الحديث الضعيف .
المبحث الأول : تعريف الحديث الضعيف :
الضعيف لغة([1]) : الضَعْفُ والضُعْفُ – بفتح الضاد في لغة تميم و بضمها في لغة قريش-: خلاف القوَّة . قال تعالى : ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً…﴾ سورة الروم: ٥٤ ، بالوجهين (ضَعْف) و (وضُعْف) .
وقد ضَعُفَ فهو ضعيفٌ ، وأضْعَفَهُ غيره . وقومٌ ضِعافٌ وضُعَفاءُ وضَعَفَةٌ . واسْتَضْعَفَهُ ، أي عدَّه ضَعيفاً .
الضعيف اصطلاحا([2]) : كل حديث لم تجتمع فيه صفات القبول .
وصفات القبول التي تشترط للحديث الصحيح والحسن ، قد سبق ذكرها ، وعليه تكون مسالك الحديث الضعيف هي :
- انقطاع السند (السقط من السند) .
- عدم عدالة الرواة أو بعضهم أو أحدهم .
- عدم ضبط الرواة أو بعضهم أو أحدهم .
- اشتماله على الشذوذ سواء كان في متنه أو سنده أو فيهما .
- اشتماله على علة قادحة سواء كانت في متنه أو سنده أو فيهما .
- عدم مجيئه من وجه آخر إذا كان قابلا للانجبار .
* المسلك الأول : انقطاع السند (السقط من السند) :
السند والإسناد : هو سلسلة الرجال الذين يذكرهم راوي الحديث ابتداء بشيخه وانتهاءً بمن يسند إليه الخبر .
وقيل : الإسناد : هو رفع الحديث إلى قائله .
والسقط من السند : وسقط الرواة من السند إما أن يكون ظاهراً أو خفياً ، وإما أن يكون في أول السند أو في وسطه أو في آخره ، وإليك التفصيل :
القسم الأول : السقط الظاهر :
وهو سقط في رجال الإسناد ظاهر لا يخفى على من اشتغل بهذا العلم ، يشترك في معرفته كل المشتغلين بهذا العلم سواء كانوا من الحذاق أو ممن لهم معرفة واشتغال بهذا الفن([3]) .
وهذا القسم تندرج تحته أنواع :
النوع الأول : المعلق :
المسألة الأولى : تعريفه :
التعليق لغة([4]) : اسم مفعول من التَّعْلِيق ، عَلَّقَ الشيءَ بالشيءِ ومِنْهُ وعَلَيْهِ ، بمعنى أَنَاطَهُ بِهِ ، وعَلِقَ بالشيءِ عَلَقاً وعَلِقَهُ نَشِب فيه ، عَلِق الصيدُ في حِبَالته أَي نَشِب . والتَّعْلِيقُ جَعْلُ الشَّيءِ مُعَلَّقاً ليس له ما يَعْتَمِدُ عليه ، مأخوذٌ من تَعْلِيقِ الجِّدَارِ أو الطَّلاقِ .
والتعليق في الاصطلاح([5]) : ما حذف أو سقط من أول إسناده راوي أو أكثر على التوالي ، ولو إلى آخر الإسناد .
المسألة الثانية : صور المعلق وأمثلته([6]) :
الصورة الأولى : أن يحذف جميع السند ويضيفه إلى النبي ﷺ .
مثاله :
قول الإمام البخاري([7]) : وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ )) .
الصورة الثانية : أن يحذف جميع السند مع عدم إضافته إلى قائل .
مثاله :
قول الإمام البخاري([8]) : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ ، فَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْيُ حَتَّى يَرْفَعَ ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ )) .
وقول الإمام البخاري([9]) : وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلَاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ وَكَانَتْ فَقِيهَةً.
فالإمام البخاري لم يبين من الذي روى الحديث عن النبي ﷺ ، ولم يبين من الذي حكى فعل أم الدرداء –رضي الله عنها- .
الصورة الثالثة : أن يحذف جميع السند إلا الصحابي .
مثاله :
قول الإمام البخاري([10]) : وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : ((حَسَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ فَخِذِهِ )) .
قول الإمام البخاري([11]) : وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ : ((فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ )) .
الصورة الرابعة : أن يحذف جميع السند إلا الصحابي والتابعي أو يحذف جميع السند إلا الصحابي والتابعي وتابع التابعي .
مثاله : قول الإمام البخاري([12]) : وَقَالَ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : ((لاَ يَبْزُقْ فِي الْقِبْلَةِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ )) .
الصورة الخامسة : أن يحذف من حدثه ويضيفه إلى من فوقه :
وهذه الصورة من المعلق قد تكون تعليقاً ، وقد تكون تدليساً :
أولا : تكون تعليقاً إذا علم أن الراوي المُعَلِق غير مدلس ، وأنه لم يدرك الشيخ الذي علق عنه ، أو أنه أدركه لكنه لم يرو هذا الحديث عنه وإنما يرويه عنه بواسطة :
مثاله : قول الإمام البخاري([13]) : وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ )) .
قال الحافظ ابن حجر([14]) : (قوله : وقال عفان هو بن مسلم الصفار ، وهو من شيوخ البخاري لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة ، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر) .
مثال آخر : قول الإمام البخاري([15]) : وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ : (( إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ )) .
قال هذا بعد أن قال : حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ )) . تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ . وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ : إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ .
قال الحافظ ابن حجر([16]) : (قوله : وقال غندر هذا التعليق وصله البزار في مسنده عن محمد بن بشار بندار عن غندر بلفظه ، ورواه أحمد بن حنبل عن غندر بلفظ إذا دخل) .
ثانياً : يكون تدليساً ، إذا كان الذي حذف شيخه ثم حدث به عن شيخ شيخه مدلساً ، فإن هذا صورته صورة تعليق لكنه في الحقيقة تدليس ، وسيأتي تفصيله في الحديث المدلس بالتفصيل إن شاء الله تعالى .
تنبيه :
ليس من التعليق أن يحدث المحدث عن شيخه حديثاً بصيغة (قال) ، بل هي كقوله (عن) ويشترط للحكم باتصاله شرطان :
الشرط الأول : لقاء الراوي لمن روى عنه .
الشرط الثاني : أن لا يكون مدلساً .
وسيأتي تفصيل الحديث المعنن بالتفصيل إن شاء الله تعالى .
المسألة الثالثة : سبب تعليق الحديث([17]) :
يعلق الحديث للأسباب الآتية :
الأول : عدم ثبوت الحديث عند المُعَلِق .
الثاني : أن الحديث الذي علقه ليس على شرطه الذي اشترطه لكتابه فلهذا علقه ، وإن كان هو ثابتاً ، كالأحاديث التي يعلقاها الإمام البخاري وهي صحيحة لكنها ليست على شرطه .
الثالث : أن يفعل ذلك لأجل الاختصار ، سواء كان الحديث عنده ثابتا أو غير ثابت .
الرابع : أن يتصرف في المتن ، فتحرياً للصدق يعلقه .
المسألة الرابعة : حكم المعلق :
الحديث المعلق ضعيف ، لأنه فقد شرطاً من شروط الصحة ، وهو اتصال السند ، فالمحذوف من السند غير معلوم حاله عندنا .
المسألة الخامسة : صيغ المعلقات عند الإمام البخاري([18]) :
اعلم –رحمك الله تعالى- أن ما علقه الإمام البخاري في جامعه الصحيح على صيغتين :
الصيغة الأولى : ما أورده بصيغة الجزم ، كقوله : قال فلان ، فله صور :
الصورة الأولى : معلق ، ويذكره في صحيحه متصلا .
مثاله : قول الإمام البخاري([19]) : وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ )) .
قال الإمام البخاري([20]) : حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) .
الصورة الثانية : معلق صحيح يلتحق بشرطه ، ولم يذكره في صحيحه متصلا أو مصرحا بسماعه من شيخه .
مثاله : قول الإمام البخاري([21]) : وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : (( وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِ آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، وَقُلْتُ : وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ … )) .
قال الحافظ ابن حجر([22]) : (هَذَا الحَدِيث قد ذكره فِي مَوَاضِع فِي كِتَابه مطولا ومختصرا وَلم يُصَرح فِي مَوضِع مِنْهَا بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من عُثْمَان بن الْهَيْثَم … ) .
ثم ذكر من وصله .
وقال -رحمه الله تعالى-([23]) : (ما يلتحق بشرطه ومنه ما لا يلتحق أما ما يلتحق فالسبب في كونه لم يوصل إسناده … لكونه لم يحصل عنده مسموعا أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه أو سمعه من شيخه مذاكرة فما رأى أنه يسوقه مساق الأصل ، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه فمن ذلك أنه قال في ((كتاب الوكالة)) : قال عثمان بن الهيثم حدثنا عوف حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : ((وكلني رسول الله ﷺ بزكاة رمضان )) الحديث بطوله ، وأورده في مواضع أخرى منها في فضائل القرآن ، وفي ذكر إبليس ، ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان فالظاهر أنه لم يسمعه منه ) .
الصورة الثالثة : معلق صحيح ، لكنه صحيح على غير شرطه .
مثاله : قول الإمام البخاري([24]) : وَقَالَتْ عَائِشَةُ : ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ)) .
قال الإمام مسلم([25]) : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالاَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ الْبَهِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : (( كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ )) .
الصورة الرابعة : معلق حسن ، لم يبلغ الصحيح .
مثاله : قول الإمام البخاري([26]) : وَقَالَ بَهْزٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : (( اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ )) .
قال الحافظ ابن حجر([27]) : (وأما ما لا يلتحق بشرطه فقد يكون صحيحا على شرط غيره وقد يكون حسنا صالحا للحجة … ومثال ما هو حسن صالح للحجة قوله فيه : وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)) وهو حديث حسن مشهور عن بهز أخرجه أصحاب السنن كما سيأتي) .
وسبب تحسين الحديث أن والد بهز وهو حكيم بن معاوية لا يرتقي حديثه إلى درجة الصحة ، قال عنه الحافظ ابن حجر([28]) : ( صدوق) .
الصورة الخامسة : معلق صحيح إلى من علق عنه ، لا إلى ما بعده فإن ما بعده منقطع فيبحث فيه .
مثاله : قول الإمام البخاري([29]) : وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ مُعَاذٌ – رضي الله عنه – لأَهْلِ الْيَمَنِ : ((ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ([30]) فِي الصَّدَقَةِ ، مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ ، وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ )) .
قال الحافظ ابن حجر([31]) : (قوله : وقال طاوس قال معاذ لأهل اليمن . هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاوس لكن طاوس لم يسمع من معاذ ، فهو منقطع ، فلا يغتر بقول من قال : ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه ، وأما باقي الإسناد فلا إلا أن إيراده له في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده ، وكأنه عضده عنده الأحاديث التي ذكرها في الباب ) .
الصيغة الثانية : ما أورده بصيغة غير الجزم ، (صيغة التمريض) كقوله : يُروى ، ويُذكر، ويُقال ، فله صور :
الصورة الأولى : معلق صحيح على شرطه لكنه رواه بالمعنى أو اختصره .
مثاله : قول الإمام البخاري([32]) : باب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ . وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
قال الحافظ ابن حجر([33]) : (ويذكر عن ابن عباس عن النبي ﷺ . هكذا ذكره بصيغة التمريض ، وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة الكتاب عقب هذا الباب ، وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر الخبر بالمعنى ، ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي ﷺ بالرقية بفاتحة الكتاب ، وإنما فيه تقريره على ذلك ، فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية) .
مثال آخر : قول الإمام البخاري([34]) : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : ((كُنَّا نَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ فَأَعْتَمَ بِهَا )) .
قال الحافظ ابن حجر([35]) : (قوله : ويذكر عن أبي موسى . سيأتي موصولا عند المصنف مطولا بعد باب واحد ، وكأنه لم يجزم به لأنه اختصر لفظه ، نبه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل ، وأجاب به من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين ، وحاصل الجواب : أن صيغة الجزم تدل على القوة ، وصيغة التمريض لا تدل ، ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحته إلى التمريض بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف ، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى ، وكذا الاقتصار على بعضه لوجود الاختلاف في جوازه ، وأن كان المصنف يرى الجواز) .
قال الحافظ ابن حجر([36]) : (قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ -رحمه الله- وهي إن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا لما علم من الخلاف في ذلك ) .
الصورة الثانية : معلق صحيح ، لكنه صحيح على غير شرطه .
مثاله : قول الإمام البخاري([37]) : وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : ((ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ)) .
قال الإمام مسلم([38]) : حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ : (( تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ )) .
قال الحافظ ابن حجر([39]) : (هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري … أخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية أبي نضرة عنه ، قيل : وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن أبا نضرة ليس على شرطه لضعف فيه ، وهذا عندي ليس بصواب لأنه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به بل قد يكون صالحا للاحتجاج به عنده وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحة ) .
الصورة الثالثة : معلق بصيغة التمريض ، لاختلاف في سنده ومتنه أو أحدهما ، وقد يكون صحيحاً وقد لا يكون كذلك .
مثاله : قول الإمام البخاري([40]) : وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ : (( قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنُونَ فِي الصُّبْحِ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى ، أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ )) .
قال الإمام مسلم([41]) : وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ح قَالَ : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ – وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ – حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْعَابِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : ((صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ ﷺ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى – مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ يَشُكُّ أَوِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ – أَخَذَتِ النَّبِيَّ ﷺ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ حَاضِرٌ ذَلِكَ )). وَفِى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَحَذَفَ فَرَكَعَ. وَفِى حَدِيثِهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو . وَلَمْ يَقُلِ ابْنِ الْعَاصِ .
قال الحافظ ابن حجر([42]) : (قوله : ويذكر عن عبد الله بن السائب … وحديثه هذا وصله مسلم من طريق بن جريج قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي كلهم عن عبد الله بن السائب قال صلى لنا النبي ﷺ الصبح بمكة فاستفتح بسورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى شك محمد بن عباد أخذت النبي ﷺ سعلة فركع ، وفي رواية بحذف فركع ، وقوله ابن عمرو بن العاص وهم من بعض أصحاب بن جريج ، وقد رويناه في مصنف عبد الرزاق عنه فقال عبد الله بن عمرو القارئ وهو الصواب ، واختلف في إسناده على ابن جريج ، فقال بن عيينة عنه عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن السائب أخرجه بن ماجه ، وقال أبو عاصم عنه عن محمد بن عباد عن أبي سلمة بن سفيان أو سفيان بن أبي سلمة وكأن البخاري علقه بصيغة ويذكر لهذا الاختلاف مع أن إسناده مما تقوم به الحجة ) .
الصورة الرابعة : معلق حسن ، لم يبلغ الصحيح .
مثاله : قول الإمام البخاري([43]) : وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ – رضي الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ : (( إِذَا بِعْتَ فَكِلْ ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ )) .
قال الحافظ ابن حجر([44]) : (صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح … ومنه ما هو حسن… ومثال الثاني وهو الحسن قوله في البيوع : ويذكر عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال له : ((إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل )) وهذا الحديث قد رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن المغيرة ، وهو صدوق عن منقذ مولى عثمان وقد وثق عن عثمان به ، وتابعه عليه سعيد بن المسيب ومن طريقه أخرجه أحمد في المسند إلا أن في إسناده ابن لهيعة ، ورواه بن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان وفيه انقطاع ، فالحديث حسن لما عضده من ذلك) .
الصورة الخامسة : معلق ضعيف إلا أنه يوجد ما يقويه ، وقد يكون لا يصح مرفوعاً لكنه صح موقوفاً .
مثاله : قول الإمام البخاري([45]) : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ((جَعَلَ اللهُ الطَّلاَقَ بَعْدَ النِّكَاحِ)) وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَشُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ .
أراد بذكر التابعين تقوية ما جاء عن ابن عباس –رضي الله عنهما- ، وقد ذكر أسانيد هذه الآثار الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (4/439) .
الصورة السادسة : معلق ضعيف لم يصح .
مثاله : قول الإمام البخاري([46]) : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لاَ يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِي مَكَانِهِ . وَلَمْ يَصِحَّ .
قال الحافظ ابن حجر([47]) : (قوله ولم يصح هو كلام البخاري وذلك لضعف إسناده واضطرابه تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف واختلف عليه فيه وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في تاريخه وقال لم يثبت هذا الحديث) .
([1])ينظر : الصحاح (1/410) ، والمحكم (1/411) ، والمخصص (1/198) ، والمصباح المنير (5/338) ، وتهذيب اللغة (1/151) ، ولسان العرب (9/203) ، ومعجم مقاييس اللغة (3/362) .
([2])ينظر : علوم الحديث ص (37) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (117) ، والباعث الحثيث (1/142) ، والتقريب للنووي ص (105) ، وتدريب الراوي (1/195) ، النكت على كتاب ابن الصلاح (1/491) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (115) ، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث 1/171) .
([3])ينظر : شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (414) .
([4])ينظر : القاموس المحيط ص (1175) ، ومختار الصحاح ص (450) ، والمحكم (1/208) ، وتهذيب اللغة (1/242) ، ولسان العرب (9/356) ، الصحاح (4/1529) ، تاج العروس (7/19) ، والمنهل الروي ص(55) ، وهداية المغيث ص (127) .
([5])ينظر : إسبال المطر على قصب السكر ص (255) ، التقيد والإيضاح ص (32) ، والمنهل الروي ص (55) ، والتقريب للنووي ص (11) ، علوم الحديث لابن الصلاح ص (20) ، وشرح شرح النخبة لملا علي القاري ص (106) ، وتدريب الراوي ص(117) ، وتوضيح الأفكار ص (137) ، ونخبة الفكر ص (229) ، ونزهة النظر ص (98) .
([6])ينظر : نزهة النظر ص (98) .
([17])ينظر : هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر (1/17) ، وتغليق التعليق (2/8) .
([18])ينظر : هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .
([19])صحيح البخاري (7/176) ، باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا .
([20])صحيح البخاري (1/76) رقم الحديث (38) ، باب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الإِيمَانِ .
([21])صحيح البخاري (8/368) ، باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلاً ، فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا ، فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ .
([23])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .
([24])صحيح البخاري (3/72) ، باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ، وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ .
([25])صحيح مسلم في الحيض/باب ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِهَا رقم الحديث (852) .
([26])صحيح البخاري (1/486) ، باب مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ ، وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ .
([27])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/18) .
([28])تقريب التهذيب (1/177) ، رقم (1478) .
([29])صحيح البخاري (5/431) ، باب الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ .
([30])قال الحافظ في الفتح (3/213) : (وقوله : خميص ، قال الداودي والجوهري وغيرهما : ثوب خميس بسين مهملة هو ثوب طوله خمسة أذرع . وقيل : سمي بذلك لأن أول من عمله الخميس ملك من ملوك اليمن ، وقال عياض : ذكره البخاري بالصاد وأما أبو عبيدة فذكره بالسين ، قال أبو عبيدة : كأن معاذا عنى الصفيق من الثياب ، وقال عياض : قد يكون المراد ثوب خميص أي خميصة لكن ذكره على إرادة الثوب ، وقوله : لبيس أي ملبوس ، فعيل بمعنى مفعول ) .
([31])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .
([34])صحيح البخاري (2/457) ، باب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا .
([38])صحيح مسلم في الصلاة/باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَإِقَامَتِهَا رقم الحديث (1010) .
([40])صحيح البخاري (3/304) ، باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ .
([41])صحيح مسلم في الصلاة/ باب الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ رقم الحديث (1050) .
([43])صحيح البخاري (8/55) ، باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي .
([44])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/18) .
([45])صحيح البخاري (17/427) ، باب لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ .
([46])صحيح البخاري (3/430) ، باب مُكْثِ الإِمَامِ فِي مُصَلاَّهُ بَعْدَ السَّلاَمِ .