريب الرَّاوِي (1/ 226) ، طبقات المدلسين لابن حجر ص (25) ، والباعث الحثيث ص (55) ، وتوضيح الأفكار (1/375) .

  ([39])معرفة علوم الحديث ص (164) .

  ([40])قال الحافظ في تهذيب التهذيب (11/53) : (هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي خازم الواسطي وقال العجلي : هشيم واسطي ثقة وكان يدلس وقال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث ثبتا يدلس كثيرا فما قال في حديثه : أنا فهو حجة ، وما لم يقل فليس بشيء ..) . وقال في تقريب التهذيب : (1/574) : (هشيم بالتصغير بن بشير بوزن عظيم بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي خازم بمعجمتين الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي) .

  ([41])ينظر : النكت على كتاب ابن الصلاح (2/617) ، وتدريب الرَّاوِي (1/224) ، وتوضيح الأفكار (1/376) ، شرح ألفية السيوطي للشيخ الأثيوبي (1/164) .

  ([42])النكت على كتاب ابن الصلاح (2/617) .

  ([43])مقدمة ابن الصلاح ص (166) .

  ([44])تهذيب التهذيب (7/427) .

  ([45])ينظر : النكت على كتاب ابن الصلاح (2/624) .

  ([46])ينظر : طبقات المدلسين لابن حجر ص (26)  .

  ([47])سيأتي بحث الإجازة إن شاء الله تعالى .

  ([48])ينظر : جامع التحصيل في أحكام المراسيل (1/114) .

  ([49])طبقات المدلسين ص(28) .

  ([50])أخرجه ابن عدي في الكامل (1/107) ، والخطيب في الكفاية ص (508) . وإسناده صحيح .

  ([51])أخرجه ابن عدي في الكامل (1/106-107) وإسناد حسن عن حماد ، وصحيح عن عوْف .

  ([52])أخرجه ابن حبان في المجروحين (1/ 92) ، وإسناده صحيح .

  ([53])للازدياد ينظر الكفاية للخطيب  (1/355) ، والكامل في الضعفاء (1/33) .

  ([54])ينظر : النكت على مقدمة ابن الصلاح  لا بن بهادر (2/18) .

  ([55])الرسالة ص (379) فقرة رقم (1033) و(1034) .

  ([56])ينظر : الرسالة ص (379) فقرة رقم (1035) ، البحر المحيط (6/207) ،تدريب الراوي (1/262) ، والتمهيد لابن عبد البر (1/31) ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/161) ، والنكت على ابن الصلاح (2/624) ، والكفاية ص (399) ، شرح ألفية السيوطي أحمد شاكر ص (33) ، والتقييد والإيضاح ص (80) ، مقدمة ابن الصلاح ص (171) .

  ([57])والصيغة التي يندفع بها التدليس هي : (سمعت) و (حدثني) و (حدثنا) و (أخبرني) و (أخبرنا) و (أنبأني) و (أنبأنا) و (قال لي) و (قال لنا) و (ذكر لي) و (ذكر لنا) , ونحو ذلك .

  ([58])التمهيد (1/30-31) .

  ([59])صحيح ابن حبان (1/161) .

  ([60])رواه البيهقي عن شعبة معلقا في معرفة السنن والآثار (1/86) ، ووصلة الحافظ محمد بن طاهر المقدسي في كتابه مسألة التسمية ص (47) بسند رجاله ثقات . والعمل على هذا عند العلماء فإنهم يقبلون رواية شعبة عن هؤلاء حتى لو رووا الحديث بالعنعنة قال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي قبل ذكر هذه الرواية عن شعبة في كتابه مسألة التسمية ص (46) : (واعلم أن هؤلاء الأئمة الذين قدمت ذكرهم من قواعد الصحيح إلا أن الشيخين لم يخرجا هذا الحديث من روايتهم عن قتادة وإنما اعتمدوا على طريق شعبة وعلى طريق الأوزاعي والسبب أن قتادة كان يدلس ولم يكن أحد يمكنه أن يسأله عما سمع مما لم يسمع إلا شعبة وله في ذلك حكايات يعرفها أهل النقل)  .

  ([61])طبقات المدلسين ص (59) .

  ([62])ينظر : سؤالات الحاكم ص (174) ، والنكت على مقدمة ابن الصلاح (2/72) .

  ([63])رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه ص (356) بسند صحيح .

  ([64])إرواء الغليل (3/ 97) .

  ([65])إرواء الغليل (4/ 44) .

  ([66])إرواء الغليل (5/ 202) .

  ([67])أخرجه ابن أبي حاتم في التقدمة ص (241) وسنده صحيح .

  ([68])فتح الباري المقدمة ص (418) .

  ([69])تاريخ بغداد (968) .

  ([70])الكامل في ضعفاء الرجال (1/151) .

  ([71])الكامل في ضعفاء الرجال (3/207) .

  ([72])أصول السرخسي (1/359) .

  ([73])روضة الناظر (2/425) .

  ([74])رواه الإمام أحمد في المسند برقم (18493) .

  ([75])أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ ، قال في تحرير علوم الحديث (2/949) : إسناده حسن .

  ([76])ينظر : الكفاية ص (403) ، وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/264) ، وتوضيح الأفكار(1/368) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (171) .

  ([77])جامع التحصيل في أحكام المراسيل ص (113) .

  ([78])الحسن بن ذكوان فقد ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين ص (60) .

  ([79])(2/636) .

 

الحديث المنقطع

النوع الرابع : الحديث المنقطع :

المسألة الأولى : تعريفه :

المنقطع لغة([1]) : المُنْقَطِعُ ضد المُتَصِل ، والقَطْعُ إِبانةُ بعض أَجزاء الجِرْمِ من بعضٍ فَصْلاً ، قَطَعَه يَقْطَعُه قَطْعاً وقَطِيعةً وقُطوعاً .

والمنقطع اصطلاحا([2]) : سقوط راوٍ أو أكثر أثناء السند لكن ليس على التوالي .

مثاله :

قال الترمذي([3]) : (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَمَّرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ ، عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ ، عَنْ عَبْدِ الجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: ((اسْتُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَدَرَأَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الحَدَّ ، وَأَقَامَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مَهْرًا )) .

هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ .

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ : عَبْدُ الجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَلاَ أَدْرَكَهُ ، يُقَالُ : إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِأَشْهُرٍ .

وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَغَيْرِهِمْ : أَنْ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَكْرَهَةِ حَدٌّ ) .

مثال آخر :

قال الحاكم([4]) : (حدثنا أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه ثنا محمد بن سليمان الحضرمي حدثنا محمد بن سهل ثنا عبد الرزاق قال : ذكر الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيع عن حذيفة قال : قال رسول الله ﷺ : ((إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم وإن وليتموها علياً فهاد مهدي يقيمكم على طريق مستقيم )) .

هذا إسناد لا يتأمله متأمل إلا علم اتصاله وسنده ، فإن الحضرمي ومحمد بن سهل بن عسكر ثقتان ، وسماع عبد الرزاق من سفيان الثوري واشتهاره به معروف ، وكذلك سماع الثوري من أبي إسحاق ، واشتهاره به معروف ، وفيه انقطاع في موضعين ، فإن عبد الرزاق لم يسمعه من الثوري ، والثوري لم يسمعه من أبي إسحاق .

أخبرنا أبو عمرو بن السماك ثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي حدثنا محمد بن أبي السري ثنا عبد الرزاق أخبرني النعمان بن أبي شيبة الجندي عن سفيان الثوري عن إسحاق فذكر نحو ز .

حدثنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة ثنا الحسن بن علويه القطان حدثني عبد السلام بن صالح ثنا عبد الله بن نمير ثنا سفيان الثوري ثنا شريك عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثيع عن حذيفة قال : ذكروا الإمارة والخلافة عن النبي ﷺ . فذكر الحديث بنحوه .

قال الحاكم : وكل من تأمل ما ذكرناه من المنقطع علم وتيقن أن هذا العلم من الدقيق الذي لا يستدركه إلا الموفق والطالب المتعلم ) .

المسألة الثانية : إطلاقات المنقطع :

عرفت أن المنقطع هو سقوط راوٍ أو أكثر أثناء السند لكن ليس على التوالي ، وهذا اشتهر عند المتأخرين ، لكن قد يطلق المنقطع على المقطوع([5]) ، ويطلق على كل ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان الانقطاع ، سواء كان في أو السند أو وسطه أو آخره وسواء كان سقط منه راو أو أكثر على التوالي أو ليس كذلك فيشمل المرسل والمعضل والمعلق ، ويطلق على إبهام الراوي في السند كأن يقال: (عن رجل) أو (عن شيخ) ، وكقول الراوي : (حدثت عن فلان) و (أخبرت عن فلان) فهو وإن ذكر الراوي ، لكنه أبهمه فأشبه الانقطاع ؛ للتساوي في جهالة الراوي عيناً وحالاً ، فلهذا سمي منقطعا([6]) .

مثال هذه الصورة :

قال الإمام أحمد([7]) :  حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، سَمِعَهُ مِنْ شَيْخٍ ، فَقَالَ مَرَّةً : سَمِعْتُهُ مِنْ رَجُلٍ ، مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَعْرَابِيٍّ ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَنْ قَرَأَ : ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ . فَقَالَ : ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ سورة المرسلات: 50 ، فَلْيَقُلْ : آمَنَّا بِاللهِ ، وَمَنْ قَرَأَ : ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ ، فَلْيَقُلْ : بَلَى ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ : ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ سورة القيامة: 40 ، فَلْيَقُلْ: بَلَى )) .

وهذا الحديث إسناده ضعيف لجهالة الراوي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- ، وهو عند بعض العلماء حديث منقطع .

قال الخطيب([8]) : (والمنقطع مثل المرسل إلا أن هذه العبارة تستعمل غالبا في رواية من دون التابعي عن الصحابة ، مثل : أن يروى مالك بن أنس عن عبد الله بن عمر ، أو سفيان الثوري عن جابر بن عبد الله ، أو شعبة بن الحجاج عن أنس بن مالك ، وما أشبه ذلك .

وقال بعض أهل العلم بالحديث : الحديث المنقطع ما روي عن التابعي ومن دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله ) .

قال النووي : (المنقطع الصحيح الذي ذهب إليه الفقهاء ، والخطيب ، وابن عبد البر وغيرهم من المحدثين أن المنقطع ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان  انقطاعه ، وأكثر ما يستعمل في رواية من دون التابعي عن الصحابي كمالك عن ابن عمر .

وقيل : هو ما اختل منه رجل قبل التابعي محذوفا كان أو مبهما كرجل .

وقيل : هو ما روي عن تابعي أو من دونه قولا له أو فعلا . وهذا غريب ضعيف)([9]) .

المسألة الثالثة : حكم المنقطع :

الحديث المنقطع ضعيف لا يحتج به لتخلف شروط من شوط الصحة وهي الاتصال ، فإذا كان المرسل ضعيفاً فالمنقطع أولى منه لأن الساقط والمجهول في المرسل يحتمل أن يكون صحابياً وهم عدول أو تابعياً وهم أقرب إلى العدالة .

المسألة الرابعة : طرق معرفة المنقطع :

الطرق التي يعرف بها الانقطاع ما يأتي :

الطريق الأول : التنصيص من الراوي أو الناقد على عدم السماع([10]) .

  • قد ينص الراوي نفسه على عدم السماع ، مثاله : قول عمرو بن مرة : قلت لأبي عبيدة (يعني ابن عبد الله بن مسعود) : تذكر من أبيك شيئاً؟ قال : لا([11]) .
  • وقد يكون بتنصيص من روى عنه من الثقات ، مثاله : قال شعبة : قال لي عبد الملك بن ميسرة : الضحاك لم يسمع من ابن عباس ، إنما لقي سعيد بن جبير بالري فسمع منه التفسير([12]) .
  • وقد يكون بتنصيص الناقد العارف بالرجال ، بناء على الاستقراء والنظر ، على عدم الإدراك ، أو اللقاء ، أو السماع ، بقوله مثلاً : (فلان لم يدرك فلاناً ، لم يلق فلاناً ، لم يسمع فلاناً ، عن فلان مرسل ) .

وقد يختلف فيه بين النقاد ، فمن مرجح للسماع ومن مرجح لخلافه ، فيحرر الراجح بأصول الجرح والتعديل .

الطريق الثاني : معرفة التاريخ .

المقصود به تمييز تاريخ وفاة الشيخ ، ومولد التلميذ ، فإن كان التلميذ لم يولد إلا بعد وفاة الشيخ أو قبل وفاته بسنة أو سنتين أو ثلاثة ونحوه  بحيث كان صغير السن لا يَحْتَمل السماع ، فهو انقطاع .

وهذا طريق سلكه النقاد الكبار في معرفة الاتصال والانقطاع في الأسانيد ، واستدلوا به كثيراً .

مثاله : عبد الرحمن بن أبي ليلى ، من كبار التابعين ، وقد روى عن أبي بكر الصديق ، ومات أبو بكر سنة (113) ، وقال ابن أبي ليلى : ولدت لست بقين من خلافة عمر([13]) . فروايته عنه بهذا الاعتبار منقطعة قطعاً .

الطريق الثالث : مجيء الرواية بصيغة تدل على وجود واسطة بين الراوي ومن فوقه .

مثاله : قول الراوي : (حُدثت عن فلان) أو نحوها ، وهذا بين في الانقطاع من أجل البناء للمجهول ، وأمثلته واردة في الأسانيد بنسبة غير قليلة .

الطريق الرابع : أن يقوم دليل على أن رواية فلان عن فلان بواسطة بينهما ، فإذا وجدت دون الواسطة فهي منقطعة .

مثاله : رواية سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مولى النبي ﷺ ، فإنه لا يذكر في شيء من روايته سماعاً من ثوبان ، وغالب ما يرويه من حديث ثوبان يدخل بينه وبينه فيه معدان بن أبي طلحة .

ولذا قال الإمامان أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي : لم يسمع من ثوبان ، بينهما معدان بن أبي طلحة([14]) .

الطريق الخامس : تباعد بلد الراوي عن بلد من يروي عنه :

تباعد بلد الراوي عن بلد من يروي عنه قرينة على الانقطاع بحيث يغلب على نظر الباحث بعد تلاقيهما ، كأن يكون الراوي من بلد المشرق ومن يروي عنه من المغرب ، ولم يرحل هذا إلى المشرق ، ولا الراوي إلى المغرب ، ولم يثبت اجتماعهما في الحج في نفس السنة .

وقد يكون كلاهما من المشرق ، وكل واحد منها في بلد تبعد عن الأخرى بعدا يحتاج إلى سفر طويل ، ولم يرحل الأول إلى بلد الثاني ، ولا الثاني إلى بلد الأول ، ولم يثبت اجتماعهما في الحج في نفس السنة ، فهذه قرينة على الانقطاع .

قال ابن رجب([15]) : (ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رحل إلى بلده ، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه .

ونقل مهنا عن أحمد قال : لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري -رضي الله عنه- ، تميم بالشام ، وزرارة بصري .

وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- : لقد أدركه ، ولا أظنه سمع منه ، ذاك بالشام ، وهذا بالبصرة …

وكذلك رواية من هو في بلد عمن ببلد آخر ، ولم يثبت اجتماعهما ببلد واحد يدل على عدم السماع منه) .

 

  ([1])ينظر : المحكم (1/159) ، ولسان العرب (11/221) ، وتهذيب اللغة (1/187) ، ومصباح المنير ص (194) ، والقاموس المحيط ص (972) .

  ([2])ينظر : تدريب الراوي (1/235) ، والباعث الحثيث (1/162) ، النكت على نزهة النظر ص (112) ، وفتح المغيث (1/276) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (150) ، وشرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (412) ، توضيح الأفكار (1/323) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (144) ، والشذا الفياح (1/159) ، واليواقيت والدرر في شرح نخبة الفكر (2/3) .

  ([3])سنن الترمذي (3/107) رقم الحديث (1453) .

  ([4])معرفة علوم الحديث ص (70) .

  ([5])وهو ما رواه دون الصحابي كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .

  ([6])معرفة علوم الحديث ص (27) .

  ([7])المسند (12/353) رقم الحديث (7391) .

  ([8])الكفاية ص (37) .

  ([9])ينظر : تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/235) .

  ([10])ينظر : ألفية السيوطي البيت رقم (181) وشروحها .

  ([11])أخرجه أحمد في العلل رقم (456) ، وابن أبي حاتم في المراسيل ص (256) بإسناد صحيح .

  ([12])أخرجه ابن أبي حاتم في المراسيل ص (95) بإسناد صحيح .

  ([13])أخرجه ابن أبي حاتم في المراسيل ص (126) .

  ([14])ينظر  : المراسيل لابن أبي حاتم ص (55) ، وتهذيب الكمال (10/132) .

  ([15])شرح علل الترمذي (2/36) .

الحديث المعضل

النوع الثالث : الحديث المعضل :

المسألة الأولى : تعريفه :

المعضل لغة([1]) : اسم مَفْعُولٍ من أَعْضَلَهُ بمعنى أَعْيَاه ، وعَضَلَ عليه عَضْلاً : ضَيَّقَ وحالَ بينه وبين مُرادِه . وعَضَّلَ عليه تَعْضِيلاً وعَضَّلَ به الأمرُ : أي اشتدَّ عن ابْن دُرَيْدٍ كَأَعْضَلَ إذا ضاقَتْ عليه الحِيَلُ ، والأمر المُعْضِل ، وهو الشَّديد الذي يُعيِي إصلاحُه وتدارُكُه ، وأصلُ العَضْلِ : المَنْعُ والشِّدّة . وأَعْضَلَه الأمرُ : غَلَبَه .

المعضل اصطلاحا([2]) : ما سقط منه راويان فأكثر على التوالي .

مثاله :

روى الإمام مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا يُطِيقُ ))([3]) .

هذا الحديث معضل لأنه سقط منه راويان متواليان بين مالك وأبي هريرة –رضي الله عنه- وهما : محمد بن عجلان ، وأبوه فقد رواه الحاكم([4]) قال : أخبرنا أبو الطيب محمد بن عبد الله الشعيري حدثنا خمش بن عصام المعدل ثنا حفص بن عبد الله ثنا إبراهيم بن طهمان عن مالك بن أنس عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ([5]).

المسألة الثانية : إطلاق لفظ المعضل :

اعلم أن إطلاق لفظ (المعضل) لم يكن شائعا عند المتقدمين بالمعنى الذي شاع عند المتأخرين وسبق بيانه ، وكان عند غالب المتقدمين لفظ (المعضل) مندرجا تحت الحديث المنقطع أو المرسل بعموم معناهما .

فقد أطلق كثير من المحدثين لفظ (المعضل) على الراوي الذي يروي الحديث الموضوع والمنكر ، وإليك بعض عباراتهم :

قال ابن عدي([6]) : (الحسن بن زيد هذا يروي عن أبيه وعكرمة أحاديث معضلة ) .

وقال([7]) في حصين بن عمر : (عامة أحاديثه معاضيل ينفرد عن كل من يروي عنه) .

وقال العقيلي([8]) : (عُمر بن يَزيد الشَّيباني الرَّفَّاء , شَيخ بَصريٌّ : مَجهول بِالنَّقل ، جاء عن شُعبة بِحَديث مُعضَل ) .

وقال الذهبي([9]) : (ضُبَارَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكٍ … ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ ، وَسَاقَ لَهُ أَحَادِيثَ تُنْكَرُ . وَقَالَ الْجُوزْجَانِيُّ : رَوَى حَدِيثًا مُعْضِلا ) . قال الحافظ ابن حجر([10]) : (وهو متصل الإسناد) .

وقال ابن حبان([11]) في عمر بن محمد بن صهبان الأسلمي : (يروي عن الثقات المعضلات التي إذا سمعها من الحديث صناعته لم يشك أنها معمولة  ) .

وقال([12]) عن المسيب بن شريك التميمي : (ظهر من حديثه المعضلات التي يرويها عن الأثبات ، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل التعجب) .

ولهذا قال الحافظ ابن حجر([13]) : (وجدت التعبير بالمعضل في كلام الجماعة من أئمة الحديث فيما لم يسقط منه شيء البتة .

فمن ذلك : ما قال محمد بن يحيى الذهلي – في الزهريات -: حدثنا أبو صالح الهراني2 ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ((كان رسول الله ﷺ يعتكف فيمر بالمريض فيسلم عليه ولا يقف)) .

قال الذهلي : (هذا حديث معضل لا وجه له إنما هو فعل عائشة – رضي الله عنها – ليس للنبي ﷺ فيه ذكر ، والوهم فيما نرى من ابن لهيعة) .

ومن ذلك : قال النسائي – في اليوم الليلة – : ثنا يزيد بن سنان نا مكي بن إبراهيم ، عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر – رضي الله تعالى عنه – قال : ((متعتان كانتا على عهد رسول الله ﷺ ..)) الحديث .

قال النسائي : ( هذا حديث معضل لا أعلم من رواه غير مكي ، لا بأس به ، لا أدري من أنبأني به) …

فإذا تقرر هذا فإما أن يكونوا يطلقون المعضل لمعنيين ، أو يكون المُعْضَل الذي عرف به المصنف ، وهو المتعلق بالإسناد بفتح الضاد ، وهذا الذي نقلناه من كلام هؤلاء الأئمة بكسر الضاد و يعنون به المستغلق الشديد . وفي الجملة فالتنبيه على ذلك كان متعينا ) .

تنبيه :

إطلاق لفظ المعضل بالتعريف المتقدم وهو : ما سقط منه راويان فأكثر على التوالي . قد عرف عند العلماء المتقدمين ، قال الحافظ ابن حجر([14]) : (فإن قيل : فمن سلف المصنف([15]) – في نقله – أن هذا النوع يختص بما سقط من إسناده اثنان فصاعدا ؟

قلنا : سلفه في ذلك علي بن المديني ومن تبعه . وقد حكاه الحاكم في علوم الحديث عنهم . فإنهم قالوا : المعضل : أن يسقط بين الرجل وبين النبي ﷺ أكثر من رجل ، والفرق بينه وبين المرسل أن المرسل مختصر التابعين دون غيرهم – والله الموفق – ) .

المسألة الثالثة : حكم الحديث المعضل :

الحديث المعضل ضعيف لا يحتج به لأنه أسوأ حالا من المرسل لتعدد الساقط من إسناده وجهالتهم ، فهو فاقد لشرط من شروط الصحة وهو الاتصال .

المسألة الرابعة : طرق معرفة الإعضال في الإسناد :

يعرف الإعضال في إسناد الحديث بما يأتي :

أولاً: يعرف الإعضال بمعرفة التاريخ فالذي روى الحديث عمن فوقه وكانت طبقة الراوي عن طبقة عنه بعيده ، بحيث إن الناظر في الإسناد يرى أن وفاة الأول متأخرة جدا عن وفاة من روى عنه بحيث يغلب على ظنه أن بينهما راويين على أقل تقدير .

ثانياً : يعرف بدلالة جمع طرق الحديث ، فيجد أن الإسناد الذي معه قد سقط منه أكثر من راوي بدلالة الإسناد الآخر الذي جاء من نفس طريق الراوي ، لكن ثبوت الإعضال بهذا الطريق قليل نادر .

 

  ([1])ينظر : لسان العرب (9/259) ، والصحاح (5/1766) ، ومختار الصحاح ص (438) ، وتهذيب اللغة (1/474) ، ومعجم مقاييس اللغة (4/345) ، والقاموس المحيط ص (1335) ، وتاج العروس (30/1) .

  ([2])ينظر : علوم الحديث لابن الصلاح ص (54) ، مقدمة ابن الصلاح ص (147) ، والتقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح ص (65) ، النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/575) ، وتوضيح الأفكار (1/323) ، وشرح نخبة الفكر القاري ص (409) ، النكت على نزهة النظر ص (112) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (150) ، وفتح المغيث (1/279) ، الباعث الحثيث (1/167) ، وتدريب الراوي (1/240) ، والديباج المذهب للجرجاني ص (54) ، والاقتراح لابن دقيق ص (208) ، إرشاد الحقائق للنووي (1/183) .

  ([3])رواه الإمام مالك في الموطأ (2/980) رقم  (1769) .

  ([4])معرفة علوم الحديث ص (80) .

  ([5])الحديث قد رواه الإمام مسلم موصولا عن أبي هريرة –رضي الله عنه- من غير طريق الإمام مالك في الأيمان /باب إِطْعَامِ الْمَمْلُوكِ مِمَّا يَأْكُلُ وَإِلْبَاسِهِ مَمَّا يَلْبَسُ وَلاَ يُكَلِّفُهُ مَا يَغْلِبُهُ رقم الحديث (4406) .

  ([6])الكامل في الضعفاء (2/326) .

  ([7])الكامل في الضعفاء (3/301) .

  ([8])الضعفاء للعقيلي (4/200) .

  ([9])تاريخ الإسلام (3/898) .

  ([10])النكت (2/576) .

  ([11])المجروحين لا بن حبان (2/82) .

  ([12])المجروحين لا بن حبان (3/24) .

  ([13])النكت (2/575) .

  ([14])النكت (2/579) .

  ([15])يعني ابن الصلاح .

الحديث المرسل

النوع الثاني : الحديث المرسل :

المسألة الأولى : تعريفه :

المرسل لغة([1]) : اسم مفعول مشتق من الإرسال وهو : الإطلاق والإهمال . والرَّسَل القَطِيع من كل شيء والجمع أَرسال .

المرسل اصطلاحاً : يختلف تعريف المرسل عند المحدثين عن تعريفه عند الفقهاء والأصوليين ، وإليك بيان ذلك :

عرّف أكثر الأصوليين وبعض المحدثين أن المرسل هو ([2]) : قول من لم يلق النبي ﷺ قال رسول الله ﷺ .

وعرّف أكثر المحدثين وبعض الأصوليين أن المرسل هو([3]) : ما أضافه التابعي إلى النبي ﷺ.

إلا أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- أضاف قيداً فقال في تعريف المرسل([4]) : (ما أضافه التابعي إلى النبي ﷺ مما سمعه من غيره ) .

واحترز الحافظ -رحمه الله تعالى- بهذا القيد ليخرج التابعي الذي سمع النبي ﷺ وهو في حال الكفر ، ثم أسلم بعد وفاة النبي ﷺ ، وحدث عنه بما سمعه منه ، فإن سماعه من النبي ﷺ صحيح متصل وهو داخل في تعريف المرسل ، فيخرج بهذا القيد .

وتعريف المرسل عند المحدثين كما ترى أخص من تعريف الأصوليين .

مثال المرسل :

قال الإمام مالك([5]) أخبرنا أبو حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب : ((أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الغرر ))([6]) ، فإن سعيد بن المسيب من التابعين رفع الحديث إلى النبي ﷺ .

تنبيه :

هناك صورتان لا بد من التنبه لهما تحت تعريف المرسل :

الصورة الأولى : ظاهرها الاتصال وهي في الحقيقة غير متصلة بل هي مرسلة ، وهي رواية من رأى النبي ﷺ ولم يسمع منه شيئاً([7]) ، كالصحابي غير المميز لصغره عند سماعه من النبي ﷺ ، فهو له شرف الصحبة لا حكمها في الرواية ، وحديثه من قبيل المرسل ولا يعد متصلاً فهو بمنزلة رواية كبار التابعين .

مثل : جَعْدة بن هبيرة المخزومي ، ولد في حياة النبي ﷺ وله رؤية ثبت له بها شرف الصحبة .

قال يحيى ابن معين([8]) : ( جعدة بن هبيرة لم يسمع من النبي ﷺ شيئاً ) .

ولهذا اختلف أهل العلم في الحكم عليه ، فذهب بعضهم كالعجلي وغيره إلى أنه تابعي لأنهم نظروا إلى عدم سماعه من النبي ﷺ فحديثه حكمه الإرسال ، وذهب آخرون إلى أنه صحابي ، فحكموا له بالصحبة بسبب الرؤيا .

والتحقيق أنه صحابي على تعريف الصحابي فله شرف الصحبة ، لكن حكم حديثه حكم روايات كبار التابعين لأنه لم يسمع من النبي ﷺ شيئاً([9]) .

الصورة الثانية : ظاهرها الإرسال وهي معضلة ، وهي رواية من له رؤية لبعض الصحابة ، ولم يسمع من أحد منهم شيئاً ، فهذا تثبت له شرف التابعية لا حكمها ، فروايته عن النبي ﷺ معضلة ، فإن الساقط بينه وبين النبي ﷺ اثنان تابعي وصحابي([10]) ، وسقوط الصحابي لا يضر ، لكنه قد يسقط أكثر من تابعي فتكون روايته معضلة لسقوط راويين فأكثر على التوالي ، وأما روايته عن الصحابة منقطعة لأنه لم يسمع منهم ، كروايات إبراهيم النخعي أو الأعمش عن النبي ﷺ([11]).

تنبيه آخر :

اعلم أن المتقدمين كثر عند بعضهم إطلاق المرسل على كل منقطع الإسناد ، مثاله :

قال أبوداود([12]) حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَمُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خَالِدٍ قَالَ يَعْقُوبُ ابْنُ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : ((أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَالَ : يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ )) .

قَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا مُرْسَلٌ خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- .

وهذا منقطع وليس مرسلا على الاصطلاح لأن خالد لم يرسل الحديث إلى النبي ﷺ ، ولهذا يكثر قول العلماء في التراجم : (يرسل الحديث عن فلان) و(كثير الإرسال عن فلان) أي منقطع بينه وبين من أرسل عنه ، ولهذا وجب التنبيه .

المسألة الثانية : حكم الحديث المرسل :

اعلم أن الحديث المرسل على صورتين :

الصورة الأولى : مرسل الصحابي :

مرسل الصحابي على ضربين :

الضرب الأول : الصحابي الذي لم يسمع من النبي ﷺ شيئاً ، كالصحابي الصغير غير المميز عند سماعه ، وسبق أن حديثه لا يعد متصلاً ، وأن حديثه ينزل منزلة كبار التابعين ، وقد عرفت حكمها ، وحكم المرسل([13]) .

الضرب الثاني : الصحابي الذي سمع النبي ﷺ لكن يروي عنه حديثاً لم يسمعه من النبي ﷺ ، وهو مرسل صحابي ، وهذا وقع عند كثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- وأكثره في صغار الصحابة كعبد الله بن العباس ، وأنس بن مالك ، ومن تأخر إسلامه ، و مراسيل الصحابة محتج بها ولا يجوز ردها على الراجح .

قال السرخسي([14]) : (ولا خلاف بين العلماء في مراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- أنها حجة ، لأنهم صحبوا رسول الله ﷺ ، فما يروونه عن رسول الله عليه السلام مطلقا يحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم ، وهم كانوا أهل الصدق والعدالة ) .

وقال النووي([15]) : (مرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفراينى) .

قال الحافظ العراقي([16]) : (إن المحدثين وإن ذكروا مراسيل الصحابة فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها أما الأصوليون فقد اختلفوا فيها فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني إلى أنه لا يحتج بها ، وخالفه عامة أهل الأصول فجزموا بالاحتجاج بها …) .

ولا عبرة بخلاف أبي إسحاق –رحمه الله تعالى- لأن إجماع من قبله حجة عليه ، وقوله يعد شذوذا ، قال ابن قدامة([17]) : (مراسيل أصحاب النبي ﷺ مقبولة عند الجمهور وشذ قوم فقالوا : لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره ، أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي ، وإلا فلا ، لأنه قد يروي عمن لم تثبت لنا صحبته .

وهذا ليس بصحيح ، فإن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من أصاغر الصحابة مع إكثارهم ، وأكثر روايتهم عن النبي ﷺ مراسيل ) .

قال الخطيب البغدادي([18]) : (مراسيل الصحابة كلهم مقبولة لكونهم جميعاً عدولاً مرضيين ، وإن الظاهر فيما أرسله الصحابي ولم يبين السماع فيه أنه سمعه من رسول الله ﷺ أو من صحابي سمعه عن رسول الله ﷺ ، وأما من روى منهم عن غير الصحابة فقد بيّن في رواته ممن سمعه ، وهو أيضاً قليل نادر فلا اعتبار به ، وهذا هو الأشبه بالصواب عندنا …) .

يؤيده ما صح عن البراء بن عازب –رضي الله عنه- فإنه قال : (مَا كُلُّ الْحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الإِبِلِ)([19]) .

وروى قتادة السدوسي عن أنس بن مالك قصةً ، فقال له رجلٌ : سمعت هذا من أنس؟ قال : نعم . قال رجل لأنس : أَسَمِعه من رسول الله ﷺ ؟ قال : نعم ، وحدثني من لم يكذب ، والله ما كنّا نكذب ولا ندري ما الكذب([20]) .

الصورة الثانية : مرسل غير الصحابي :

اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في قبول والاحتجاج بمراسيل غير الصحابة ، على أقوال ، والراجح عدم قبول الحديث المرسل والاحتجاج به إلا إذا احتفت به القرائن ، وهو مذهب الأئمة([21]) كالأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهو قول أكثر أهل الحديث منهم الإمام مسلم ، والترمذي ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم الرازي ، وابن حبان ، والخطيب ، وابن حزم ، وغيرهم ، وهو قول كثير من الفقهاء والأصوليين .

ورجحت هذا المذهب لأن الراوي الساقط من السند مجهول ، فيحتمل أن يكون ضعيفاً ، فإذا كان رواية المجهول المسمى لا تقبل لجهالته ، فرواية المرسل من باب أولى لأن المروي عنه الساقط من السند مجهول العين والحال .

المسألة الثالثة : شروط قبول المرسل هي :

قال ابن رجب([22]) ملخصا ً شروط الإمام الشافعي في قبول الحديث المرسل([23]) : (ومضمون كلام الشافعي وهو كلام حسن جداً ، ومضمونه أن الحديث المرسل يكون صحيحاً ، ويقبل بشروط منها :

في نفس المُرْسِل وهي ثلاثة :

أحدها : أن لا يعرف له رواية عن غير مقبول الرواية ؛ من مجهول أو مجروح .

وثانيها : أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما أسندوه ، فإن كان ممن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يقبل مرسله .

وثالثها : أن يكون من كبار التابعين ، فإنهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي أو تابعي كبير ، وأما غيرهم من صغار التابعين ومن بعدهم فيتوسعون في الرواية عمن لا تقبل روايته .

وأيضاً فكبار التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة ، وأما من بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة ، وهي الباطلة الموضوعة ، وكثر الكذب حينئذ .

فهذه شرائط من يقبل إرساله .

وأما الخبر الذي يرسله :

فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته وأن له أصلاً ، والعاضد له أشياء :

أحدها – وهو أقواها- : أن يسنده الحفاظ المأمونون من وجه أخر عن النبي ﷺ بمعنى ذلك المُرْسَل ، فيكون دليلاً على صحة المرسل ، وأن الذي أرسل عنه كان ثقة . وهذا هو ظاهر كلام الشافعي …

والثاني : أن يوجد مرسل آخر موافق له ، عن عالم يروي عن غير من يروي عنه المُرْسِل الأول فيكون ذلك دليلاً على تعدد مخرجه ، وأن له أصلاً ، بخلاف ما إذا كان المُرْسِل الثاني لا يروي إلا عمن يروي عنه الأول ، فإن الظاهر أن مخرجهما واحد لا تعدد فيه …

والثالث : أن لا يوجد شيء مرفوع يوافقه ، لا مسند ولا مرسل ، لكن يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة ، فيستدل به على أن للمرسل أصلاً صحيحاً أيضاً ، لأن الظاهر أن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبي ﷺ .

والرابع : أن لا يوجد للمرسل ما يوافقه لا مسند ولا مرسل ولا قول صحابي ، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به ، فإنه يدل على أن له أصلاً ، وأنهم مسندون في قولهم إلى ذلك الأصل([24]) .

فإذا وجدت هذه الشرائط دلت على صحة المرسل وأنه له أصلاً ، وقبل واحتج به . ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة ، فإن المرسل وإن اجتمعت فيه هذه الشرائط فإنه يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذاً عن غير من يحتج به ، ولو عضده حديث متصل صحيح ، لأنه يحتمل أن لا يكون أصل المرسل صحيحاً . وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما واحداً وأن يكون متلقى عن غير مقبول الرواية ، وإن عضده قول صحابي فيحتمل أن الصحابي قال برأيه من غير سماع من النبي ﷺ فلا يكون في ذلك ما يقوي المرسل . ويحتمل أن المرسل لما سمع قول الصحابي ظنه مرفوعاً فغلط ورفعه ، ثم أرسله ولم يسم الصحابي ، فما أكثر ما يغلط في رفع الموقوفات ، وإن عضده موافقة قول عامة الفقهاء فهو كما لو عضده قول الصحابي وأضعف ، فإنه يحتمل أن يكون مستند الفقهاء اجتهاداً منهم ، وأن يكون المرسل غلط ورفع كلام الفقهاء ، لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جداً ) .

وذهب بعض أهل العلم إلى قبول الحديث المرسل بشرط واحد فقط وهو أن يكون المرسل ثقة ودليلهم على ذلك هو أن إرسال الثقة تعديل لمن أرسل عنه ، لأن عدم ذكره له دليل على أنه ثقة لأنه لو كان غير ذلك لبين .

جوابه :

الجواب الأول : هذه غير صحيح ، لأن المُرْسِل ربما لم يذكر الساقط لعدم علمه به أصلا ، والواقع العملي يشهد بذلك ، فكم من المُرْسِلين الذين كانوا يرون عن كل أحد .

الجواب الثاني : ليس كل ثقة له التمييز بين النقلة ، فقد لا يكون المُرْسِل من أهل الجرح والتعديل .

الجواب الثالث : سلمنا أنه من أهل الجرح والتعديل ، وأن الساقط عنده ثقة ، لكن مما هو معلوم أن الراوي قد يكون مختلفا فيه جرحا وتعديلا ، والجرح المفسر أرجح على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى ، فكيف السبيل إلى الترجيح بين الجرح والتعديل في راوي لم يذكر في الإسناد أصلا.

الجواب الرابع : أنه قد يكون الساقط ثقة عند المُرسِل ضعيف عند غيره ، فكيف نقبل من لا نعلم حاله .

الجواب الخامس : أن الثقات عرف اعتناؤهم بالأسانيد وذكرهم للرواة وهو الذي عرف به ضبطهم وإتقانهم ، فإذا ذكر من حدثه بالحديث فقد أُعذر ، فعدول أحدهم إلى الإرسال وعدم ذكر من حدثه يورد مظنة القدح في الراوي الذي أُسقط من الإسناد والشك فيه لأنه لو كان ثقة لحدث به وذكره في الإسناد ، ولهذا قال يحي بين سعيد القطان : (سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء لأنه لو كان فيه إسنادٌ صَاحَ به)([25]) .

الجواب السادس : أن المرسل منقطع لجهالة الساقط فلا يصح الاحتجاج به إلا مع وجود قرائن تدل على ثبوته ، ولهذا تجد المخالف لا يقبل الاحتجاج بالحديث المرسل لانقطاعه ، ولهذا يقول ابن عبد البر([26]) : (ثُمَّ إنِّي تَأَمَّلْت كُتُبَ الْمُنَاظِرِينَ والمختلفين من المتفقهين وأصحاب الأثر من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، فلم أَرَ أَحَدًا منهم يقنع من خَصَمَهُ إذَا احْتَجَّ عليه بِمُرْسَلٍ ، وَلَا يَقْبَلُ منه في ذلك خَبَرًا مَقْطُوعًا ، وَكُلُّهُمْ عِنْدَ تَحْصِيلِ الْمُنَاظَرَةِ يُطَالِبُ خَصْمَهُ بِالِاتِّصَالِ في الْأَخْبَارِ) .

وقال ابن رجب([27]) : (واعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ وكلام الفقهاء في هذا الباب ، فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلاً ، وهو ليس بصحيح على طريقتهم ، لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي ﷺ ، وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث ، فإذا عضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلاً قوي الظن بصحة ما دل عليه ، فاحتج به مع ما اختلف به من القرائن . وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة ) .

تنبيه :

نلاحظ أن السلف في زمن التابعين يتساهلون في قبول المرسل أكثر ممن بعدهم ، أما من بعد عصر التابعين فصار التشديد في قبول المرسل ، لأن عصر التابعين أقرب إلى زمن النبي ﷺ ، فالساقط من السند إلى الثقة أقرب منه للضعيف ولهذا كانوا ينظرون إلى المُرْسِل إذا كان ثقة تساهلوا في قبول إرساله ، بخلاف من بعدهم من العصور فالسقط والجهالة تزيد من حيث العدد والصفة ، إلا أنك عرفت أن المرسل ضعيف ولا يقبل حتى يوجد ما يقويه ، ولكن لا شك أن مرسل كبار التابعين أقوى من مرسل من دونهم . والله أعلم .

 

  ([1])ينظر : معجم مقاييس اللغة (2/392) ، والمحكم (8/472) ، وتهذيب اللغة (12/391) ، ولسان العرب (5/211) .

  ([2])ينظر : تيسير التحرير (3/102) ، وكشف الإسرار (2/40) ، والبحر المحيط (6/338) ، وفواتح الرحموت (2/222) ، والإحكام للآمدي (2/123) ، والمستصفى (2/281) ، والتحقيقات في شرح الورقات ص (500) ، والتحبير شرح التحرير (5/2136) ، وشرح الكوكب المنير (2/574) ، وشرح الورقات لابن الفركاح ص (294) ، وشرح اللمع (2/347) ، ونهاية السول للإسنوي (2/721) ، الأنجم الزاهرات ص (213) ، وشرح مختصر الروضة (2/230) ، والمذكرة ص (258) .

  ([3])ينظر : الاقتراح في الاصطلاح ص (208) ، وشرح أليفية العراقي للأنصاري (2/144) ، وتدريب الراوي (1/219) ، وكفاية الحفظة شرح الموقظة ص (120) ، وإسبال المطر على قصب السكر ص (110) ، والباعث الحثيث (1/153) ، وفتح الباقي شرح ألفية العراقي ص (141) ، والتقيد والإيضاح شرح مقدمة ابن صلاح ص (55) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح (2/540) ، وشرح نخبة الفكر ص (399) ، وكتاب إرشاد الحقائق (1/167) ، الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح (1/147) ، والنكت على نزهة النظر ص (109) ، واليواقيت والدرر على نخبة ابن حجر  (1/498) .

  ([4])النكت (2/546) .

 ([5])في الموطأ رقم (774) ، باب بيع الغرر  .

 ([6])النهي عن بيع الغرر رواه مسلم رقم (2783) بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : (( نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ))  . وروى البخاري معناه عن ابن عمر –رضي الله عنهما- رقم (2143) .

  ([7])تعريف الصحابي : هو من لقي النبي ﷺ مؤمناً به ومات على الإسلام ولو تخللت ردة في الأصح .

  ([8])تاريخ ابن معين رواية الدوري (3/46) رقم (187) .

  ([9])ينظر : أسد الغابة (1/539) ، ومعرفة الثقات للعجلي (1/268) ، وكتاب الجرح والتعديل (2/526) ، ومعجم أسامي الرواة (1/367) .

  ([10])بخلاف الرواية المرسلة فإنه قد يكون الساقط صحابي فقط أو صحابي وتابعي أما هذه الصورة فإنه لا يمكن أن يكون الساقط صحابي فقط .

  ([11])ينظر : تحرير علوم الحديث (2/923) .

  ([12])سنن أبي داود (4/106) رقم الحديث (4106) .

  ([13])وسبق بيان الراجح في أن له شرف الصحبة أما حكم الرواية فلا لأنه لم يسمع النبي ﷺ .

  ([14])أصول السرخسي (1/359) .

  ([15])شرح مسلم للنووي (2/197) .

  ([16])التقيد والإيضاح ص (63) .

  ([17])روضة الناظر (2/425) .

  ([18])الكفاية ص (424) .

  ([19])رواه الإمام أحمد في المسند برقم (18493) .

  ([20])أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ ، قال في تحرير علوم الحديث (2/949) : إسناده حسن .

  ([21])ينظر : الرسالة للإمام الشافعي ص (465)، ومقدمة صحيح مسلم بشرح النووي (1/132) ، والمجموع (1/60) ، والنكت على ابن الصلاح (2/546) ، والتمهيد (1/7) ، وشرح علل الترمذي لابن رجب ص (227) ، والكفاية في علم الرواية ص (426) ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/2) .

  ([22])شرح علل الترمذي (1/225) .

  ([23])تنظر : الرسالة للإمام الشافعي ص (461) .

  ([24])إن أراد بعامة أهل العلم الإجماع بنوعية فصحيح ، وإن أراد بعامة أهل العلم الكثرة مع وجود المخالف فلا ، فكم في كتب الفقه من المسائل أصلها حديث ضعيف جداً وعامة الفقهاء يقولون بها ، وأيضا ربما عامة الفقهاء قالوا بهذه المسألة بناء على هذا الحديث المرسل ، فيلزم من تقويته بقول عامة أهل العلم الدور ، فقوينا قول عامة أهل العلم بالمرسل الذي كنا قد قويناه بقول عامة أهل العلم .

  ([25])ينظر : الكفاية ص (426) ، وتدريب الراوي ص (205) ، وشرح علل الترمذي (1/212) .

  ([26])التمهيد (1/7) .

  ([27])شرح علل الترمذي (1/223) .

الحديث الضعيف والحديث المعلق

الحديث الضعيف .

المبحث الأول : تعريف الحديث الضعيف :

الضعيف لغة([1]) : الضَعْفُ والضُعْفُ – بفتح الضاد في لغة تميم و بضمها في لغة قريش-: خلاف القوَّة . قال تعالى : ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً…﴾  سورة الروم: ٥٤ ، بالوجهين (ضَعْف) و (وضُعْف) .

وقد ضَعُفَ فهو ضعيفٌ ، وأضْعَفَهُ غيره . وقومٌ ضِعافٌ وضُعَفاءُ وضَعَفَةٌ . واسْتَضْعَفَهُ ، أي عدَّه ضَعيفاً .

الضعيف اصطلاحا([2]) : كل حديث لم تجتمع فيه صفات القبول .

وصفات القبول التي تشترط للحديث الصحيح والحسن ، قد سبق ذكرها ، وعليه تكون مسالك الحديث الضعيف هي :

  • انقطاع السند (السقط من السند) .
  • عدم عدالة الرواة أو بعضهم أو أحدهم .
  • عدم ضبط الرواة أو بعضهم أو أحدهم .
  • اشتماله على الشذوذ سواء كان في متنه أو سنده أو فيهما .
  • اشتماله على علة قادحة سواء كانت في متنه أو سنده أو فيهما .
  • عدم مجيئه من وجه آخر إذا كان قابلا للانجبار .

 

* المسلك الأول : انقطاع السند (السقط من السند) :

السند والإسناد : هو سلسلة الرجال الذين يذكرهم راوي الحديث ابتداء بشيخه وانتهاءً بمن يسند إليه الخبر .

وقيل : الإسناد : هو رفع الحديث إلى قائله .

والسقط من السند : وسقط الرواة من السند إما أن يكون ظاهراً أو خفياً ، وإما أن يكون في أول السند أو في وسطه أو في آخره ، وإليك التفصيل :

القسم الأول : السقط الظاهر :

وهو سقط في رجال الإسناد ظاهر لا يخفى على من اشتغل بهذا العلم ، يشترك في معرفته كل المشتغلين بهذا العلم سواء كانوا من الحذاق أو ممن لهم معرفة واشتغال بهذا الفن([3]) .

وهذا القسم تندرج تحته أنواع :

النوع الأول : المعلق :

المسألة الأولى : تعريفه :

التعليق لغة([4]) : اسم مفعول من التَّعْلِيق ، عَلَّقَ الشيءَ بالشيءِ ومِنْهُ وعَلَيْهِ ، بمعنى أَنَاطَهُ بِهِ ، وعَلِقَ بالشيءِ عَلَقاً وعَلِقَهُ نَشِب فيه ، عَلِق الصيدُ في حِبَالته أَي نَشِب . والتَّعْلِيقُ جَعْلُ الشَّيءِ مُعَلَّقاً ليس له ما يَعْتَمِدُ عليه ، مأخوذٌ من تَعْلِيقِ الجِّدَارِ أو الطَّلاقِ .

والتعليق في الاصطلاح([5]) : ما حذف أو سقط من أول إسناده راوي أو أكثر على التوالي ، ولو إلى آخر الإسناد .

المسألة الثانية : صور المعلق وأمثلته([6]) :

الصورة الأولى : أن يحذف جميع السند ويضيفه إلى النبي ﷺ .

مثاله :

قول الإمام البخاري([7]) : وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ )) .

الصورة الثانية : أن يحذف جميع السند مع عدم إضافته إلى قائل .

مثاله :

قول الإمام البخاري([8]) : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ ، فَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْيُ حَتَّى يَرْفَعَ ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ )) .

وقول الإمام البخاري([9]) : وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلَاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ وَكَانَتْ فَقِيهَةً.

فالإمام البخاري لم يبين من الذي روى الحديث عن النبي ﷺ ، ولم يبين من الذي حكى فعل أم الدرداء –رضي الله عنها- .

الصورة الثالثة : أن يحذف جميع السند إلا الصحابي .

مثاله :

قول الإمام البخاري([10]) : وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : ((حَسَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ فَخِذِهِ )) .

قول الإمام البخاري([11]) : وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ : ((فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ )) .

الصورة الرابعة : أن يحذف جميع السند إلا الصحابي والتابعي أو يحذف جميع السند إلا الصحابي والتابعي وتابع التابعي .

مثاله : قول الإمام البخاري([12]) : وَقَالَ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : ((لاَ يَبْزُقْ فِي الْقِبْلَةِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ )) .

الصورة الخامسة : أن يحذف من حدثه ويضيفه إلى من فوقه :

وهذه الصورة من المعلق قد تكون تعليقاً ، وقد تكون تدليساً :

أولا : تكون تعليقاً إذا علم أن الراوي المُعَلِق غير مدلس ، وأنه لم يدرك الشيخ الذي علق عنه ، أو أنه أدركه لكنه لم يرو هذا الحديث عنه وإنما يرويه عنه بواسطة :

مثاله : قول الإمام البخاري([13]) : وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ )) .

قال الحافظ ابن حجر([14]) : (قوله : وقال عفان هو بن مسلم الصفار ، وهو من شيوخ البخاري لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة ، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر) .

مثال آخر : قول الإمام البخاري([15]) : وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ : (( إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ )) .

قال هذا بعد أن قال : حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ )) . تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ . وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ : إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ .

قال الحافظ ابن حجر([16]) : (قوله : وقال غندر هذا التعليق وصله البزار في مسنده عن محمد بن بشار بندار عن غندر بلفظه ، ورواه أحمد بن حنبل عن غندر بلفظ إذا دخل) .

ثانياً : يكون تدليساً ، إذا كان الذي حذف شيخه ثم حدث به عن شيخ شيخه مدلساً ، فإن هذا صورته صورة تعليق لكنه في الحقيقة تدليس ، وسيأتي تفصيله في الحديث المدلس بالتفصيل إن شاء الله تعالى .

تنبيه :

ليس من التعليق أن يحدث المحدث عن شيخه حديثاً بصيغة (قال) ، بل هي كقوله (عن) ويشترط للحكم باتصاله شرطان :

الشرط الأول : لقاء الراوي لمن روى عنه .

الشرط الثاني : أن لا يكون مدلساً .

وسيأتي تفصيل الحديث المعنن بالتفصيل إن شاء الله تعالى .

المسألة الثالثة : سبب تعليق الحديث([17]) :

يعلق الحديث للأسباب الآتية :

الأول : عدم ثبوت الحديث عند المُعَلِق .

الثاني : أن الحديث الذي علقه ليس على شرطه الذي اشترطه لكتابه فلهذا علقه ، وإن كان هو ثابتاً ، كالأحاديث التي يعلقاها الإمام البخاري وهي صحيحة لكنها ليست على شرطه .

الثالث : أن يفعل ذلك لأجل الاختصار ، سواء كان الحديث عنده ثابتا أو غير ثابت .

الرابع : أن يتصرف في المتن ، فتحرياً للصدق يعلقه .

المسألة الرابعة : حكم المعلق :

الحديث المعلق ضعيف ، لأنه فقد شرطاً من شروط الصحة ، وهو اتصال السند ، فالمحذوف من السند غير معلوم حاله عندنا .

المسألة الخامسة : صيغ المعلقات عند الإمام البخاري([18]) :

اعلم –رحمك الله تعالى- أن ما علقه الإمام البخاري في جامعه الصحيح على صيغتين :

الصيغة الأولى : ما أورده بصيغة الجزم ، كقوله : قال فلان ، فله صور :

الصورة الأولى : معلق ، ويذكره في صحيحه متصلا .

مثاله : قول الإمام البخاري([19]) : وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ )) .

قال الإمام البخاري([20]) : حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) .

الصورة الثانية : معلق صحيح يلتحق بشرطه ، ولم يذكره في صحيحه متصلا أو مصرحا بسماعه من شيخه .

مثاله : قول الإمام البخاري([21]) : وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : (( وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِ آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، وَقُلْتُ : وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ … )) .

قال الحافظ ابن حجر([22]) : (هَذَا الحَدِيث قد ذكره فِي مَوَاضِع فِي كِتَابه مطولا ومختصرا وَلم يُصَرح فِي مَوضِع مِنْهَا بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من عُثْمَان بن الْهَيْثَم … ) .

ثم ذكر من وصله .

وقال -رحمه الله تعالى-([23])  : (ما يلتحق بشرطه ومنه ما لا يلتحق أما ما يلتحق فالسبب في كونه لم يوصل إسناده … لكونه لم يحصل عنده مسموعا أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه أو سمعه من شيخه مذاكرة فما رأى أنه يسوقه مساق الأصل ، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه فمن ذلك أنه قال في ((كتاب الوكالة)) : قال عثمان بن الهيثم حدثنا عوف حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : ((وكلني رسول الله ﷺ بزكاة رمضان )) الحديث بطوله ، وأورده في مواضع أخرى منها في فضائل القرآن ، وفي ذكر إبليس ، ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان فالظاهر أنه لم يسمعه منه ) .

الصورة الثالثة : معلق صحيح ، لكنه صحيح على غير شرطه .

مثاله : قول الإمام البخاري([24]) : وَقَالَتْ عَائِشَةُ : ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ)) .

قال الإمام مسلم([25]) : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالاَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ الْبَهِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : (( كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ )) .

الصورة الرابعة : معلق حسن ، لم يبلغ الصحيح .

مثاله : قول الإمام البخاري([26]) : وَقَالَ بَهْزٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : (( اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ )) .

قال الحافظ ابن حجر([27]) : (وأما ما لا يلتحق بشرطه فقد يكون صحيحا على شرط غيره وقد يكون حسنا صالحا للحجة … ومثال ما هو حسن صالح للحجة قوله فيه : وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)) وهو حديث حسن مشهور عن بهز أخرجه أصحاب السنن كما سيأتي) .

وسبب تحسين الحديث أن والد بهز وهو حكيم بن معاوية لا يرتقي حديثه إلى درجة الصحة ، قال عنه الحافظ ابن حجر([28]) : ( صدوق) .

الصورة الخامسة : معلق صحيح إلى من علق عنه ، لا إلى ما بعده فإن ما بعده منقطع فيبحث فيه .

مثاله : قول الإمام البخاري([29]) : وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ مُعَاذٌ – رضي الله عنه – لأَهْلِ الْيَمَنِ : ((ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ([30]) فِي الصَّدَقَةِ ، مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ ، وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ )) .

قال الحافظ ابن حجر([31]) : (قوله : وقال طاوس قال معاذ لأهل اليمن . هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاوس لكن طاوس لم يسمع من معاذ ، فهو منقطع ، فلا يغتر بقول من قال : ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه ، وأما باقي الإسناد فلا إلا أن إيراده له في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده ، وكأنه عضده عنده الأحاديث التي ذكرها في الباب ) .

الصيغة الثانية : ما أورده بصيغة غير الجزم ، (صيغة التمريض) كقوله : يُروى ، ويُذكر، ويُقال ، فله صور :

الصورة الأولى : معلق صحيح على شرطه لكنه رواه بالمعنى أو اختصره .

مثاله : قول الإمام البخاري([32]) : باب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ . وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .

قال الحافظ ابن حجر([33]) : (ويذكر عن ابن عباس عن النبي ﷺ . هكذا ذكره بصيغة التمريض ، وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة الكتاب عقب هذا الباب ، وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر الخبر بالمعنى ، ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي ﷺ بالرقية بفاتحة الكتاب ، وإنما فيه تقريره على ذلك ، فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية) .

مثال آخر : قول الإمام البخاري([34]) : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : ((كُنَّا نَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ فَأَعْتَمَ بِهَا )) .

قال الحافظ ابن حجر([35]) : (قوله : ويذكر عن أبي موسى . سيأتي موصولا عند المصنف مطولا بعد باب واحد ، وكأنه لم يجزم به لأنه اختصر لفظه ، نبه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل ، وأجاب به من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين ، وحاصل الجواب : أن صيغة الجزم تدل على القوة ، وصيغة التمريض لا تدل ، ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحته إلى التمريض بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف ، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى ، وكذا الاقتصار على بعضه لوجود الاختلاف في جوازه ، وأن كان المصنف يرى الجواز) .

قال الحافظ ابن حجر([36]) : (قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ -رحمه الله- وهي إن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا لما علم من الخلاف في ذلك ) .

الصورة الثانية : معلق صحيح ، لكنه صحيح على غير شرطه .

مثاله : قول الإمام البخاري([37]) : وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : ((ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ)) .

قال الإمام مسلم([38]) : حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ : (( تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ )) .

قال الحافظ ابن حجر([39]) : (هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري … أخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية أبي نضرة عنه ، قيل : وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن أبا نضرة ليس على شرطه لضعف فيه ، وهذا عندي ليس بصواب لأنه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به بل قد يكون صالحا للاحتجاج به عنده وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحة ) .

الصورة الثالثة : معلق بصيغة التمريض ، لاختلاف في سنده ومتنه أو أحدهما ، وقد يكون صحيحاً وقد لا يكون كذلك .

مثاله : قول الإمام البخاري([40]) : وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ : (( قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنُونَ فِي الصُّبْحِ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى ، أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ )) .

قال الإمام مسلم([41]) : وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ح قَالَ : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ – وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ – حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْعَابِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : ((صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ ﷺ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى – مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ يَشُكُّ أَوِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ – أَخَذَتِ النَّبِيَّ ﷺ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ حَاضِرٌ ذَلِكَ )). وَفِى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَحَذَفَ فَرَكَعَ. وَفِى حَدِيثِهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو . وَلَمْ يَقُلِ ابْنِ الْعَاصِ .

قال الحافظ ابن حجر([42]) : (قوله : ويذكر عن عبد الله بن السائب … وحديثه هذا وصله مسلم من طريق بن جريج قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي كلهم عن عبد الله بن السائب قال صلى لنا النبي ﷺ الصبح بمكة فاستفتح بسورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى شك محمد بن عباد أخذت النبي ﷺ سعلة فركع ، وفي رواية بحذف فركع ، وقوله ابن عمرو بن العاص وهم من بعض أصحاب بن جريج ، وقد رويناه في مصنف عبد الرزاق عنه فقال عبد الله بن عمرو القارئ وهو الصواب ، واختلف في إسناده على ابن جريج ، فقال بن عيينة عنه عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن السائب أخرجه بن ماجه ، وقال أبو عاصم عنه عن محمد بن عباد عن أبي سلمة بن سفيان أو سفيان بن أبي سلمة وكأن البخاري علقه بصيغة ويذكر لهذا الاختلاف مع أن إسناده مما تقوم به الحجة ) .

الصورة الرابعة : معلق حسن ، لم يبلغ الصحيح .

مثاله : قول الإمام البخاري([43]) : وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ – رضي الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ : (( إِذَا بِعْتَ فَكِلْ ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ )) .

قال الحافظ ابن حجر([44]) : (صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح … ومنه ما هو حسن… ومثال الثاني وهو الحسن قوله في البيوع : ويذكر عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال له : ((إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل )) وهذا الحديث قد رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن المغيرة ، وهو صدوق عن منقذ مولى عثمان وقد وثق عن عثمان به ، وتابعه عليه سعيد بن المسيب ومن طريقه أخرجه أحمد في المسند إلا أن في إسناده ابن لهيعة ، ورواه بن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان وفيه انقطاع ، فالحديث حسن لما عضده من ذلك) .

الصورة الخامسة : معلق ضعيف إلا أنه يوجد ما يقويه ، وقد يكون لا يصح مرفوعاً لكنه صح موقوفاً .

مثاله : قول الإمام البخاري([45]) : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ((جَعَلَ اللهُ الطَّلاَقَ بَعْدَ النِّكَاحِ)) وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَشُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ .

أراد بذكر التابعين تقوية ما جاء عن ابن عباس –رضي الله عنهما- ، وقد ذكر أسانيد هذه الآثار الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (4/439) .

الصورة السادسة : معلق ضعيف لم يصح .

مثاله : قول الإمام البخاري([46]) : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لاَ يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِي مَكَانِهِ . وَلَمْ يَصِحَّ .

قال الحافظ ابن حجر([47]) : (قوله ولم يصح هو كلام البخاري وذلك لضعف إسناده واضطرابه تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف واختلف عليه فيه وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في تاريخه وقال لم يثبت هذا الحديث) .

 

 

 ([1])ينظر : الصحاح (1/410) ، والمحكم (1/411) ، والمخصص (1/198) ، والمصباح المنير (5/338) ، وتهذيب اللغة (1/151) ، ولسان العرب (9/203) ، ومعجم مقاييس اللغة (3/362) .

 ([2])ينظر : علوم الحديث ص (37) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (117) ، والباعث الحثيث (1/142) ، والتقريب للنووي ص (105) ، وتدريب الراوي (1/195) ، النكت على كتاب ابن الصلاح (1/491) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (115) ، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث 1/171) .

  ([3])ينظر  : شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (414) .

 ([4])ينظر : القاموس المحيط ص (1175) ، ومختار الصحاح ص (450) ، والمحكم (1/208) ، وتهذيب اللغة (1/242) ، ولسان العرب (9/356) ، الصحاح (4/1529) ، تاج العروس (7/19) ، والمنهل الروي ص(55) ، وهداية المغيث ص (127) .

 ([5])ينظر : إسبال المطر على قصب السكر ص (255) ، التقيد والإيضاح ص (32) ، والمنهل الروي ص (55) ، والتقريب للنووي ص (11) ، علوم الحديث لابن الصلاح ص (20) ، وشرح شرح النخبة لملا علي القاري ص (106) ، وتدريب الراوي ص(117) ، وتوضيح الأفكار ص (137) ، ونخبة الفكر ص (229) ، ونزهة النظر ص (98) .

 ([6])ينظر : نزهة النظر ص (98) .

 ([7])صحيح البخاري (1/119) .

 ([8])صحيح البخاري (8/204) .

 ([9])صحيح البخاري (3/322) .

 ([10])صحيح البخاري (2/112) .

 ([11])صحيح البخاري (3/189) .

 ([12])صحيح البخاري (2/412) .

 ([13])صحيح البخاري (19/136) .

 ([14])فتح الباري (10/158) .

 ([15])صحيح البخاري (1/258) .

 ([16])فتح الباري (1/244) .

 ([17])ينظر : هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر (1/17) ، وتغليق التعليق (2/8) .

 ([18])ينظر : هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .

 ([19])صحيح البخاري (7/176) ، باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا .

 ([20])صحيح البخاري (1/76) رقم الحديث (38) ، باب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الإِيمَانِ .

 ([21])صحيح البخاري (8/368) ، باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلاً ، فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا ، فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ  .

 ([22])تغليق التعليق (3/295) .

 ([23])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .

 ([24])صحيح البخاري (3/72) ، باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ، وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ  .

 ([25])صحيح مسلم في الحيض/باب ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِهَا رقم الحديث (852) .

 ([26])صحيح البخاري (1/486) ، باب مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ ، وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ  .

 ([27])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/18) .

 ([28])تقريب التهذيب (1/177) ، رقم (1478) .

 ([29])صحيح البخاري (5/431) ، باب الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ .

 ([30])قال الحافظ في الفتح (3/213) : (وقوله : خميص ، قال الداودي والجوهري وغيرهما : ثوب خميس بسين مهملة هو ثوب طوله خمسة أذرع . وقيل : سمي بذلك لأن أول من عمله الخميس ملك من ملوك اليمن ، وقال عياض : ذكره البخاري بالصاد وأما أبو عبيدة فذكره بالسين ، قال أبو عبيدة : كأن معاذا عنى الصفيق من الثياب ، وقال عياض : قد يكون المراد ثوب خميص أي خميصة لكن ذكره على إرادة الثوب ، وقوله : لبيس أي ملبوس ، فعيل بمعنى مفعول ) .

 ([31])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .

 ([32])صحيح البخاري (19/178) .

 ([33])فتح الباري (10/198) .

 ([34])صحيح البخاري (2/457) ، باب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا .

 ([35])فتح الباري (2/46) .

 ([36])فتح الباري (1/136) .

 ([37])صحيح البخاري (19/178) .

 ([38])صحيح مسلم في الصلاة/باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَإِقَامَتِهَا رقم الحديث (1010) .

 ([39])فتح الباري (2/240) .

 ([40])صحيح البخاري (3/304) ، باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ .

 ([41])صحيح مسلم في الصلاة/ باب الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ رقم الحديث (1050) .

 ([42])فتح الباري (2/255) .

 ([43])صحيح البخاري (8/55) ، باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي .

 ([44])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/18) .

 ([45])صحيح البخاري (17/427) ، باب لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ .

 ([46])صحيح البخاري (3/430) ، باب مُكْثِ الإِمَامِ فِي مُصَلاَّهُ بَعْدَ السَّلاَمِ .

 ([47])فتح الباري (5/269) .

الحديث الحسن

الحديث الحسن .

المبحث الأول : تعريف الحديث الحَسَن :

الحسن لغة([1]) :  الحُسْنُ ضدُّ القُبْح ونقيضه ، والحُسْن نَعْت لما حَسُن ، حَسُنَ وحَسَن يَحْسُن حُسْناً فيهما فهو حاسِنٌ وحَسَن ، وجمع الحُسْنُ مَحاسِن على غير قياس كأَنه جمع مَحْسَن ، وجمع الحَسَن حِسان ، تقول : قد حَسُن الشيءُ وإن شئت خَفَّفْت الضمة فقلت : حَسْنَ الشيءُ .

الحسن لذاته اصطلاحا([2]) : ما اتصل إسناده بنقل العدل الذي خف ضبطه إلى منتهاه ، من غير شذوذ ولا علة قادحة .

شرح التعريف :

سبق شرح كلمات التعريف عند تعريف الحديث الصحيح ، وبقي أن أشرح الآتي :

قولنا : (خف ضبطه) : أي قل ضبطه الراوي للحدث ، وخفة الضبط وقلته لا تصل إلى حال من يُعد تفرده منكرا ، وهو الذي لم يتقن ضبط وحفظ الحديث ضبطا تاماً ، ويعبر عنه بعض العلماء بالصدوق .

وقولنا : (إلى منتهاه) : يعني أن اتصال السند والعدالة لابد أن تكون من أول السند إلى منتهاه ، وأما خفة الضبط فإنها تجعل الحديث حسناً لذاته في أي طبقة وجدت من طبقات السند ، فلو أن الحديث رجاله ستة ، وجميعهم ثقات عدول تاموا الضبط إلا الرابع خف ضبطه فإن الحديث يكون حسناً ، مع بقية الشروط .

مثاله الحديث الحسن لذاته :

قال الإمام أحمد حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ : ((لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ))([3]) .

هذا الحديث إسناده حسن لأجل عمر بن أبي سلمة قال الحافظ عنه([4]) : (عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قاضي المدينة صدوق يخطيء) . وبقية رجاله ثقات .

المبحث الثاني : أنواع الحديث الحسن :

يتنوع الحديث الحسن إلى نوعين :

النوع الأول : الحديث الحسن لذاته ، وسبق تعريفه والمثال عليه .

النوع الثاني : الحديث الحسن لغيره ، وهو ما قصر عن الحديث الحسن لذاته إلا أنه وجد ما يرتقي به إلى الحديث الحسن لغيره ككثرة الطرق ، أو المتابعات أو الشواهد ونحوها .

فقد يكون الحديث إسناده ضعيفاً وسيأتي بيانه ، وجاء من طرق أخرى بأسانيد فيها ضعف ، فإنه يرتقي الحديث بمجموع تلك الطرق إلى الحديث الحسن لغيره ، ولا بد أن يكون الضعف غير شديد فما كَانَ يسيراً زال بمجيئه من طريق آخر مثله أو أحسن مِنْهُ ، فإن ما كَانَ ضعفه بسبب سوء الحفظ أو اختلاطٍ أو تدليسٍ أو انقطاع يسير فالضعف هنا يرتفع ويتقوى الحديث بالمتابعات والطرق والشواهد ، وأما إن كَانَ انقطاعه شديداً أو كَانَ هناك قدحٌ في عدالة الراوي فالضعف في الحديث يزيد بكثرة الطرق والحالة هذه .

قال ابن الصلاح([5]) : (ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت :

فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة . فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ، ولم يختل فيه ضبطه له . وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر .

ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف ، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته . وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا .

وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث ، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة) .

مثاله الحديث الحسن لغيره :

قال ابن حبان : أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ فِطْرٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنها- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ ابْنَتَانِ ، فَيُحْسِنُ إِلَيْهِمَا مَا صَحِبَتَاهُ ، أَوْ صَحِبَهُمَا إِلَّا أَدْخَلَتَاهُ الْجَنَّةَ ))([6]) .

هذا الحديث إسناد ضعيف ، لأجل ضعف شرحبيل بن سعد . قال عنه الحافظ([7]) : (شرحبيل بن سعد أبو سعد المدني مولى الأنصار صدوق اختلط بآخره ) .  إلا أن الحديث حسن بشواهده ، فقد رواه ابن ماجه رقم الحديث (3670) ، وأبو يعلى (2571) و (2742) ، والطبراني (10836) ، والحاكم (4/178)  من طرق عن فطر ، بهذا الإسناد .

ورواه أبو يعلى في مسنده رقم الحديث (2457) قال : حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال : ((… ومن عال ثلاث بنات فأنفق عليهن وأحسن إليهن وجبت له الجنة . فقام رجل من الأعراب فقال : أو اثنتين ؟ قال : نعم . حتى لو قال : واحدة لقال : نعم …)) . وإسناده ضعيف بسبب ضعف حسين بن قيس . قال البغوي([8]) بعد أن روى هذا الحديث : (وحسين بن قيس أبو علي الرحبي ، لقبه : حنشٌ ، ضعفه أهل الحديث . وله نسخةٌ يرويها عن عكرمة ، عن ابن عباس أكثرها مقلوبة) .

ورواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (11384) قال : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُكْمِلٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه-  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ ثَلَاثُ بَنَاتٍ ، أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ ، أَوْ ابْنَتَانِ ، أَوْ أُخْتَانِ، فَيَتَّقِي اللهَ فِيهِنَّ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ )) . وإسناده ضعيف لجهالة سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل ، فقد روى عنه اثنان ، ولم يوثقه غير ابن حبان .

تنبيه :

اعلم أن الحديث الحسن بنوعيه من أدق مباحث علم الحديث حيث إنه يدور بين الصحة والضعف للاختلاف في الراوي بين المضعفين له والموثقين ، فالباحث يتردد فيه ، ولهذا ينبغي على الباحث أن يتريث في حكمه ، وأن ينظر في كلام العلماء على الراوي وأن يرجح بينها بناء على قواعد علمية سيأتي بيان بعضها إن شاء الله تعالى ، وأن ينظر كذلك في كلام العلماء على الحديث الذي يبحث فيه ينظر في كلام المصحح والمضعف ويرجح بينها معتمدا على القواعد العلمية والخبرة العملية .

قال الشيخ الألباني([9]) : (وإن مما ينبغي ذكره بهذه المناسبة أن الحديث الحسن لغيره وكذا الحسن لذاته من أدق علوم الحديث وأصعبها لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته ما بين موثق ومضعف ، فلا يتمكن من التوفيق بينها أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده ، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعليل ، ومارس ذلك عمليا مدة طويلة من عمره مستفيدا من كتب التخريجات ، ونقد الأئمة النقاد عارفا بالمتشددين منهم والمتساهلين ومن هم وسط بينهم حتى لا يقع في الإفراط والتفريط ، وهذا أمر صعب قل من يصير له ، وينال ثمرته فلا جرم أن صار هذا العلم غريبا من العلماء ،  والله يختص بفضله من يشاء).

المبحث الثالث : الاحتجاج بالحديث الحسن بنوعيه :

الناظر في الحديث الحسن لذاته يرى أنه قد اجتمعت في شروط الحديث الصحيح إلا أنه خف ضبط الراوي ، وهذا لا يخرجه في الحقيقة عن مرتبة الاحتجاج ، قال ابن كثير([10]) : (الحسن وهو في الاحتجاج به كالصحيح عند الجمهور ) ،  وسبب الخلاف في الاحتجاج بالحديث الحسن لذاته أن راوي الحسن خفّ ضبطه قليلاً عن راوي الصحيح ، فمن نظر إلى أصل الضبط احتج به ، ومن نظر إلى أن هذا الراوي قد خف ضبطه ، والأخبار ينبغي التثبت فيها قال : إنه لا يحتجّ به ، وعلى كل الراجح والمعتمد عند جمهور أهل العلم الاحتجاج به ، وأنه كالصحيح في الحجية .

وأما الحديث الحسن لغيره فإن كثرة الطرق غير شديدة الضعف ترتقي به إلى مرتبة الاحتجاج ، فالراجح أن الحديث الحسن لغيره  محتج به لأنه خرج عن مرتبة الضعيف ، وتقوية الحديث بالمتابعات والشواهد متقرر لدى أئمة الحديث ، ولذلك كان الأئمة يكتبون أحاديث الراوي للاعتبار بها .

قال الحافظ ابن حجر([11]) : (كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوة ) .

قال السخاوي([12]) : (قال النووي -رحمه الله- في بعض الأحاديث : وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوى بعضه بعضاً ، ويصير الحديث حسنا ويحتج به . وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الضعيفة ، وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه فإنه قال : هذا القسم لا يحتج به كله بأن يعمل به في فضائل الأعمال ، ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن واستحسنه شيخنا –يعني ابن حجر-  ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية([13]) : (فَإِنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَكَثْرَتَهَا يُقَوِّي بَعْضَهَا بَعْضًا حَتَّى قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهَا ) .

وقد ذهب الأئمة إلى تقوية الحديث بكثرة الطرق ، قال الإمامُ أَحْمَدُ بْنَُ حَنْبَلٍ : (أَحَادِيثُ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ » وَ «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ» أَحَادِيثُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهَا)([14]).

وقال الإمام سفيان الثوري : ( إني لأكتب الحديث على ثلاثة وجوه : فمنه ما أتدين به ، ومنه ما أعتبر به ، ومنه ما أكتبه لأعرفه )([15]) .

المبحث الرابع : أول من أطلق اصطلاح الحديث الحسن :

اعلم أن أول من أشهر اصطلاح (الحديث الحسن) الذي هو دون الصحيح الإمام الترمذي ، واصطلاح الحديث الحسن كان معروفاً قبله إلا أنه لم يظهر ويشتهر إلا في عهده ، فقد استعمل اصطلاح الحديث الحسن قبل الترمذي أو من معاصريه أئمة ، منهم :

أولا : الإمام مالك بن أنس ، فقد روى ابن أبي حاتم الرازي قال([16]) : (حدثنا عبد الرحمن نا أحمد بن عبد الرحمن بن أخي بن وهب قال سمعت عمي –عبدالله بن وهب- يقول : سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال : ليس ذلك على الناس . قال : فتركته حتى خف الناس ، فقلت له : عندنا في ذلك سنة ، فقال : وما هي؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : ((رأيت رسول الله ﷺ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه)) . فقال : إن هذا الحديث حسن ، وما سمعت به قط إلا الساعة ، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع) .

ثانياً : الإمام علي بن المديني ، قال المزي في ترجمة (نعيم بن حنظلة)([17]) : (قال علي بن المديني في هذا الحديث : إسناده حسن ولا نحفظه عن عمار عن النبي ﷺ إلا من هذا الطريق) .

ثالثاً : الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، فقد نقل عنه الإمام الترمذي تحسينه لعدة أحاديث في كتابه السنن (الجامع) والعلل الكبير .

وغيرهم كثير ممن حكموا على الحديث أو على الراوي بأنه حسن الحديث ، فالاصطلاح كان معروفاً قبل الإمام الترمذي إلا أنه لم يكن مشهوراً كما اشتهر في عهده ، وتتابع الناس بعده على هذا الاصطلاح . والله أعلم .

المبحث الخامس : أعلى مراتب الحسن رواية :

قال الإمام الذهبي([18]) : (فأعلى مراتب الحَسَن :

بَهْزُ بن حَكيم ، عن أبيه ، عن جَدَّه .

و : عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جَدَّه .

و : محمد بن عَمْرو ، عن أبي سَلَمة ، عن أبي هريرة .

و: ابنُ إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمِي ، وأمثالُ ذلك .

وهو قِسمٌ مُتجاذَبٌ بين الصحةِ والحُسن ، فإنَّ عِدَّةً من الحُفَّاظ يصححون هذه الطرق ، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح .

ثم بعدِ ذلك أمثلةُ كثيرة يُتَنازَعُ فيها ، بعضُهم يُحسَّنونها ، وآخَرُون يُضعِّفونها ، كحديث الحارثِ بن عبد الله ، وعاصم بن ضَمْرة ، وحَجَّاج بن أَرْطَاة ، وخُصَيْف ، ودَرَّاجٍ أبي السَّمْح ، وخلقٍ سِواهم) .

المبحث السادس : ما معنى وصف الترمذي للحديث بأنه (حسن صحيح) ؟

أعلم أن الترمذي قد صرح بتعريف الحسن فقال([19]) : (وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، فَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ حُسْنَ إِسْنَادِهِ عِنْدَنَا : كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى لَا يَكُونُ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ ، وَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ شَاذًّا ، وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوَ ذَاكَ ، فَهُوَ عِنْدَنَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . فإطلاق الحسن فقط عند الترمذي ظاهر لأنه بين مراده ، ولكن الخلاف بين العلماء -رحمهم الله تعالى- في قوله : (حديث حسن صحيح) فقد اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في مراد الترمذي عند إطلاقه على الحديث بأنه (حسن صحيح) على أقوال([20]) لأن الحديث الحسن قاصر عن الصحيح ، فكيف يجمع بينهما :

قيل : إنه جمع بينهما باعتبار الأسانيد ، فباعتبار إسناد الحديث هو حسن ، وباعتبار الأسانيد الأخرى يكون متن الحديث صحيحاً .

وتعقب هذا القول : بأنه يرده ما قال فيه الترمذي : (هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) .

وقيل : هو حسن باعتبار المتن ، أي حسن بالمعنى اللغوي لا المعنى الاصطلاحي ، صحيح باعتبار الإسناد .

وتعقب هذا القول : بأنه ضعيف ، بل مردود ، لأنه خلاف الأصل فالأصل حمل اللفظ على المعنى الاصطلاحي لا اللغوي ولا يصرف إلا بقرينة ، وليست هنا قرينة تصرفه من المعنى الاصطلاحي إلى المعنى اللغوي ، ولأنه يلزم على هذا إطلاق الحسن على الأحاديث الموضوعة ، فيقال : حديث حسن إسناده موضوع . وهذا باطل لا يطلقه المحدثون ولا يقولونه .

وقيل : إن الحديث الحسن الصحيح أعم من الصحيح ، فالحسن بالنسبة للحديث لأنه مؤيد بعمل القرون الفاضلة من الصحابة فمادون ، سواء صح أو نزل عن درجة الصحة ، وما لم يتأيد بعمل لا يصفه بالحسن وإن صح .

وتعقب هذا القول : بأنه يرده قول الترمذي : (حديث صحيح ، وعليه العمل بمكة ، وهو قول الشافعي) ، فلم يصفه بالحسن مع أنه مؤيد بعمل أهل مكة .

وقيل : إن ما قال  فيه : (حسن صحيح) أعلى رتبة عنده من (الحسن) ، ودون (الصحيح) ، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن .

وتعقب هذا القول : بأنه تحكم لا دليل عليه ، وهو بعيد من فهمهم معنى كلام الترمذي . وأيضاً يقتضي إثبات قسم ثالث ، ولا قائل به فهو خرق لإجماعهم ، وفيه أيضاً أنه يلزم عليه أن لا يكون في كلام الترمذي حديث صحيح إلا قليلاً لقلة اقتصاره على قوله : (هذا حديث صحيح) ، مع أن الذي يعبر فيه بالصحة والحسن أكثره موجود في الصحيحين .

وقيل : إن الحديث الذي يقول فيه الترمذي : (حسن صحيح) إن وقع التفرد والغرابة في سنده فهو محمول على التردد الحاصل من المجتهد في الرواة هل اجتمعت فيهم صفة الصحة أو الحسن ؟ فتردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد أن يتردد ولا يصفه بأحد الوصفين جزماً ، فيقال فيه : (حسن) باعتبار وصفه عند قوم ، و (صحيح) باعتبار وصفه عند قوم آخرين ، غاية ما فيه أنه حذف فيه حرف التردد ، وكان حقه أن يقول : (حسن أو صحيح) ، وهذا كما يحذف حرف العطف من التعداد ، وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح دون ما قيل فيه صحيح ؛ لأن الجزم أقوى من التردد .

وتعقب هذا القول : أن الترمذي قال عن أحاديث صحيحة ولا غبار عليها : (حسن صحيح) كحديث : (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ … )) . والحديث في صحيح البخاري . فكيف يكون قوله (حسن صحيح) دون الصحيح ؟!

وقيل : إن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا إذا اقتصر على قوله : (حسن) فالقصور يأتيه بسبب الاقتصار على ذكره لا من حيث حقيقته وذاته ، وبيانه وتوضيحه أن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواة ، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان ، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق فيصح أن يقال في هذا : إنه (حسن) باعتبار وجود الصفة الدنيا وهي الصدق مثلاً ، (صحيح) باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان ، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسناً ، ويؤيده ورود قولهم : هذا حديث حسن في الأحاديث الصحيحة ، وهذا موجود في كلام المتقدمين .

وشبه ذلك قولهم في الراوي : (صدوق فقط) و(صدوق ضابط) فإن الأول قاصر عن درجة رجال الصحيح ، والثاني منهم فكما أن الجمع بينهما لا يضر ولا يشكل ، فكذلك الجمع بين الصحة والحسن .

وقيل : إنه يريد بقوله : (حسن صحيح) في هذه الصورة الخاصة الترادف ، فيكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول للتأكيد له كما يقال : حديث صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك .

وتعقب هذا القول : بأن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ؛ لأن الأصل عدم التأكيد .

ورد هذا التعقب : بأن هذا يندفع عند وجود القرينة الدالة على ذلك ، وقد وجد في عبارة غير واحد كالدارقطني (هذا حديث صحيح ثابت) .

وقيل : إنه يريد حقيقتهما الاصطلاحية في إسناد واحد لكن باعتبار حالين وزمانين ، فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرة في حال كونه مستوراً أو مشهوراً بالصدق والأمانة ، ثم ارتقى وارتفع حاله إلى درجة العدالة فسمعه منه مرة أخرى فأخبر بالوصفين ، وقد روي عن غير واحد أنه سمع الحديث الواحد على شيخ واحد غير مرة .

وقيل : يحتمل أن يكون الترمذي أدى اجتهاده إلى حسنه ، وأدى اجتهاد غيره إلى صحته فيكون معناه حسنا عندي صحيحا عند غيري ، أو بالعكس فهو باعتبار مذهبين .

وقيل غير ذلك .

قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى-([21]) وهو يجمع ويرجح بين بعض الأقوال المتقدمة : (فإن جُمِعا ، أي الصحيحُ والحسنُ ، في وصفٍ واحدٍ ، كقول الترمذي وغيره : (حديثٌ حسنٌ صحيحٌ) ، فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل : هل اجتمعتْ فيه شروط الصحة أو قَصُرَ عنها ، وهذا حيث يَحْصل منه التفرد بتلك الرواية .

وعُرِفَ بهذا جوابُ مَنِ استشكلَ الجمعَ بين الوصفين ؛ فقال : الحَسَنُ قاصرٌ عن الصحيحِ ؛ ففي الجمع بين الوصفين إثباتٌ لذلك القصورِ ونَفْيُهُ ! .

ومُحَصَّل الجواب : أنّ تردُّدَ أئمة الحديث في حال ناقلِهِ اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحدِ الوصفين ، فيُقال فيه : حَسَنٌ باعتبار وصْفِهِ عند قومٍ ، صحيحٌ باعتبارِ وصْفِهِ عند قومٍ، وغايةُ ما فيه أنه حُذِف منه حرفُ التردد ؛ لأنّ حقه أن يقول : (حسنٌ أو صحيحٌ) ، وهذا كما حُذِفَ حرف العطف مِن الذي بعده . وعلى هذا فما قيل فيه : (حسنٌ صحيحٌ) دون ما قيل فيه صحيحٌ ؛ لأن الجزمَ أقوى مِن التردد ، وهذا حيث التفرد([22]) .

وإلا إذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معاً على الحديث يكون باعتبارِ إسنادين : أحدُهما صحيحٌ ، والآخر حسنٌ .

وعلى هذا فما قيل فيه : (حسن صحيح) فوقَ ما قيل فيه : (صحيح) فقط -إذا كان فرداً- لأن كثرة الطرق تقوِّي .

فإن قيل : قد صرَّح الترمذي بأنَّ شرط الحسن أن يُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ ؛ فكيف يقول في بعض الأحاديث : (حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه) ؟

فالجواب : أن الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقاً ، وإنما عَرَّفَ نوعاً خاصاً منه وَقَعَ في كتابه ، وهو ما يقول فيه : (حسنٌ) ، مِن غير صفةٍ أخرى ؛ وذلك أنه : يقول في بعض الأحاديث : (حسنٌ) . وفي بعضها: (صحيحٌ) . وفي بعضها : (غريبٌ) . وفي بعضها : (حسنٌ صحيحٌ) . وفي بعضها: (حسنٌ غريبٌ) . وفي بعضها : (صحيحٌ غريبٌ) . وفي بعضها : (حسنٌ صحيحٌ غريبٌ) .

وتعريفه إنما وقع على الأول فقط ، وعبارته تُرْشِدُ إلى ذلك ؛ حيث قال في آخر كتابه : (وما قلنا في كتابنا : (حديثٌ حَسَنٌ) ، فإنما أردنا به حُسْنَ إسناده عندنا : كُلُّ حديثٍ يُرْوَى ، لا يكون راويه متَّهَماً بكَذِبٍ ، ويُرْوَى من غير وجهٍ نحوُ ذلك ، ولا يكون شاذّاً فهو عندنا حديثٌ حسنٌ) .

فَعُرِفَ بهذا أنه إنما عَرَّفَ الذي يقول فيه : (حسنٌ) فقط ، أما ما يقول فيه : (حسنٌ صحيحٌ) ، أو : (حسنٌ غريبٌ) ، أو : (حسنٌ صحيحٌ غريبٌ) ، فلم يُعَرِّجْ على تعريفه ، كما لم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقول فيه : (صحيحٌ) فقط ، أو : (غريبٌ) فقط ، وكأنه ترك ذلك استغناءً ، لِشُهْرَتِه عند أهل الفن . واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه : (حسنٌ) فقط ؛ إمّا لغموضه ، وإمّا لأنه اصطلاحٌ جديدٌ ؛ ولذلك قَيَّدَه بقوله : عندنا ، ولم ينسِبْه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي .

وبهذا التقرير يندفع كثيرٌ مِن الإيرادات التي طال البحث فيها ، ولم يُسْفِر وجْهُ توجيهِها ، فلله الحمد على ما أَلْهَم وعَلَّم ) .

والأقرب- والله أعلم -من الأقوال المتقدمة الأقوال التي لم يرد عليها تعقيب أو رد .

المبحث السابع : مسائل في الحديث الصحيح والحسن :

المسألة الأولى : هل قول العلماء في الحديث : (رجاله ثقات) يستوجب الصحة ؟

إطلاق العالم على إسناد حديث ما بأن رجاله ثقات لا يلزم منه الصحة أو التحسين ، فقد يكون الحديث رجاله ثقات ولكنه منقطع أو شاذ أو فيه علة ونحو ذلك ، فالحكم على أن رجال إسناد الحديث ثقات هو شرط من شروط الصحيح الخمسة ، فلا بدّ من اجتماع الشروط لتصحيح أو تحسين ولا يكفي وجود شرط واحد .

مثاله :

قال أبو داود : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ : (( أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ  فَذَكَرَ حَدِيثَ الصَّلَاةِ ، قَالَ : فَلَمَّا سَجَدَ وَقَعَتَا رُكْبَتَاهُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ كَفَّاهُ ))([23]) .

فهذا الحديث إسناد رجاله ثقات رجال مسلم ، لكنه ضعيف ، وعلته الانقطاع بين عبد الجبار بن وائل وأبيه ؛ فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه كما ذكر العلماء .

قال يحيى بن معين : ( ولم يسمع من أبيه شيئاً ، إنما كان يحدث عن أهل بيته عن أبيه)([24]).

وقال : ( لم يسمع من وائل ، يقولون : إنه مات وهو حبل )([25]) يعني أن أمه به حبلى .

وقال ابن حبان([26]) : (ولد بعد موت أبيه بستة أشهر ، مات وائل بن حجر وأم عبد الجبار حامل به ، وهذا ضرب من المنقطع الذي لا تقوم به الحجة ) .

مثال آخر :

قال ابن ماجه : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ : (( إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ))([27]) .

فهذا الحديث إسناد رجاله ثقات ، لكنه ضعيف جدا .

قال البوصيري([28]) : (هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع . قال العلائي في المراسيل ، والمزي في التهذيب : إن رواية ميمون بن مهران عن عمر مرسلة ) .

وقال الشيخ الألباني([29]) : (وهذا سند ضعيف جدا ، وله علتان : الأولى : الانقطاع بين ميمون وعمر ، وبه أعلوه ، فقال البوصيري في الزوائد  ( ق 90/1 ) : (هذا الإسناد رجاله ثقات ، إلا أنه منقطع ، قال العلائي في المراسيل ، والمزي في التهذيب : إن رواية ميمون بن مهران عن عمر مرسلة) . وقال المنذري في الترغيب ( 4/164 ) : (ورواته ثقات مشهورون ، إلا أن ميمون بن مهران لم يسمع من عمر) ، وتبعه الحافظ في الفتح فقال ( 10/99 ) : (أخرجه ابن ماجه بسند حسن لكن فيه انقطاع) ، وغفلوا جميعا عن العلة الأخرى ، وهي : الثانية : وهي أن راويه عن جعفر بن برقان ليس هو كثير بن هشام كما هو ظاهر هذا الإسناد ، بل بينهما رجل متهم ، بين ذلك الحسنُ بن عرفة فقال : حدثنا كثير بن هشام الجزري عن عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران به ، أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص (178 ) . وعيسى هذا قال فيه البخاري والنسائي : (منكر الحديث) ، وقال أبو حاتم : (متروك الحديث) ، فلعله سقط من رواية جعفر بن مسافر وهما منه ، فقد قال فيه الحافظ : (صدوق ربما أخطأ) ، ثم رجعت إلى التهذيب ، فرأيته قد تنبه لهذه العلة ، فقال متعقبا لقول النووي الذي نقلته عنه آنفا : (فمشى على ظاهر السند ، وعلته أن الحسن بن عرفة رواه عن كثير ، فأدخل بينه وبين جعفر رجلا ضعيفا جدا، وهو عيسى بن إبراهيم الهاشمي) ) .

المقصود أنه لا يلزم تصحيح الإسناد بمجرد أن يكون رجال الإسناد ثقات ، أو قال فيه العلماء : رجاله ثقات . بل لا بد من اجتماع الشروط الحديث الصحيح السابقة .

وقال الشيخ الألباني وهو يتكلم على تخريج حديث ضعيف ورجاله ثقات([30]) : (فإذا عرفت هذا فلا فائدة كبرى من قول الهيثمي في المجمع ( 8/106 ) : (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة ، وفيه ضعف ) . وكذلك من قول الحافظ في الفتح  ( 5/139 ) : ( أخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات ) . لأن كون رجال الإسناد ثقات ليس هو كل ما يجب تحققه في السند حتى يكون صحيحا ، بل هو شرط من الشروط الأساسية في ذلك ، بل إن تتبعي لكلمات الأئمة في الكلام على الأحاديث قد دلني على أن قول أحدهم في حديث ما : (رجال إسناده ثقات) ، يدل على أن الإسناد غير صحيح ، بل فيه علة ولذلك لم يصححه ، وإنما صرح بأن رجاله ثقات فقط ، فتأمل).

قال ابن القيم([31]) : (إن ثقة الراوي شرط من شروط الصحة ، وجزء من المقتضى لها ، فلا يلزم من مجرد توثيقه الحكم بصحة الحديث . يوضحه : أن ثقة الراوي هي كونه صادقا لا يتعمد الكذب ، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل ، وهذا أحد الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي ، لكن بقي وصف الضَّبط والتَّحَفُّظ بحيث لا يعرف بالتَّغْفِيل وكثرة الغلط ، ثانيهما : وهو أن لا يَشُذَّ عن الناس فيروي ما يخالفُهُ فيه من هو أوثقُ منه وأكبر ، أو يروي ما لا يتابع عليه وليس ممن يحتمل ذلك ) .

المسألة الثانية : هل قول العلماء في الحديث : (أصح شيء في هذا الباب أو أحسن) يعنى صحة الحديث ؟

لا يلزم من قول العلماء : (هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب أو أحسن) الصحة ، فقد يكون الحديث ضعيفاً من جهة الإسناد ، أو المتن ، أو كليهما ، ولكن قالوا : (أصح) مقارنة بغيره مما يروى في نفس الباب ، فإذا كانت تلك الأحاديث ضعيفة جدا أو موضوعة فهذا الحديث ضعيف فقط ، فهو بالنسبة لها أصح منها ، فهو أصح شيء في هذا الباب ، وقد يكون صحيحاً ، المهم أن كلمة (أصح شيء في هذا الباب ) لا يلزم منها التصحيح ، فقد يكون الحديث صحيحاً ، وقد يكون ضعيفاً ، فينظر في إسناده ومتنه .

قال النووي -رحمه الله تعالى- : (لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث فإنهم يقولون : (هذا أصح ما جاء في الباب) وإن كان ضعيفاً ، ومرادهم أرجحة أو أقله ضعفاً )([32]) .

قال الزيلعي([33]) : (قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ : هَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي التَّصْحِيحِ ، فَقَوْلُهُ : هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ ، يَعْنِي أَشْبَهَ مَا فِي الْبَابِ ، وَأَقَلَّ ضَعْفًا … فَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ : أَصَحُّ شَيْءٍ ، لَيْسَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا ) .

المسألة الثالثة : هل قول العلماء في الحديث : (حديث جيد أو حديث قوي) يعنى الصحة؟

قول العلماء في الحديث : (حديث جيد أو حديث قوي) يعني أنه صحيح عندهم ، وهذا الاستعمال قليل نادر .

قال السيوطي([34]) : (فأما الجيد فقال شيخ الإسلام([35]) في الكلام على أصح الأسانيد لما حكى ابن الصلاح عن أحمد بن حنبل أن أصحها الزهري عن سالم عن أبيه عبارة أحمد : أجود الأسانيد كذا أخرجه الحاكم قال : هذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح ، ولذا قال البلقيني بعد أن نقل ذلك : من ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة ، وفي جامع الترمذي في الطب هذا حديث جيد حسن . وكذا قال غيره : لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم ، إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ، ويتردد في بلوغه الصحيح ، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح ، وكذا القوي) .

المسألة الرابعة : استدلال وعمل العالم بالحديث ولم يصرح بصحته هل يستلزم تصحيحه له؟

اعلم أن عمل العالم بالحديث والاستدلال به فيه التفصيل الآتي :

إذا كان المستدل أو العامل بالحديث ممن ليس له خبرة بصحيح الحديث وضعيفه ، فهذا لا يحتج باستدلاله أو عمله بأن الحديث صحيح ، وهذا تجده كثيرا في كتب الفقه ، فكم من حديث ضعيف بل موضوع استدل به كثير من الفقهاء على مسائل فقهية .

أما إذا كان المستدل أو العامل بالحديث عالما بالصحيح والضعيف ، وممن يميز ويعرف الأحاديث الصحاح والضعاف ويحكم عليها ، فالظاهر أن استدلاله بالحديث أو العمل به حكم له بالصحة أو الحسن إذا كان هذا الحديث هو الدليل الوحيد في هذه المسألة التي استدل بها ، أما لو كانت هناك أدلة أخرى فلا يستلزم استدلاله بالحديث أن يصححه ، لأنه ربما ذكره على سبيل الاستشهاد أو الاستئناس أو نحو ذلك .

قال ابن كثير([36]) : (قال([37]) : وكذلك فُتيا العالم أو عمله على وفق حديث ، لا يستلزم تصحيحه له . قلت : وفي هذا نظر ، إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث ، أو تعرض للاحتجاج به في فتياه أو حكمه ، أو استشهد به عند العمل بمقتضاه ) .

المسألة الخامسة : هل قول العالم : (إسناده صحيح) كقوله : (حديث صحيح) ؟ بمعنى هل يلزم من إطلاق العالم على الحديث بأن إسناده صحيح أن يكون الحديث صحيحاً وكذلك قوله : إسناده حسن) وقوله : (حديث حسن) ؟

إطلاق العالم على الحديث بأن إسناده صحيح لا يخلو من أمرين :

الأمر الأول : أنه يريد من هذا أنه اجتمعت في هذا الحديث شروط صحة الحديث المتقدمة وهي اتصال السند ، وعدالة الرواة ، وضبطهم من أول السند إلى آخره ، وكذلك لم يكن الحديث شاذا أو معللا وذلك لا يعرف بنفس الإسناد الذي يبحث فيه الباحث بل لا بد من جمع الطرق والأسانيد والمتون ، فإذا فعل ذلك فلا فرق أن يقول : (إسناده صحيح ) أو (حديث صحيح) .

الأمر الثاني : أنه يريد من هذا الإطلاق هو أنه بحث في هذا الإسناد فقط ، فحكم عليه بأنه صحيح ، فهنا لا ينبغي أن يقول : (حديث صحيح) بل يقول : (إسناد هذا الحديث صحيح) أو (إسناده صحيح) ، لأن قوله : (حديث صحيح) يوهم أنه تتبع الطرق والأسانيد والمتون لهذا الحديث فلم يجد فيه شذوذا أو علة تقدح فيه ، فلهذا حكم على الحديث بالصحة .

وعليه لا يلزم من قوله : (إسناده صحيح) أن يكون الحديث صحيحاً فقد يكون شاذا أو معللا ، وهذا يعرف بجمع الطرق والأسانيد ، نعم إطلاقه على الحديث بأن إسناده صحيح الأصل فيه أن يكون قد استوفى شروط الحديث الصحيح فيعمل به حتى يتبين ضعفه بالشذوذ أو العلة .

ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يحتاط ويتريث في حكمه على الحديث أو إسناده بالصحة أو الضعف ، وعليه أن يعرف أقوال أئمة الحديث في الحكم على الحديث تصحيحًا وتضعيفاً ، والحكم على الرواة تجريحًا وتعديلاً .

قال ابن الصلاح([38]) : (قَوْلُهُمْ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، أَوْ حَسَنُ الْإِسْنَادِ) دُونَ قَوْلِهِمْ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَدِيثٌ حَسَنٌ) ، لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ) ، وَلَا يَصِحُّ ، لِكَوْنِهِ شَاذًّا أَوْ مُعَلَّلًا .

غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ الْمُعْتَمَدَ مِنْهُمْ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ عِلَّةً ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْحُكْمُ لَهُ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ ، وَاللهُ أَعْلَمُ) .

وقال النووي([39]) : (وقولهم : حديث حسن الإسناد أو صحيحه ، دون قولهم : حديث صحيح أو حسن ؛ لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد دون المتن لشذوذ أو علة ، فإن اقتصر على ذلك حافظ معتمد فالظاهر صحة المتن وحسنه) .

وقال ابن القيم([40]) : (قد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحته ، فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور منها : صحة سنده ، وانتفاء علته ، وعدم شذوذه ونكارته ، وأن لا يكون روايه قد خالف الثقات أو شذ عنهم) .

وقال ابن كثير([41]) : (والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على المتن ، إذ قد يكون شاذاً أو معللاً ) .

 ([1])ينظر : المحكم (3/197) ، والمخصص (1/233) ، ومختار الصحاح (1/167) ، ولسان العرب (13/114) .

 ([2]) ينظر : معالم السنن (1/11) ، وعلل الجامع (9/457) ، وفتح المغيث (1/66) ، والموقظة ص (28) ، وعلوم الحديث ص (27) ، ونزهة النظر ص (92) .

 ([3])رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (8449) .

 ([4])تقريب التهذيب (1/720) .

 ([5])مقدمة ابن الصلاح ص (20) .

 ([6])رواه ابن حبان في صحيحه رقم الحديث (2945) ، والإمام أحمد في المسند رقم الحديث (2104) .

 ([7])تقريب التهذيب رقم (2764) .

 ([8])شرح السنة (13/45) .

 ([9])إرواء الغليل (3/363) .

 ([10])الباعث الحثيث (1/129) .

 ([11])القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد ص (38) .

 ([12])فتح المغيث (1/71) .

 ([13])مجموع الفتاوى (18/26) .

 ([14])ينظر :  سنن الكبرى للبيهقي (2/481) ، والكامل (4/254) ، وميزان الاعتدال (2/225) .

 ([15])ينظر :  الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/193) .

 ([16])مقدمة الجرح والتعديل ص (27) .

 ([17])تهذيب الكمال (29/482) رقم الترجمة (6452) .

 ([18])الموقظة ص (4) .

 ([19])سنن الترمذي (13/53) .

 ([20])ينظر :  الباعث الحثيث (1/139) ، واليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر (1/398) ، وتوضيح الأفكار ص (236) ، وفتح المغيث (1/164) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (110) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (113) ، والموقظة ص (8) ، ومرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/205) .

 ([21])نزهة النظر ص (79)  .

 ([22])وسبق أنه تعقب أن الترمذي قال عن أحاديث صحيحة ولا غبار عليها : (حسن صحيح) كحديث : ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ … )) . والحديث في صحيح البخاري . فكيف يكون قوله (حسن صحيح) دون الصحيح ؟!.

 ([23])رواه أبو داود في الصلاة/بَاب كَيْفَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ رقم الحديث (713) .

 ([24])ينظر : تاريخ يحيى بن مَعين، رواية الدُّوري (النص: 44) .

 ([25])ينظر : تاريخ يحيى بن مُعين، رواية الدوري (النص: 1890) .

 ([26])المجروحين (2/273)  ترجمة: مُحمد بن حُجر .

 ([27])رواه ابن ماجه في ما جاء في الجنائز/بَاب مَا جَاءَ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ رقم الحديث (1431) .

 ([28])مصباح الزجاجة (2/21) .

 ([29])السلسلة الضعيفة رقم (1004) .

 ([30])السلسلة الضعيفة (3/317) .

 ([31])الفروسية ص (73) .

 ([32])ينظر : تدريب الراوي ص (39) .

 ([33])نصب الراية (2/217) .

 ([34])تدريب الراوي ص (178) .

 ([35])الحافظ ابن حجر .

 ([36])الباعث الحثيث (1/290) .

 ([37])يعني ابن الصلاح .

 ([38])مقدمة ابن الصلاح ص (113) .

 ([39])التقريب للنووي (1/161) .

 ([40])الفروسية ص (246) .

 ([41])الباعث الحثيث (1/139) .

الحديث الصحيح

الحديث الصحيح .

المبحث الأول : تعريف الحديث الصحيح :

الصحيح لغة([1]) :  الصُّحُّ والصِّحَّةُ والصَّحاحُ خلافُ السُّقْمِ وذهابُ المرض ، وقد صَحَّ فلان من علته واسْتَصَحَّ ، صَحِيحُ الأَديم وصَحاحُ الأَديم بمعنى أَي غير مقطوع ، وهو أَيضاً البراءَة من كل عيب وريب .

إذا الصحيح هو السليم من المرض والعلة ، وغير المقطوع ، والبراءة من كل عيب وريب . هذه المعاني هي التي يصلح أن تذكر في بحثنا هنا وهي التي تناسب المعنى الاصطلاحي الآتي .

الصحيح لذاته اصطلاحا([2]) : ما اتصل إسناده بنقل العدل التام الضبط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة .

شرح التعريف :

قولنا : (ما) : اسم موصول بمعنى الذي .

وقولنا : (اتصل إسناده) : هذا هو الشرط الأول ، وهو اتصال السند ، وخرج به كل إسناد لم يتصل ، فخرج به المنقطع ، والمعضل ، والمعلق ، والمرسل ، وسيأتي تفصيلها .

والإسناد : هو الطريق الموصل للمتن ، أو سلسلة الرواة الذين يذكرهم المحدث ابتداءً بشيخه وانتهاءً بمن يسند إليه الخبر ، والمتن غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام .

وقولنا : (بنقل العدل) : العدالة هي حسن الإسلام ، مع السلامة من الفسق وخوارم المروءة ، فالعدالة ملكة تحث صاحبها على التقوى ، وتحجزه عن المعاصي والكذب وما يخل بالمروءة .

وخرج به من علم عدم عدالته كالكذاب ، والفاسق ، ونحوهما .

وخرج به من لم تعرف عدالته ويشمل :

أولا : مجهول العين وهو الذي لا يدرى من هو ولم يوثقه أحد ، ولم يعرف ذكره إلا من رواية واحد عنه ، وقد يكون ذلك الراوي عنه مجروحاً أو مجهولاً مثله .

ثانياً : مجهول الحال ، وهو الذي عرف برواية أكثر من ثقة عنه ، ولم يوثقه أحد . وهو المستور .

وقولنا : (التام الضبط) : أي كامل الضبط ، في حَالَتي التحمل وهو تلقي الحديث ، والأداء أي أداء الحديث وتبليغه ، من غير حصول قصور في  ضبطه .

فخرج المغفل كثير الخطأ ، بأن لا يميز  الصواب من غيره ، فيرفع الموقوف ، ويصل المرسل ، ويُصَحِّف الرواة وهو لا  يشعر .

وخرج به من خف ضبطه : وهو ما يسمى ضبطاً مما هو المعتبر في الحسن لذاته ، فخرج به الحديث الحسن ، كما سيأتي .

والضبط ينقسم إلى قسمين ، ضبط صدر ، وضبط كتاب .

الأول : ضبط صدر : وهو الذي يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره من حفظه متى شاء .

وشرطه :

  • أن يروي من استحضاره كما تلقى الحديث .
  • أن لا يغير المعنى إذا روى الحديث بالمعنى .

الثاني : ضبط كتاب : وهو صون كتابه الذي يحدث منه عن تطرق الخلل له من حين سمع فيه وقابله إلى أن يؤدي منه .

وشرطه :

  • أن يكون الذي يروي منه مصححاً يعني مطابقاً لما تلقاه فإنه في مجلس سماع الشيخ ، فلا بد أن يكون كتابه مطابقاً لما سمعه من الشيخ .
  • أن يحفظ كتابه من التبديل والتغيير .
  • أن يحدث من كتابه إذا كان ضبطه ضبط كتاب فقط ولا يحفظ حفظ صدر .

وقولنا : (عن مثله إلى منتهاه) : يعني أن اتصال السند والعدالة وتمام الضبط لابد أن تكون من أول السند إلى منتهاه .

وقولنا : (من غير شذوذ) : وهو ما رواه المقبول مخالفاً من هو أولى منه ، ويكون الشذوذ في السند أو المتن أو فيهما كما سيأتي تفصيله .

وقولنا : (ولا علة قادحة) : يعني ومن غير علة قادحة ، والعلة هي شيء خفي يقدح في السند أو المتن مع أن الظاهر السلامة منه ، ولا يطلع عليها في الغالب إلا الجهابذة في هذا الفن ، وقيدنا العلة بالقادحة لأن من العلل ما لا يكون قادحا في صحة الحديث ، كالاختلاف في ثمن البعير الذي باعه جابر –رضي الله عنه- للنبي ﷺ ، وسيأتي تفصيل ذلك كله إن شاء الله تعالى .

فيؤخذ من تعريف الحديث أن شروط الحديث الصحيح هي :

أولا : اتصال السند .

ثانياً : العدالة .

ثالثاً : تمام الضبط .

رابعاً : عدم الشذوذ .

خامساً : عدم العلة .

مثال الحديث الذي اجتمعت فيه الشروط السابقة في التعريف :

قال الإمام البخاري –رحمه الله تعالى- : حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -ﷺ يَقُولُ : (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))([3]) .

المبحث الثاني : أنواع الحديث الصحيح :

يتنوع الحديث الصحيح إلى نوعين :

النوع الأول : الحديث الصحيح لذاته ، وسبق تعريفه والمثال عليه .

النوع الثاني : الحديث الصحيح لغيره ، وهو ما قصر عن الحديث الصحيح لذاته إلا أنه وجد ما يرتقي به إلى الحديث الصحيح ككثرة الطرق ، أو المتابعات أو الشواهد ونحوها .

– فقد يكون الحديث إسناده حسناً وسيأتي بيانه ، وجاء طريق آخر سواء كان حسناً أو ضعيفاً ضعفاً يسيرا فإنه يرتقي الحديث بمجموع ذلك إلى الحديث الصحيح لغيره .

مثاله :

قال الإمام الترمذي حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ ))([4]) .

وهذا إسناد حسن ، لأجل الحسن بن عرفة ، قال عنه الحافظ بن حجر([5]) : (الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي أبو علي البغدادي صدوق) . وعبد الرحمن بن محمد ، قال عنه الحافظ بن حجر([6]) : (عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن زِيَاد الْمحَاربي أَبُو مُحَمَّد الْكُوفِي ، وَثَّقَهُ ابن معِين وَالنَّسَائِيّ وَالْبَزَّار وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم : صَدُوق إِذا حدث عَن الثِّقَات ، ويروي عَن المجهولين أَحَادِيث مُنكرَة فتفسد حَدِيثه ، وَقَالَ عُثْمَان الدَّارمِيّ : لَيْسَ بِذَاكَ ، وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد عَن أَبِيه : بلغنَا أَنه كَانَ يُدَلس ، وَلَا نعلمهُ سمع من معمر ، وَقَالَ الْبَاجِيّ : صَدُوق يهم . قلت : لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى حديثين مُتَابعَة) . وحسن إسناد الترمذي هذا الحافظ ابن حجر في الفتح([7]) .

والحديث صحيح لما رواه الترمذي قال : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((عُمْرُ أُمَّتِي مِنْ سِتِّينَ سَنَةً إِلَى سَبْعِينَ سَنَةً ))([8]) .

قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .

وهذا إسناد حسن رجاله ثقات ، غير محمد بن ربيعة قال عنه الحافظ ابن حجر([9]) : (محمد بن ربيعة الكلابي الكوفي بن عم وكيع صدوق من التاسعة مات بعد التسعين) .

فالحديث صحيح لغيره بمجموع هذين الطريقين عن أبي هريرة –رضي الله عنه- .

– وقد يكون الحديث إسناده ضعيفاً ضعفاً يسيرا ، وجاء من طرق أخرى بأسانيد فيها ضعف ، فينظر فيها الباحث فيغلب على ظنه أو يقطع بصحة هذا الحديث لكثرة طرقه .

مثاله :

قال الإمام أبو داود : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ))([10]) .

وهذا إسناد ضعيف لأجل يعقوب بن سلمة وأبيه ، قال الحافظ  ابن حجر([11]) : (يعقوب الليثي المدني مجهول الحال)  ، وقال عن والده([12]) : (سلمة الليثي مولاهم المدني لين الحديث ) .

والحديث وإن كان إسناده ضعيفاً إلا أنه حديث صحيح لكثرة شواهده منها : حديث أبي سعيد الخدري ، وسعيد بن زيد ، وسهل بن سعد ، وعائشة ، وأبي سبرة ، وأم سبرة ، وعلي ، وأنس –رضي الله عنهم أجمعين- . تنظر هذه الشواهد والكلام على أسانيدها في تلخيص الحبير (1/250) . وقال الألباني في صحيح أبي داود (1/168) : (حديث صحيح ، وقواه المنذري ، والحافظ العسقلاني ، وحسنه ابن الصلاح ، وقال الحافظ ابن كثير : إنه حديث حسن أو صحيح ، وقال ابن أبي شيبة : إنه ثبت ) . وقال في إرواء الغليل  (1/122) : (وقال الحافظ العراقي في محجة القرب في فضل العرب  ( ص 27 – 28 ) : هذا حديث حسن  ) .

تنبيه :

قد تكون كثرة طرق الحديث الذي يكون إسناده ضعيفاً تزيد من ضعف الحديث إذا كانت شديدة الضعف لفسق الراوي أو كذبه أو بها عللا تزيد الإسناد الأول وَهْناً على وهن ، وذلك يعرف عنده أهل هذا الفن ، وسيأتي تفصيل شيء من ذلك إن شاء الله تعالى .

قال الشيخ أحمد شاكر([13]) : (إذا كان ضعف الحديث لسوء حفظ الراوي أو نحو ذلك فإنه يرقى إلى درجة الحسن أو الصحة بتعدد طرقه إن كانت كذلك ، وأما إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب ، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ، فانه لا يرقى إلى الحسن بل يزداد ضعفاً إلى ضعف ، إذ أن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحديث لا يرويه غيرهم يرجح عند الباحث المحقق التهمة ويؤيد ضعف رواياتهم ، و بذلك يتبين خطأ المؤلف هنا -يعني السيوطي- وخطؤه في كثير من كتبه في الحكم على أحاديث ضعاف بالترقي إلى الحسن مع هذه العلة القوية ) .

ومن أمثلة ذلك :

ما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ : ((كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ ، فَقُدِّمَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَرْخٌ مَشْوِيٌّ ، فَقَالَ : «اللَّهُمُ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرِ» قَالَ : فَقُلْتُ : اللَّهُمُ اجْعَلْهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، فَقُلْتُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى حَاجَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ ، فَقُلْتُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى حَاجَةٍ ثُمَّ جَاءَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : «افْتَحْ» فَدَخَلَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : «مَا حَبَسَكَ عَلَيَّ»؟ فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ آخِرَ ثَلَاثِ كَرَّاتٍ يَرُدَّنِي أَنَسٌ يَزْعُمُ إِنَّكَ عَلَى حَاجَةٍ ، فَقَالَ : «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، سَمِعْتُ دُعَاءَكَ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُحِبُّ قَوْمَهُ» )) ([14]) .

حديث أنس هذا له ستة عشر طريقاً ذكرها ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/228-237) وذكر علة كل طريق ، والصحيح أنها خمسة عشر طريقاً كما ذكر ذلك الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة رقم (6575) ، والحديث منكر ، لا يصح سندا ولا متنا ، قال ابن الجوزي بعد ذكر جميع الطرق وعللها([15]) : (وقد ذكره ابن مردويه من نحو عشرين طريقا كلها مظلم ، وفيها مطعن فلم أر الإطالة بذلك أنبأنا محمد بن ناصر قال : أنبأنا محمد بن طاهر المقدسي قال كل طرقه باطلة معلولة ، وصنف الحاكم أبو عبد الله في طرقه جزء ضخما وكان قد أدخله في المستدرك على الصحيحين ، فبلغ الدارقطني فقال : يستدرك عليها حديث الطائر ، فبلغ الحاكم فأخرجه من الكتاب ، وكان يتهم بالتعصب بالرافضة ، وكان يقول : هو حديث صحيح ولم يخرج في الصحيح . وقال ابن طاهر : حديث الطائر موضوع إنما يجيء من سقاط أهل الكوفة عن المشاهير) .

وأما متنه فمنكر من وجوه :

الأول : أنه قال : ((اللَّهُمُ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ)) بصيغة أفعل للتفضيل وهذا يدل على أن علي –رضي الله عنه- أحب خلق الله إليه حتى من النبي ﷺ وهذا ظاهر البطلان .

الثاني : أن أنس –رضي الله عنه- كذب في قوله : (( إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى حَاجَةٍ )) وهو ﷺ لم يكن كذلك ، وهذا يكفي رد هذا الحديث فالصحابة كلهم عدول –رضي الله عنهم أجمعين – .

الثالث : وهو أشنع من الثاني أن النبي ﷺ أقر أنس –رضي الله عنه- على الكذب حيث إنه لم ينكر عليه ، وهذا باطل قطعاً .

وهذا لا شك أنه مسقط للحديث والتشيع في الحديث ظاهر وخاصة أن في رواته من هو كذلك ، وأيضا المتتبع لأسانيده يجد سرقه بعض الوضاعين – من الشيعة والضعفاء والمجهولين -، قد ركبوا عليه أسانيد كثيرة ، وهو لا يزداد بها إلا ضعفاً .

قال العقيلي([16]) : (ليس لهذا من حديث ثابت أصل … هذا الباب الرواية فيها لين وضعف لا نعلم فيه شيء ثابت ، وهكذا قال محمد بن إسماعيل البخاري ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية([17]) : (فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح ولا صححه أئمة الحديث ولكن هو مما رواه بعض الناس كما رووا أمثاله في فضل غير علي ، بل قد روي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة وصنف في ذلك مصنفات وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا و لا هذا .

الثاني : أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل قال أبو موسى المديني : قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة كالحاكم النيسابوري وأبي نعيم وابن مردويه . وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال : لا يصح …).

وأطال رحمه الله تعالى في بيان ضعفه ورد متنه .

وقال ابن كثير([18]) : (وقد روي أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري ، وصححه الحاكم ولكن إسناده مظلم وفيه ضعفاء .

وروي من حديث حبشي بن جنادة ولا يصح أيضا ، ومن حديث يعلى بن مره والإسناد إليه مظلم ، ومن حديث أبي رافع نحوه وليس بصحيح .

وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة منهم أبو بكر بن مردويه ، والحافظ أبو طاهر محمد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبد الله الذهبي ، ورأيت فيه مجلدا في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر بن جرير الطبري المفسر صاحب التاريخ ، ثم وقفت على مجلد كبير في رده وتضعيفه سندا ومتنا للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلم .

وبالجملة ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه والله أعلم) .

فالتقوية بكثرة الطرق ليست قاعدة مطردة بل لها ضوابط كما سبق ، قال الشيخ الألباني([19]) : (تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة ليست قاعدة مطردة – كما هو مشروح في علم المصطلح -، فكم من حديث كثرت طرقه ، ومع ذلك ضعفه العلماء كحديث : “من حفظ على أمتي أربعين حديثاً …” وغيره . ولذلك قال الحافظ الزيلعي في كتابه القيم “نصب الراية لأحاديث الهداية” (1/358 -360 ) : “وأحاديث الجهر – وإن كثرت رواتها ، لكنها – كلها ضعيفة ، وكم من حديث كثرت رواته ، وتعددت طرقه ، وهو حديث ضعيف ، كحديث الطير”.

ومن هذا القبيل حديث قصة الغرانيق ، ولي فيها رسالة نافعة مطبوعة .

ولهذا لم نر الحفاظ المتقدمين أعملوا هذه القاعدة هنا ، بل صرحوا بضعف الحديث([20])  -كما تقدم عن الإمام البخاري والعقيلي والبزار ، وأبي يعلى الخليلي – ، بل إن هذا نقل رده عن جميع أهل الحديث  -كما سبق – ) .

المبحث الثالث : العمل بالحديث الصحيح :

أجمع العلماء على وجوب العمل بالحديث الصحيح ، وهو حجة في الأحكام والعقائد ، دون تفريق بينهما ، ولا عبرة بخلاف من خالف في ذلك فإن خلافه يعد شذوذا([21]) ، وممن نقل الإجماع الخطيب البغدادي([22]) ، وابن حزم([23]) ، وأبو الحسين البصري([24]) ، وأبو يعلى([25]) ، وأبو الوليد الباجي([26]) ، وإمام الحرمين([27]) ، والغزالي([28]) ، وابن الحاجب([29]) ، وأبو الخطاب([30]) ، والسمرقندي([31]) ، وشمس الدين الأصفهاني([32]) ، وابن برهان([33]) ، وابن السمعاني([34]) ، وابن قدامة([35]) ، وغيرهم كثير .

قال الإمام الشافعي -رحمهم الله تعالى- ([36]) : (ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه ، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبَّته ، جاز لي) .

وقال ابن عبد البر([37]) : (ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول الله ﷺ أو أجمعت عليه الأمة ، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه) .

وأدلة وجوب قبول خبر الواحد الصحيح والعمل به كثيرة جدا ، ولو أردنا أن نستقصيها لخرجنا بمجلدات ، وأكثر من تكلم عليها فيما قرأت الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه الرسالة([38]) ، والإمام البخاري في صحيحه في كتاب أخبار الآحاد ، وغيرهما ، وقد أطلت هذا المبحث في كتابي التنقيحات في شرح تسهيل الطرقات لنظم الورقات في مبحث الآحاد فراجعه غير مأمور .

المبحث الرابع : أول من جمع الحديث الصحيح :

قال ابن كثير([39]) : (أول من اعتنى بجمع الصحيح أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، وتلاه صاحبه وتلميذه أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري . فهما أصح كتب الحديث ) .

فأول من اعتنى بجمع الصحيح المجرد ، هو الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري -رحمه الله تعالى- (ولد سنة 194 هـ وتوفي سنة 256 هـ) في كتاب أسماه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ﷺ وسنته وأيامه) .

وسبب تأليفه لكتابه الجامع ما ذكره الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى-([40]) فإنه قال : (فَقَلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وعثمان بن أبي شيبة ، وغيرهم من النبلاء ، ومنهم من صنف على الأبواب ، وعلى المسانيد معا كأبي بكر بن أبي شيبة ، فلما رأي البخاري -رضي الله عنه- هذه التصانيف ورواها ، وانتشق رياها ، واستجلى محياها ، وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح ، والتحسين ، والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال : لِغَثِّه سمين فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين ، وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه … قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري : كنا عند إسحاق بن راهويه فقال : لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله ﷺ . قال : فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع الجامع الصحيح . وروينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس قال سمعت البخاري يقول : رأيت النبي ﷺ وكأنني واقف بين يديه ، وبيدي مروحة أذب بها عنه ، فسألت بعض المعبرين فقال لي : أنت تذب عنه الكذب ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح … قال البخاري : ما كتبت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين ) .

ثم تلاه تلميذه الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري ، (ولد سنة 204 هـ وتوفي سنة 261 هـ)  في كتاب أسماه (المسند الصحيح) .

المسألة الأولى : شرط الشيخين البخاري ومسلم في صحيحيهما :

سبق أن شروط الحديث الصحيح خمسة وهي اتصال السند ، والعدالة ، وتمام الضبط ، وعدم الشذوذ ، وعدم العلة ، وذكر كثير من العلماء أن الإمام البخاري اشترط أن يكون الراوي الذي يروي عن شيخه ثبت له اللقاء ولو مرة واحدة بشيخه ، وأما الإمام مسلم لا يشترط ثبوت اللقاء حتى يحكم بالاتصال بل يثبت عنده الاتصال بالمعاصرة ، وأن لا يكون الراوي ممن ترد روايته بالتدليس ، وأن لا يوجد دليل أو قرينة تدل على انتفاء اللقاء .

وهذا البحث في الحديث الذي قال فيه الراوي (عن) ونحوها ولم يصرح بالتحديث ولم يكن مدلسا ، كما سيأتي تفصيل ذلك في الحديث المدلس والمعنعن إن شاء الله تعالى .

ولا شك أن ما ذكر من أنه شرط للبخاري في صحيحه يزيد من قوة الاتصال وصحة الحديث ، وأيضا صحيح البخاري يرجح على صحيح مسلم من وجوه ، قال ابن كثير([41]) : (والبخاري أرجح ، لأنه اشترط في إخراجه الحديث -في كتابه هذا- أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه ، ولم يشترط مسلم الثاني ، بل اكتفى بمجرد المعاصرة ) .

وقال الحافظ ابن حجر([42]) : (فالصفاتُ التي تدور عليها الصحةُ في كتابِ البُخَارِيِّ أتمُّ منها في كتابِ مسلمٍ وأشدّ ، وشَرْطُهُ فيها أقوى وأسدّ .

أما رُجْحانه من حيثُ الاتصال : فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لِقَاءُ مَنْ روى عنه، ولو مرةً ، واكتفى مسلمٌ بمطْلَقِ المعاصرة …

وأما رُجْحانُه مِنْ حيثُ العدالةُ والضبطُ : فلأنّ الرجالَ الذين تُكُلِّمَ فيهم مِن رجالِ مسلمٍ أكثرُ عدداً من الرجال الذين تُكُلِّمَ فيهم مِنْ رجالِ البُخَارِيّ ، مع أن البخاريَّ لم يُكْثِرْ من إخراج حديثهم ، بل غالبُهم من شيوخه الذين أَخذ عنهم ، ومارس حديثهم ، بخلافِ مسلمٍ في الأمرين.

وأما رُجحانُه من حيثُ عدمُ الشذوذِ والإعلالِ : فلأن ما انْتُقِدَ على البُخَارِيّ من الأحاديث أقلُّ عدداً مما انْتَقِدَ على مسلمٍ ، هذا مع اتفاق العلماء على أن البخاريَّ كانَ أجلَّ مِنْ مُسْلم في العلوم ، وأعرفَ بصناعةِ الحديث منه ، وأن مسلماً تلميذه وخِرِّيجُهُ ولم يَزَلْ يستفيدُ منه ويَتَّبع آثارَه ، حتى لقد قال الدارقطنيُّ : لولا البخاريُّ لما راحَ مسلمٌ ولا جاء ) .

إلا أن ما ينسب  للإمام البخاري من أنه اشترط العلم بثبوت اللقيّ مع المعاصرة في صحيحه ، وكذلك نسب إلى علي بن المديني([43]) ، فهذه النسبة فيها نظر ، لأن الظاهر من صنيع الإمام البخاري أنه كغيره من الأئمة في عدم اشتراط ذلك ، فإنه لا يختلف اثنان في أن الإمام البخاري لم يصِّرح بالشرط المنسوب إليه لا في صحيحه ولا خارج صحيحه ، وما كان كذلك لا يصح أن ينسب إليه أنه يشترط ذلك سواء كان شرط صحة أو كمال ، فالإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كبقية العلماء في أن العلم بثبوت اللقيّ ليس بشرط ، واثبات أنه يشترط العلم بثبوت اللقيّ يحتاج إلى دليل إلا أن الإمام البخاري يغلب عليه التحري في كتابه الجامع الصحيح ، ومما يدل على ذلك ما يأتي :

أولا : أن الإمام البخاري لم يصرح بالشرط المنسوب إليه ، ولو كان شرطا عنده لصرح به ، أو لعلمه تلامذته ، يؤيده :

ثانياً : قال الإمام مسلم([44]) : (وَزَعَمَ الْقَائِلُ الَّذِي افْتَتَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِهِ ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ سُوءِ رَوِيَّتِهِ ، أَنَّ كُلَّ إِسْنَادٍ لِحَدِيثٍ فِيهِ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ ، وَقَدِ أحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدْ كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَى الرَّاوِي عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَشَافَهَهُ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ مِنْهُ سَمَاعًا ، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمَا الْتَقَيَا قَطُّ ، أَوْ تَشَافَهَا بِحَدِيثٍ ، أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عِنْدَهُ بِكُلِّ خَبَرٍ جَاءَ هَذَا الْمَجِيءَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا مِنْ دَهْرِهِمَا مَرَّةً فَصَاعِدًا ، أَوْ تَشَافَهَا بِالْحَدِيثِ بَيْنَهُمَا ، أَوْ يَرِدَ خَبَرٌ فِيهِ بَيَانُ اجْتِمَاعِهِمَا وَتَلَاقِيهِمَا مَرَّةً مِنْ دَهْرِهِمَا فَمَا فَوْقَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ ، وَلَمْ تَأْتِ رِوَايَةٌ تُخْبِرُ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ عَنْ صَاحِبِهِ قَدْ لَقِيَهُ مَرَّةً ، وَسَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهِ الْخَبَرَ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا حُجَّةٌ ، وَكَانَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ سَمَاعُهُ مِنْهُ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ فِي رِوَايَةٍ مِثْلِ مَا وَرَدَ … وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْحَمُكَ اللهُ فِي الطَّعْنِ فِي الْأَسَانِيدِ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ ، مُسْتَحْدَثٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ ، وَلَا مُسَاعِدَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الشَّائِعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَاتِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ ثِقَةٍ رَوَى عَنْ مِثْلِهِ حَدِيثًا ، وَجَائِزٌ مُمْكِنٌ لَهُ لِقَاؤُهُ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا وَلَا تَشَافَهَا بِكَلَامٍ فَالرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ ، وَالْحُجَّةُ بِهَا لَازِمَةٌ ، إِلَّا أَنَّ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الرَّاوِي لَمْ يَلْقَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ، أَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا ، فَأَمَّا وَالْأَمْرُ مُبْهَمٌ عَلَى الْإِمْكَانِ الَّذِي فَسَّرْنَا ، فَالرِّوَايَةُ عَلَى السَّمَاعِ أَبَدًا حَتَّى تَكُونَ الدَّلَالَةُ الَّتِي بَيَّنَّا ، فَيُقَالُ لِمُخْتَرِعِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي وَصَفْنَا مَقَالَتَهُ ، أَوْ لِلذَّابِّ عَنْهُ : قَدْ أَعْطَيْتَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِكَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنِ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ حُجَّةٌ يَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ ، ثُمَّ أَدْخَلْتَ فِيهِ الشَّرْطَ بَعْدُ ، فَقُلْتَ : حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُمَا قَدْ كَانَا الْتَقَيَا مَرَّةً فَصَاعِدًا ، أَوْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا ، فَهَلْ تَجِدُ هَذَا الشَّرْطَ الَّذِي اشْتَرَطْتَهُ عَنْ أَحَدٍ يَلْزَمُ قَوْلُهُ ؟ وَإِلَّا فَهَلُمَّ دَلِيلًا عَلَى مَا زَعَمْتَ ، فَإِنِ ادَّعَى قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ بِمَا زَعَمَ مِنْ إِدْخَالِ الشَّرِيطَةِ فِي تَثْبِيتِ الْخَبَرِ ، طُولِبَ بِهِ ، وَلَنْ يَجِدَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ إِلَى إِيجَادِهِ سَبِيلًا) .

فقول الإمام مسلم هذا والإجماع الذي نقله يدل دلالة واضحة أن اللقاء ليس بشرط في الحديث المعنعن من غير المدلس ، ويبعد أن يكون الإمام البخاري يشترط هذا الشرط مع نقل مسلم للإجماع ، ومسلم تلميذ البخاري فلا يتصور هذا التجهيل والقول الشديد الشنيع في شيخه ، ولا يتصور أن الإمام البخاري يشترط هذا الشرط ولا يعلم به تلميذه الإمام مسلم ، فالإمام مسلم يشترط في صحة الحديث المعنعن المعاصرة ، وأن لا يكون الراوي ممن ترد روايته بالتدليس ، وأن لا يوجد دليل أو قرينة تدل على انتفاء اللقاء .

ثالثاً : أنه وجدت أحاديث في صحيح البخاري تدل على عدم اشتراط العلم بثبوت اللقاء ، نذكر منها حديثا واحد :

قال الإمام البخاري حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ ، سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))([45]) .

فسماع ولقاء أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان –رضي الله عنه- غير ثابت ومع ذلك اكتفى الإمام البخاري بالمعاصرة لعدم وجود  دليل أو قرينة تدل على انتفاء اللقاء ، قال ابن أبي حاتم الرازي : (قَالَ أَبِي : أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ لَيْسَ تَثْبُتْ رِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ ، فَقِيلَ لَهُ : سَمِعَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ؟ قَالَ : قَدْ رَوَى عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ سَمَاعًا)([46]) . وقال أبو حاتم الرازي : (أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَثْرَمُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ : وَذَكَرَ شُعْبَةَ لَمْ يَسْمَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ مِنْ عُثْمَانَ وَلَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْ عَلِيٍّ)([47]) .

وحاول الحافظ ابن حجر الدفاع عن هذا لكن أقر في النهاية بالمعاصر قال -رحمه الله تعالى-([48]) : (ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة ، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج ، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان ، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان -رضي الله عنه- ولا سيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره ، فكان هذا أولى من قول من قال : إنه لم يسمع منه) .

فهنا لم يأت بدليل على العلم بثبوت اللقاء وإنما اكتفى بالمعاصرة ، وأما مسألة القراءة التي ذكرها الحافظ من أنه قرأ القرآن على عثمان –رضي الله عنه- تحتاج إلى إثبات ولهذا لم يقطع الحافظ بها لعلمه بعدم ثبوتها وإنما اكتفى بقوله : اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان . والله أعلم .

رابعاً : قال الترمذي([49]) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا سلمة بن رجاء ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي واقد الليثي ، قال : ((قدم النبي ﷺ المدينة وهم يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم فقال : ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة )) . سألت محمدا([50]) عن هذا الحديث فقلت له : أترى هذا الحديث محفوظا ؟ قال : نعم . قلت له : عطاء بن يسار أدرك أبا واقد ؟ فقال : ينبغي أن يكون أدركه ، عطاء بن يسار قديم .

فاكتفى الإمام البخاري هنا بالمعاصرة ولم يشترط العلم بثبوت اللقاء .

المسألة الثانية : ما المراد من قول العلماء –رحمهم الله تعالى- عند تخريج الحديث خارج الصحيحين : على شرط البخاري ومسلم أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم ؟

الراجح من أقوال العلماء بأن المراد به رجال السند مع باقي شروط الحديث الصحيح ، وهو اختيار الحافظ ابن حجر([51]) ، وبهذا قال ابن الصلاح([52]) والنووي([53]) ، وابن دقيق العيد والذهبي([54]) ، فإذا قيل في حديث بأنه على شرط الشيخين فالمراد به أن رجال الحديث رجال البخاري ومسلم ، وإذا قيل بأنه على شرط البخاري فرجال الإسناد رجال البخاري ، أو فيهم واحد من رجال البخاري فقط ، والباقون متفق عليهما ، وإذا قيل بأنه على شرط مسلم فرجال الحديث رجال مسلم ، أو فيهم واحد من رجال مسلم فقط ، والباقون متفق عليهما([55]) ،  إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه ليس كل من أخرج عنه البخاري أو مسلم يحكم عليه بكونه على شرطه مطلقاً ، وإنما يحكم عليه بكونه على شرطه بما يأتي([56]) مع باقي شروط الحديث الصحيح :

أولا : إذا أخرجا عنه في الأصول لا في المتابعات والشواهد ، فمن خرجا له في غير الأصول ، فليس على شرط الصحيح .

ثانياً : أنهما يخرجان حديث الراوي عن بعض شيوخه ، ولا يخرجانه عن شيخ معين مع ثقة ذلك الشيخ ؛ لكون الراوي عنه ضعيفاً فيه ، وذلك كسفيان بن حسين خرجا له ما لم يكن من حديثه عن الزهري ؛ لأنه كان ضعيفاً فيه .

ثالثاً : يخرجان للشيخ في بعض حديثه ضعف ، فينتقيان منه ما هو محفوظ دون سائره ، كتخريجهما لإسماعيل بن أبي أويس وشبهه .

رابعاً : يخرجان من روايات الثقات الموصوفين بالتدليس ما ثبت أنهم لم يدلسوا فيه ، أو الذين اختلطوا في أواخر أعمارهم ، ما ثبت أنه ليس مما ضر به الاختلاط .

وهذا مما أغفله المستدركون على الصحيحين ما لم يخرجاه ، وأبرزهم الحاكم في كتابه المستدرك .

وعليه فالأفضل نطلق على الحديث الذي رجال إسناده رجال الشيخين : إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين بدل قولنا : على شرط الشيخين ، وكذا نقول على الحديث الذي رجاله رجال البخاري : إسناده صحيح ورجاله رجال البخاري ، وكذا مسلم ، إلا إذا كان إسناد الحديث كسلسلة إسناد الشيخين فنقول : حديث على شرط الشيخين ، أو كسلسلة إسناد البخاري فنقول : على شرط البخاري ،  أو كسلسلة إسناد مسلم فنقول : على شرط مسلم . والله أعلم .

المسألة الثالثة : لم يستوعب البخاري ومسلم في صحيحيهما جميع الأحاديث الصحيحة :

لم يستوعب الصحيحان جميع الأحاديث الصحيحة ،  فقد قال البخاري : (مَا أدخلت فِي كتاب «الْجَامِع» إلَّا مَا صحَّ ، وَتركت من الصِّحَاح لحَال الطول)([57]) ، وسأل أَبُو بَكْرٍ الإمام مسلم عن حديث فَقَالَ : (هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ فَقَالَ : لِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَا هُنَا ؟ قَالَ : لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْتُهُ هَا هُنَا إِنَّمَا وَضَعْتُ هَا هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ)([58]) .

وفسر ابن الصلاح قوله : ( ما أجمعوا عليه ) بأمرين ، قال الإمام النووي([59]) : (قال الشيخ وجوابه من وجهين : أحدهما : أن مراده أنه لم يضع فيه إلا ما وجد عنده فيه شروط الصحيح المجمع عليه وإن لم يظهر اجتماعها في بعض الأحاديث عند بعضهم . والثاني : أنه أراد أنه لم يضع فيه ما اختلفت الثقات فيه في نفس الحديث متنا أو إسنادا ولم يرد ما كان اختلافهم إنما هو في توثيق بعض رواته وهذا هو الظاهر من كلامه ) .

المبحث الخامس : مراتب الصحيح بالنظر لرواية البخاري ومسلم :

اعلم أن الحديث الصحيح من حيث الترجيح والقوة على الترتيب الآتي :

الأول : صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعا .

الثاني : صحيح انفرد به البخاري عن مسلم .

الثالث : صحيح انفرد به مسلم عن البخاري .

الرابع : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه .

الخامس : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه .

السادس : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه .

السابع : صحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما .

 ([1]) ينظر : تهذيب اللغة (3/404) ، والمحكم (2/494) ، ولسان العرب (7/287) ، والقاموس المحيط ص (291) .

 ([2]) ينظر : نزهة النظر ص (67) ، وفتح المغيث ص (7) ، والتقيد والإيضاح ص (24) ، وتدريب الراوي (1/39) ، وإرشاد الفحول (1/172) ، والموقظة ص (1) .

 ([3]) رواه البخاري في بدء الوحي/باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ رقم الحديث (1) .

 ([4]) رواه الترمذي في الدعوات عن رسول الله/بَاب فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ رقم الحديث (3473)  .

 ([5]) تقريب التهذيب رقم (1255) .

 ([6]) فتح الباري (1/418) .

 ([7]) فتح الباري (11/240) .

 ([8]) رواه الترمذي في الزهد عن رسول الله/بَاب مَا جَاءَ فِي فَنَاءِ أَعْمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ رقم الحديث (2253)  .

 ([9]) تقريب التهذيب رقم (5877)  .

[10])) رواه أبو داود في الطهارة /بَاب فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الْوُضُوءِ رقم الحديث (92) . وقد رواه أحمد في المسند رقم الحديث (9418) ، والترمذي في العلل الكبير (1/111) ، والطبراني في الأوسط رقم (8076) ، والدارقطني (1/79) ، والحاكم (1/146) ، والبيهقي (1/43) ، والبغوي في شرح السنة رقم (209) .

 ([11]) تقريب التهذيب رقم (7818) .

 ([12]) تقريب التهذيب رقم (2518) .

 ([13]) شرح ألفية السيوطي ص (14) .

 ([14]) رواه الحاكم في المستدرك (3/141) رقم (4650) ، والنسائي في الكبرى (5/107) رقم (8398) ، والترمذي في سننه (5/636) رقم الحديث (372) ، والطبراني في المعجم الأوسط (2/207) ، والمعجم الكبير (1/235) رقم (730) ، والبزار في مسنده (14/80) ، وغيرهم .

 ([15]) العلل المتناهية (1/236) .

 ([16]) الضعفاء الكبير (1/46) .

 ([17]) منهاج السنة (7/263) .

 ([18]) البداية والنهاية (7/390) .

 ([19]) السلسلة الضعيفة (14/181) .

 ([20]) يعني حديث أنس –رضي الله عنه- المتقدم .

 ([21])ينظر : تقويم الأدلة ص (170) ، وتيسير التحرير (3/82) وعَدَّ قول المخالف شاذاً ، والفائق في أصول الفقه (3/398) ، ونفائس الأصول (3/554) ، والمستصفى (2/189) ، ولباب المحصول في علم الأصول (1/348) ، والإحكام للآمدي (2/51) ، والمحصول (4/353) ، وشرح غاية السول ص (215) ، وشرح اللمع (2/309) ، والوصول إلى الأصول (2/163) ، وتحفة المسؤول (2/348) ، والفصول في أصول الفقه ص (75) ، والبرهان (1/388) ، والآيات البينات (3/290) ، والغيث الهامع (2/493) ، وتشنيف المسامع (2/961) ، ونهاية السول للإسنوي (2/685) ، وأصول السرخسي (1/21) ، وشرح الكوكب المنير (2/361) ، والعُدة (3/859) ، ومختصر الصواعق ص (502) ، والتبصرة ص (303) ،  ونهاية الوصول للهندي (7/2812) ، وشرح مختصر الروضة (2/118) ، والمسودة (1/476) ، والمعتمد (2/573) ، وشرح الورقات لابن الفركاح ص (228) ، وأصول مذهب الإمام أحمد ص (287) ، ومعالم أصول الفقه ص (146) ، وإرشاد الفحول ص (93) ، وروضة الناظر (1/370) ، والتحقيقات في شرح الورقات ص (471) ، والتحبير شرح التحرير (4/1832) ، والمهذب في علم أصول الفقه (2/689) ، وإتحاف ذوي البصائر (3/151) ، ومذكرة الشنقيطي ص (187) ، وخبر الواحد وحجيته ص (221) ، وخبر الآحاد وأثره في اختلاف الفقهاء ص (50) ، وخبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته (2/53) ، وحكم الاحتجاج بخبر الواحد إذا عمل الراوي بخلافه ص (35) ، والرسالة الإمام الشافعي ص (401) .

 ([22])الكفاية ص (76) .

 ([23])  الإحكام (1/110) .

 ([24])المعتمد (2/591) .

 ([25])العدة (3/865) .

 ([26])  أحكام الفصول ص (334).

 ([27])  البرهان (1/389) .

 ([28])المستصفى (2/189) .

 ([29])رفع الحاجب (2/334)  .

 ([30])التمهيد (3/54) .

 ([31])ميزان الأصول ص (451) .

 ([32])شرح المنهاج (2/557)  .

 ([33])الوصول (2/168) .

 ([34])القواطع ص (656) .

 ([35])روضة الناظر (1/370) .

 ([36])الرسالة ص (457) .

 ([37])جامع بيان العلم وفضله (2/96) .

 ([38])ص (401 – 471) .

 ([39])الباعث الحثيث  (1/102) .

 ([40])مقدمة فتح الباري ص (8) .

 ([41])الباعث الحثيث  (1/102) .

 ([42])نزهة النظر ص (208) .

  ([43])أول من نسب هذا الشرط إلى البخاري وعلي بن المديني هو القاضي عياض المتوفى (544هـ) في كتابه إكمال المعلم ، ولم يذكر دليلا على ذلك .

  ([44])صحيح مسلم (1/28) .

  ([45])رواه البخاري فضائل القرآن/بَابٌ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ رقم الحديث (5027) .

  ([46])المراسيل ص (107) .

  ([47])المراسيل ص (107) .

  ([48])المراسيل ص (107) .

  ([49])العلل الكبير (2/39) رقم (267) .

  ([50])يعني الإمام البخاري .

 ([51])ينظر : نزهة النظر ص (89) .

 ([52])ينظر : علوم الحديث ص (18) ، وصيانة صحيح مسلم ص (99) .

 ([53])ينظر : شرح مسلم (1/26) .

 ([54])ينظر : التقييد والإيضاح ص (30) ، والنكت لابن حجر (1/319) .

 ([55])وبعضهم يقول : إن معنى على شرط الشيخين ، أي : أن هذا الحديث قد توفرت فيه الشروط التي يشترطها الشيخان في صحيحيهما ، وإن لم يكن رجاله رجالهما ، وهذا ليس صحيحاً ، وقيل غير ذلك . ينظر : فتح المغيث (1/48) ، ومعرفة علم الحديث للحاكم ص (62) ، والمدخل له ص (87) ، وشروط الأئمة الستة لابن طاهر ص (10) ، وشروط الأئمة الخمسة لابن طاهر ص (43) .

 ([56])ينظر ما سيأتي : تحرير علوم الحديث (3/163) .

 ([57])ينظر : البدر المنير (1/297) ، تغليق التعليق (5/420) ، تدريب الراوي (1/98) .

 ([58])صحيح مسلم (2/371) .

 ([59])شرح مسلم (1/16) .

مباديء علم الحديث

علم مصطلح الحديث

إن كلّ علم يريد الإنسان أن يتعلمه عليه أن يعرف مبادئه العشرة المجموعة في قول الناظم:

إن مبادئ كل علم عشــــرة *** الحد والموضوع ثم الثــمرة

ونسبته وفضله والواضــــع*** الاسم الاستمداد حكم الشــارع

مسائل والبعض بالبعض اكتـفى*** ومن درى الجميع حاز الشـرفا

اعلم أن علم الحديث ينقسم إلى قسمين :

القسم الأول : علم الحديث دراية .

وسأتكلم عن مبادئه العشرة .

القسم الثاني : علم الحديث رواية .

وسأتكلم عن مبادئه العشرة .

القسم الأول : علم الحديث دراية :

فلنشرع في مبادئه العشرة :

المبدأ الأول : الحد : علم الحديث دراية :

علم الحديث دراية ، هو علم مصطلح الحديث ، وهو المقصود بالشرح والبحث ، فهو مركب من كلمتين مضاف ومضاف إليه ، فالمضاف المصطلح ، والمضاف إليه الحديث ، والمضاف وهو المصطلح يخدم المضاف إليه وهو الحديث .

تعريفه :

معرفة القواعد التي يُعرف بها حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد وما يتبع ذلك من كيفية التحمل والأداء والضبط .

شرح التعريف :

قولنا : (معرفة القواعد) المعرفة تشمل القطع والظن ، فمعرفة القواعد قد يكون يقينياً وقد يكون ظنيًّا .

وقولنا : (القواعد) جمع قاعدة ، والمراد بها هنا الطرق والأسس التي وضعها علماء الحديث لمعرفة  قبول الحديث أو رده .

وقولنا : (يُعرف بها حال الراوي والمروي) يعني يعرف بهذه القواعد التي وضعها علماء الحديث حال الراوي في السند ، وحال المروي وهو المتن .

وقولنا : (من حيث القبول والرد) يعني هذه القواعد التي وضعها علماء الحديث لمعرفة الإسناد والمتن من حيث قبول الراوي إذا كان عدلا ، ورده إن كان غير ذلك ، وقبول المروي إن كان صحيحاً أو حسناً ، ورده إن كان دون ذلك .

وقولنا :  (وما يتبع ذلك من كيفية التحمل) يتبع القبول والرد للراوي أو المروي من كيفية التحمل ، يعني تحمل الراوي للحديث ، وسن التحمل ، وروايته عن الشيخ بالقراءة عليه ، أو السماع منه ، والإجازة ونحو ذلك .

وقولنا : ( والأداء) أي كيفية أداء الحديث ، هل أداه من حفظه أو كتابه ، ونحو ذلك .

وقولنا : (والضبط) أي ضبط الراوي للمروي ، وهو على قسمين : ضبط صدر ، وضبط كتاب . كلّ ذلك سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .

المبدأ الثاني : موضوعه :

موضوعه الراوي والمروي ، أو قل : السند والمتن من حيث القبول والرد .

وكان موضوعه الراوي والمروي لأنه يبحث عن العوارض الذاتية للراوي والمروي ، مثل : الحديث الصحيح والحسن يستدل بهما ، والحديث الضعيف لا يستدل به ، الراوي الضعيف يضعّف به المروي ، ونحو ذلك .

المبدأ الثالث : ثمرته :

فائدة هذا العلم تميز الحديث الصحيح من الضعيف ، والمقبول من المردود ، فيعمل بالأول ويستدل به ، ولا يعمل بالثاني ، أو قل : فائدته حفظ سنة النبي ﷺ من أن يدخل فيها ما ليس منها ، فيعمل بما صح منها ويترك ما خالف ذلك .

المبدأ الرابع : نسبته :

نسبة علم الحديث إلى العلوم الأخرى ، والعلاقة بينهما تباين حيث إن هذا علم له أبواب مختلفة عن علم الأصول ، وعن علم الفقه ، والعلوم الشرعية الأخرى ، ومن حيث إن العالم لا يستغني عنه فهو جزء من العلوم الشرعية .

وهذا العلم يخدم حديث النبي ﷺ من حيث قبوله ورده ، فهو من علوم الوسائل .

المبدأ الخامس : فضله :

فضل هذا العلم عظيم لأن حفظ حديث سيد المرسلين ﷺ حفظ للدين ، فهو علم حري بالعناية ، وسلامة الأحكام المستنبطة متوقفة على ثبوت أدلتها من الأحاديث المرفوعة ، وأقوال الصحابة الموقوفة .

قال الحافظ ابن رجب([1]) : (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها ، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك ، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً ، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً ، وفي ذلك كفاية لمن عقل ، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل) .

وقال([2]) : ( ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحه من سقيمه ، وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل ، فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله ،  ويلتبس حقه بباطل ولا يثق بما عنده من ذلك ) .

وقال الخطيب البغدادي([3]) : (طاعة الله في طاعة رسوله ﷺ ، وطاعة رسوله ﷺ في إتباع سننه إذ هي النور البهي ، والأمر الجلي ، والحجة الواضحة ، والمحجة اللائحة ، من تمسك بها اهتدى ، ومن عدل عنها ضل وغوى ، ولما كان ثابت السنن والآثار وصحاح الأحاديث المنقولة والأخبار ملجأ المسلمين في الأحوال ، ومركز المؤمنين في الأعمال إذ لا قوام للإسلام إلا باستعمالها ، ولا ثبات للإيمان إلا بانتحالها ، وجب الاجتهاد في علم أصولها ، ولزم الحث على ما عاد بعمارة سبيلها) .

المبدأ السادس : واضع علم مصطلح الحديث :

أول من صنف في هذا العلم كفن مستقل ، هو القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاّد الرَامَهُرْمُزي المتوفى سنة 360 هـ  ، في كتاب أسماه (المحدّث الفاصل بين الراوي والواعي).

قال الكتاني([4]) : (كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للقاضي أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهُرْمُزي ، قال الذهبي : لم أظفر بتاريخ موته , وأظنهُ بقي إلى حدود الخمسين وثلاثمائة ، وذكر أبو القاسم بن منده في كتاب (الوفيات) له : أنه عاش إلى قرب الستين وثلاثمائة بمدينة (رام هُرْمُز) , وهو أول كتاب ألف في علوم الحديث في ما يغلب على الظن ، وإن كان يوجد قبله مصنفات مفردة في أشياء من فنونه لكن هو أجمع ما جمع من ذلك في زمانه، وإن كان لم يستوعب ، ثم كتاب (علوم الحديث) لأبي عبد الله الحاكم ، لكنه لم يهذب ولم يرتب ، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني ، فعمل على كتابه (مستخرجا) وأبقى أشياء للمتعقب ، ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي ، فصنف في قوانين الرواية وأصولها كتابا سماه ( الكفاية ) وفي آدابها كتابا سماه ( الجامع لآداب الشيخ والسامع ) وكل منهما غاية في بابه … ) .

المبدأ السابع : الاسم :

اسمه علم مصطلح الحديث ، أو علوم الحديث أو علم أصول الحديث ، أو علم الحديث دراية .

المبدأ الثامن : الاستمداد :

يستمد  هذا العلم من كلام المحدثين واصطلاحاتهم ، إما في كتب مستقلة ، أو أثناء كلامهم على الحديث ، أو في مقدمة الكتب ، أو أواخرها ، ونحو ذلك ، فهو مستمد من كلام الأئمة من أهل الحديث .

المبدأ التاسع : حكم تعلمه :

حكم تعلمه فرض كفاية ، لأنه لا يمكن أن يمحص كلام رسول الله ﷺ إلا بهذا العلم ، فتعلمه عبادة ، ففيه الفوز بالدارين إذا صلحت النية ، وحسن القصد .

المبدأ العاشر : مسائله :

المقصود بمسائله الجزئيات التي يتكون منها هذا العلم ، وهي أنواع الحديث ، وكل نوع تحته تفاصيل ، فمسائله تتعلق بالإسناد من حيث الاتصال والانقطاع والتدليس وما شابه ذلك ، وتتعلق بالمتن من حيث القلب والشذوذ وهكذا .

القسم الثاني : علم الحديث رواية .

فلنشرع في مبادئه العشرة :

المبدأ الأول : الحد : علم الحديث رواية :

تعريف علم الحديث رواية في الاصطلاح : معرفة ما ينقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة .

شرح التعريف :

قولنا : (معرفة) : المعرفة تشمل القطع والظن ، فمعرفة ما ينقل عن النبي ﷺ قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا .

وقولنا : (ما) : موصولة بمعنى الذي .

وقولنا : (ما ينقل عن النبي ﷺ) : خرج به ما نقل عن غيره من الصحابة والتابعين ومن دونهم .

وقولنا : (من) : بيانية .

وقولنا : (قول) : يشمل الأمر والنهي الصادرين عنه ﷺ .

مثال الأمر : عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ : ((أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَحِيمًا رَفِيقًا ، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ : ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ – وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا – وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ))([5]) .

مثال النهي : عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِي يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ ، وَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَمْ أَفْعَلْ هَذَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ  يَقُولُ : (( لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ ))([6]) .

وقولنا : (أو فعل) : يشمل شيئين :

الأول : فعل إيجاد : وهو ما حكي من فعل النبي ﷺ .

وهو على أربعة أحوال :

الأولى : أفعال جبلية ، مثل تناول الطعام والشراب ، وقضاء الحاجة ، والمشي ، والجلوس ، والنوم ، والتداوي من المرض ، ونحوها .

وأصل هذه الأشياء ضروري للإنسان من حيث هو إنسان ، لأنه سيصاب بالضرر لو امتنع منها بالكلية ، وعليه فهو يفعلها تحت ضغط الضرورة ، وبذلك يكون فعله لها خارجاً عن التكليف ، ولا قدوة بما لا تكليف فيه ، فيكون مباحاً .

واعلم أن الفعل الجبلي الاختياري مهما كان نوعه فإنه يدل على الإباحة فقط ، إلا إذا اقترن به قول أو قرينة تدل على أنه للاستحباب  أو الوجوب .

الثانية : أفعال على سبيل العادة ، ويقصد به ما فعله النبي ﷺ جرياً على عادة قومه ومألوفهم .

مثاله : أنه ﷺ لبس القميص والجبّة والعمامة ، وأطال شعره ، واستعمل القِرب الجلدية في حفظ الماء ، وكان يكتحل ، ويستعمل الطيب والعطور ، ونحوها .

وحكم هذه الأمور العادية كنظائرها من الأفعال الجبلية ، والأصل فيها جميعاً أنها تدل على الإباحة لا غير ، إلا أن يرد قول يأمر بها أو يرغب فيها ، فتكون حينئذٍ شرعية ، مثل لبس البياض من الثياب والكحل بالإثمد  ، أو يظهر ارتباطها بالشرع بقرينة غير قولية ، مثل توجيه الميت في القبر إلى القبلة ، فإن ارتباط ذلك بالشرع لا خفاء فيه ، حيث إن التوجه إلى القبلة متعلق بالشرع .

الثالثة : أفعال خاصة به ﷺ ، إذا قام الدليل على أن هذا الفعل خاص به ﷺ ، لأنّ الأصل في أفعال النبي ﷺ التي فعلها على سبيل القربة التأسي فيها به ﷺ وعدم الخصوصية ، مثال الأفعال الخاصة ﷺ نكاحه ﷺ بأكثر من أربع نسوة ، فقد دل الدليل على تحريم الزيادة على أربع في النكاح .

الرابعة : أفعال تشريعية بيانية ، وهي التي يقصد بها البيان والتشريع ، مثل ما جاء عنه ﷺ في الطهارة ، والصلاة ، والصيام ، والحج ، ونحو ذلك .

الأول : فعل ترك : وهو ما حكي من ترك النبي ﷺ للشيء .

وهو على نوعين باعتبار نقل الصحابة –رضي الله عنهم- له([7]) :

النوع الأول : التصريح بأن النبي ﷺ ترك كذا وكذا ولم يفعله ، كتصريح الصحابة بترك الأذان لصلاة العيدين ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- قَالَ : ((شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ … ))([8]) ، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- : ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ شَكَّ يَحْيَى ))([9]) .

النوع الثاني : عدم نقل الصحابة للفعل الذي لو فعله ﷺ لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله للأمة ، لأنه مما تدعوا الدواعي لنقله ، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة ولا حدث به في مجمع أبدًا عُلم أنه لم يكن ولم يقع .

مثل تركه ﷺ التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة ، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهو يؤمنون على دعائه ، بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات .

وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أن يترك النبي ﷺ الفعل لعدم وجود المقتضي له ، وذلك كتركه قتال مانعي الزكاة ، فهذا الترك لا يكون سنة ، بل إذا قام المقتضي ووجد كان فعل ما تركه ﷺ مشروعًا غير مخالف لسنته ، كقتال أبي بكر – رضي الله عنه – لمانعي الزكاة ، بل إن هذا العمل يكون من سنته لأنه عمل بمقتضى سنته ﷺ .

الثاني : أن يترك النبي ﷺ الفعل مع وجود المقتضي له بسبب قيام مانع ، كتركه ﷺ فيما بعد قيام رمضان جماعة بسبب خشيته أن يُكتب على أمته ؛ فهذا الترك لا يكون سنة ، بل إذا زال المانع بموته ﷺ كان فعل ما تركه ﷺ مشروعًا غير مخالف لسنته كما فعل عمر – رضي الله عنه – في جمعه للناس على إمام واحد في صلاة التراويح ، بل إن هذا العمل من سنته ﷺ لأنه عمل بمقتضاها .

الثالث : أن يترك النبي ﷺ الفعل مع وجود المقتضي له وانتفاء الموانع فيكون تركه ﷺ والحالة كذلك سنة ، كتركه ﷺ الأذان لصلاة العيدين ، والدعاء الجماعي بعد الصلوات الخمس .

وهذا القسم من سنته ﷺ وهو السنة التركية أصل عظيم وقاعدة جليلة ، به تحفظ أحكام الشريعة ويوصد به باب الابتداع في الدين .

وقولنا : (أو تقرير) : هو كفّ النبي ﷺ عن إنكار قول أو فعل لمسلم قاله أو فعله بين يديه -أعني بين يدي النبي ﷺ- أو وقع في عصره وعلم به ﷺ فسكت عنه .

مثاله ما ثبت عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ : (( أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ ))([10]) ، و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- قَالَ : (( كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ ))([11]) .

وقولنا : (أو صفة) :  يشمل الصفة الخَلْقية –بفتح الخاء- مثل ما ثبت عن كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ –رضي الله عنه- يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ قَالَ : (( فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ ))([12]) .

ويشمل صفته الخُلقية –بضم الخاء- مثل ما ثبت عن ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قال : ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))([13]) .

المبدأ الثاني : موضوع علم الحديث رواية :

موضوع علم الحديث رواية هو النبي ﷺ من حيث أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وصفاته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها .

فهو علم يشتمل على ضبط الحديث ونقله وروايته وتحرير ألفاظه ، ومن كتب هذا النوع الصحيحان ، والسنن الأربعة ، وكذلك المسانيد ، والمعاجم ، والأجزاء الحديثية .

المبدأ الثالث : ثمرته :

فائدة هذا العلم معرفة وضبط حديث النبي ﷺ ، وتحرير ألفاظه ، وبيان كيفية الاقتداء به ﷺ ، ومعرفة أفعاله وأحواله للاقتداء به والفوز بالنجاة والسعادة في الدارين ، قال تعالى : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله  كَثِيرًا    ﴾ الأحزاب: ٢١.

المبدأ الرابع : نسبته :

نسبة علم الحديث رواية إلى العلوم الأخرى نسبة تكامل وتوافق ، فهو علم تستنبط منه الأحكام كالقرآن ، وهو مبين لإجماله ، وإن جزءاً كبيراً من الفقه إنما هو ثمرة للحديث ؛ و من هنا كان علم الحديث رواية من أشرف العلوم و أجلها ، بل هو أجلها على الإطلاق بعد العلم بالقرآن الكريم الذي هو أصل الدين ومنبع الطريق المستقيم ، فالحديث مصدر من مصادر التشريع الإسلامي كالقرآن ، بعضه يستقل بالتشريع ، وبعضه الآخر شارح لكتاب الله تعالى مبين لما جاء فيه ، قال تعالى : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ سورة النحل: ٤٤ ، فهو دليل من أدلة الشرع ، جميع العلوم الشرعية بحاجة إليه غير منفكة عنه .

المبدأ الخامس : فضله :

فضله عظيم وشأنه جليل ، فهو العلم الذي يتلقى منه الشرع وتبنى عليه الأحكام كالقرآن ، فالسنة وحي من الله تعالى قال تعالى : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ سورة النجم: ٣ – ٤ ، ولهذا ألزم الله تعالى باتباعها والأخذ بها ، قال تعالى : ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا ﴾ سورة الأحزاب: ٣٦ ، وقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ سورة النساء: ٥٩ ، وقال تعالى : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾  سورة النور: ٦٣، وقال تعالى : ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة الحشر: ٧ ، وقال تعالى : ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ سورة آل عمران: ٣١ .

وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ … ))([14]) .

قال الشوكاني([15]) : (قال الأوزاعي : الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب . وقال ابن عبد البر : إنها تقضي عليه وتبين المراد منه . وقال يحيى بن أبي كثير : السنة قاضية على الكتاب.

والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام) .

المبدأ السادس : واضع علم الحديث :

نشأ علم الحديث رواية في عهد النبي ﷺ ، فقد كان الصحابة يكتبون الحديث في عهده ﷺ ، فعن أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ ))([16]) ، وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصيِ –رضي الله عنه- قَالَ : (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ ، أَفَأَكْتُبُهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قُلْتُ : فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ؟ قَالَ: نَعَمْ ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا حَقًّا ))([17]) ، وقال النبي ﷺ : ((قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِة ))([18]) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قال : (( مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ))([19]) .

قال النووي([20]) : (وكان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث ، ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها . والله اعلم) .

قال الحافظ ابن حجر([21]) : (السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا ، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم ، بل على استحبابه بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم) .

المبدأ السابع : الاسم :

اسمه علم الحديث ، وعلم الحديث رواية ، والسنة .

المبدأ الثامن : الاستمداد :

يستمد  هذا العلم من كلام المعصوم محمد ﷺ .

المبدأ التاسع : حكم تعلمه :

حكم تعلمه فرض كفاية ، وفرض عين على العالم في المسألة التي سيجتهد فيها .

المبدأ العاشر : مسائله :

المقصود بمسائله الجزئيات التي يتكون منها هذا العلم ، وهي أنواع السنة ، وهي القولية ، والفعلية ، والتقريرية ، والصفات الخَلقية والخُلقية للنبي ﷺ . وسبق بيانها .

[1])) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص (150) .

[2])) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص (148) .

[3])) الكفاية ص (3) .

[4])) الرسالة المستطرفة ص (142) .

[5])) رواه البخاري في الأذان/باب الأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً ، وَالإِقَامَةِ رقم الحديث (631) .

[6])) رواه البخاري في الأطعمة/ باب الأَكْلِ فِي إِنَاءٍ مُفَضَّضٍ رقم الحديث (5426) .

[7])) ينظر ما سيأتي : شرح الكوكب المنير (2/165)  ، ومجموع الفتاوى (26/172) ، واقتضاء الصراط المستقيم (2/591 – 597) ، وإعلام الموقعين (2/389 – 391) ، ومعالم أصول الفقه ص (129) .

([8]) رواه مسلم في صلاة العيدين رقم الحديث (1467) .

([9]) رواه أبو داود في الصلاة / بَاب تَرْكِ الْأَذَانِ فِي الْعِيدِ رقم الحديث (968) . وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (4/308) : (حديث صحيح، رجاله رجال البخاري ) .

 ([10])رواه البخاري في العلم/باب متى يصح سماع الصغير رقم الحديث (76) ، ومسلم في الصلاة/باب سترة المصلي رقم الحديث (504) .

 ([11]) رواه البخاري في أبواب الصلاة في الثياب/باب السجود على الثوب في شدة الحر رقم الحديث (378) .

 ([12])رواه البخاري في المناقب/باب صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ رقم الحديث (3556) ، ومسلم في التوبة/باب حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رقم الحديث (7192) .

([13]) أخرجه البخاري في الصوم /باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَكُونُ فِي رَمَضَانَ رقم الحديث (1902) ، ومسلم في الفضائل /باب كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ رقم الحديث (2308) .

 ([14]) رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (17174) . بإسناد صحيح . وصحح إسناده الشيخ الألباني في الحديث حجة بنفسه ص (32) .

 ([15]) إرشاد الفحول (1/97) .

 ([16])رواه البخاري في اللقطة/باب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ رقم الحديث (2434) ، ومسلم في الحج/باب تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا … رقم الحديث (3371) .

 ([17]) رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (7020) . حديث صحيح .

 ([18]) حديث صحيح بمجموع طرقه روي من حديث أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن العباس  -رضي الله عنهم أجمعين- . ينظر تخريجه في السلسلة الصحيحة رقم (2026) .

 ([19])رواه البخاري في العلم/باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ رقم الحديث (113) .

 ([20]) شرح مسلم (1/245) .

 ([21]) فتح الباري (1/204) .