السائل: االسلام عليكم و رحمة الله و بركاته
في هذه السنة يأتي يوم عرفة سبتاً
و قد قال الرسول صلى الله عليه و سلم
{{لا تصوموا يوم السبت الا فيما افترض عليكم}}
فما الحل
و هل النهي هنا تحريمٌ أم أنه كره
أم أن هذا الحديث ضعيفٌ فأنا لم أجد مصدره
جزاك الله خيرا
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في صيام يوم السبت على مذاهب : المذهب الأول : كراهة إفراد يوم السبت بالصوم ، وهو مذهب الحنفية ، والمالكية، والشافعية ، والحنابلة في المذهب . وصرح الحنفية ، والحنابلة ، والشافعية بأن صوم يوم السبت لا يكره إن وافق يوماً كان يصومه قبل ذلك . وزاد الحنفية أنه يكره تحريما إفراد يوم السبت بالصوم إذا قصد الصائم بصومه التشبه باليهود . ورجحه الطيبي . المذهب الثاني : جواز صيام يوم السبت مفرداً من غير كراهة ، وهو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ونقله عن أكثر أهل العلم . المذهب الثالث : مذهب بعض العلماء المعاصرين أنه يحرم صوم يوم السبت مطلقاً إلا في الفرض ، ولم أرَ هذا المذهب لأحد من المتقدمين بعد بحث طويل . والله أعلم . والراجح المذهب الأول أنه يكره صيام يوم السبت مفرداً إلا في الفرض ، وكذا يحرم إفراد يوم السبت بالصوم إذا قصد الصائم بصومه التشبه باليهود ، ويجوز صيام السبت إذا صام قبله أو بعده ، ويجوز إفراده في الفرض ، وفي صوم يوم فيه فضيلة كعرفة لأن إفراده هنا ليس لذات السبت بل لاستحباب هذا اليوم الذي وقع في يوم السبت ، وذلك لأمرين : الأمر الأول : أن التخصيص عند علماء أصول الفقه على قسمين : القسم الأول : تخصيص متصل : وهو ما لا يستقل بنفسه بل هو متصل بالعام مذكور معه . القسم الثاني : تخصيص منفصل : وهو ما يستقل بنفسه بأن يكون العام في نص والمُخَصِّص في نص آخر . الأمر الثاني : أن المقرر عند علماء أصول الفقه أنه لا يصار إلى الترجيح أو النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الأدلة ، فالجمع هو الأصل . والجمع بين الأدلة : هو الائتلاف بين الأدلة الشرعية وتوافقها ، وبيان أن الاختلاف بينها غير موجود حقيقة . وهناك شروط ذكرها العلماء للجمع بين الأدلة فليس كلّ جمع يكون صحيحا . والترجيح : هو تقديم المجتهد لأحد الدليلين المتعارضين ، لما فيه من مزية معتبرة تجعل العمل به أولى من الآخر . إذا تصورنا هذا فلنشرع في صيام السبت وأدلته ، بعد أن ذكرت أن الراجح هو مذهب الجمهور ، وذلك للأدلة الآتية : الدليل الأول : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ((لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ))رواه الترمذي رقم الحديث (675) ، وابن ماجه رقم الحديث (1716) ، وابن خزيمة في صحيحه رقم الحديث (2163) ، وابن حبان في صحيحه رقم الحديث (3615) ، وغيرهم . اختلف العلماء في صحة هذا الحديث والراجح أنه ثابت صحيح . وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام السبت ، واستثنى الفرض فقط ، وهذا الاستثناء تخصيص متصل ، فأفاد الحديث بمنطوقه المنع من صيام السبت إلا في الفرض كصوم رمضان والقضاء والكفارة ونحوها . وقال البغوي( ) : (باب كراهية صوم يوم السبت وحده) .
وقال ابن خزيمة(صحيح ابن خزيمة (3/316) ) : (باب النهي عن صوم يوم السبت تطوعا إذا أفرد بالصوم ، بذكر خبر مجمل غير مفسر بلفظ عام مراده خاص ، وأحسب أن النهي عن صيامه إذ اليهود تعظمه وقد اتخذته عيدا بدل الجمعة) . وقال( صحيح ابن خزيمة (3/317) ) : (باب ذكر الدليل على أن النهي عن صوم يوم السبت تطوعا إذا أفرد بصوم لا إذا صام صائم يوما قبله أو يوما بعده ) . قال ابن حبان( صحيح ابن حبان (8/381)) : (ذكر العلة التي من أجلها نهى عن صيام يوم السبت مع البيان بأنه إذا قرن بيوم آخر جاز صومه) . الدليل الثاني : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله وسلم يَقُولُ : ((لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إِلاَّ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ))( رواه البخاري رقم الحديث (1884) ، ومسلم رقم (2739)) . وجه الاستدلال : أن الحديث نهى عن صيام يوم الجمعة إلا أن يصوم الإنسان يوماً قبل أو يوماً بعده ، واليوم الذي بعد الجمعة هو يوم السبت قطعا ، وهذا منطوق الحديث ، فدل على جواز صيام يوم السبت إذا اقترن معه غيره ، وهذا تخصيص منفصل للحديث الأول ، فيكون معنى الحديث لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وهو تخصيص متصل ، أو يوماً قبله وهو تخصيص منفصل ، فدل هذا على أن النهي عن صيام السبت إنما هو لإفراده ، ولأن في إفراده تشبها باليهود الذين يعظمون هذا اليوم ، فلو صام المسلم في هذا اليوم لأجل السبت فإنه عظّمه فحصلت المشابهة باليهود ، فلهذا لا يصام يوم السبت إلا في الفرض ، أو بمخالفتهم بصيام يوم قبله أو يوم بعده . وبهذا تجتمع الأدلة ، وأما من خصص جواز صيامه بالفرض فقط فإنه لم يجمع بين الأدلة بل صار إلى الترجيح ، وسبق أنه لا يصار إلى الترجيح إلا عند تعذر الجمع ، والجمع هنا ممكن كما بينت لك . الدليل الثالث : عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها : ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهْىَ صَائِمَةٌ ، فَقَالَ : أَصُمْتِ أَمْسِ ؟ قَالَتْ : لاَ . قَالَ : تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا ؟ قَالَتْ : لاَ . قَالَ : فَأَفْطِرِي ))(رواه البخاري رقم الحديث (1885) ) . وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجويرية –رضي الله عنها- وهي صائمة يوم الجمعة : (( تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا ؟)) وهو يوم السبت ، فدل هذا على جواز صيامه مع غيره ، والاستدلال به أيضاً كسابقه . الدليل الرابع: عن خيثمة قال : (( كانت عائشة تصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ، ومن الشهر الآخر : الثلاثاء والأربعاء والخميس ))( رواه الطبري في تهذيب الآثار (3/245) رقم (984) . بسند صحيح ) . وجه الاستدلال : أن عائشة –رضي الله عنها- كانت تصوم السبت مع غيره ، كما بينت أم سلمة –رضي الله عنها- صيام النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق . وهذا الفعل من عائشة -رضي الله عنها- وهي الفقيهة المتابعة لحال النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات ، وما كانت لتصوم يوم السبت مع غيره إلا لعلمها بجواز ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعرف لها مخالف من الصحابة ، فهو حجة مؤيد للمرفوع السابق عن أم سلمة –رضي الله عنها- ، وعليه لا بدّ من حمل النهي عن صيام السبت على الإفراد . الدليل الخامس : عن أبي عامر قال: ((سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئِل عن صيام يوم السَّبْتِ؟ فقال : سلوا عبد الله بن بُسْر؟ فسُئِلَ عن ذلك؟ فقال : صيامُ يوم السَّبْتِ لا لكَ ولا عليك))(أَخْرَجَه النسائي في الكبرى (2/145) . بإسناد حسن ) . وجه الاستدلال : أن عبد الله بن بسر –رضي الله عنه- وهو راوي حديث النهي عن صيام السبت لم يكن يرى تحريم صيام السبت في النفل لأنه قال للسائل : ((صيامُ يوم السَّبْتِ لا لكَ )) أي ليس لك فيه أجر ، ((ولا عليك)) أي ليس عليك وزر في صيامه . وهذا هو المكروه ، فأفاد هذا أن صيام يوم السبت مكروه إفراده ، فوافق قولُه روايةَ عائشة وأم سلمة –رضي الله عنهم- ولا يعرف لهم مخالف . قال المناوي(فيض القدير (4/303) ) : ((صيام يوم السبت لا لك ولا عليك) أي لا لك فيه مزيد ثواب ولا عليك فيه ملام ولا عتاب ) . الدليل الثامن : النصوص العامة الواردة في صيام النفل ، ويدخل فيها يوم السبت قطعا ، منها : عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو –رضي الله عنهما- قَالَ : قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : (( فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا ، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهْوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ . فَقُلْتُ : إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ))(رواه البخاري رقم الحديث (1875) ، ومسلم رقم الحديث (2786) ) . فالسبت داخل في صيام داود قطعاً ولم ينبه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- بأن السبت منهي عنه ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . فدل هذا على أن النهي عن السبت بقصده لذاته أو إفراده . وغيرها من الأدلة الكثية الدالة على جواز صيام السبت . فإن قيل : إن صيام هذه الأيام كصيام داود وصيام ثلاثة أيام من كل شهر قد يقع في يوم العيد المحرم صيامه ، ولم ينبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنتم ترون عدم صيام العيد ونحن معكم في ذلك ، فكذلك نقول في السبت . جوابه : أن هذا الاعتراض على هذا الاستدلال مردود من وجوه : الوجه الأول : أن صيام داود وغيره من الأيام المستحبة سيأتي فيها السبت غالباً ، أما العيد فهو نادر جداً جداً ، والنادر لا حكم له ، فلهذا لم ُينبه عليه في أحاديث صيام الأيام المستحبة بخلاف العيد . الوجه الثاني : صيام العيد محرم بالاتفاق ، يعلمه الصحابة ، فلا يحتاج إلى التنبيه عليه ، فهم يعلمون أن صيام الأيام المستحبة لا تشمل صيام العيد ، بخلاف صيام يوم السبت فلم يقل أحد من المتقدمين بتحريم صيامه إلا في الفرض فقط ، ولهذا وجب أن ينبه عليه في أحاديث صيام الأيام المستحبة ، لأن المنع من صيامه غير معلوم عند من يستمع إلى أحاديث صيام الأيام المستحبة . الوجه الثالث : أن هذا الاعتراض هو في الحقيقة قياس السبت على العيد ، وهذا قياس مع الفارق ، لأن العيد صيامه محرم بالاتفاق ، والسبت لم يقل أحد من المتقدمين بتحريمه . يؤيده : الوجه الرابع : أن صيام العيد لا يجوز مطلقاً لا في فرض ولا نفل ، وليس السبت كذلك ، فلا يصح أن يلحق السبت بالعيد . ومما يقوي القول بجواز صيام السبت وكرهة إفراده بالصيام أنه لم يثبت عن أحد من العلماء المتقدمين القول بتحريم صيام يوم السبت إلا في الفرض فقط ، وهذا مما يضعف هذا القول لأنه إذا اختلف أهل عصر في مسألة على قولين فقد ذهب جمهور الأصوليين على أنه لا يجوز إحداث قول ثالث لأن إحداث قول ثالث يلزم منه رفع القولين السابقين المجمع عليهما ، وأيضاً معناه أن أهل العصر السابق قد اجتمعوا على الخطأ وضاع عنهم الحق ، وذلك محال لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه فلا يضيع حكمه في مسألة في عصر من العصور ، ولا يصح خلو عصر من قائل بالصواب في المسألة ، وعليه فإن العلماء اختلفوا في مسألتنا على الأقوال والمذاهب التي بينتها لك في بداية البحث فينبني على ذلك أن القائل بالتحريم من المتأخرين قد خالف إجماع من سبقوه ، وهذا لا يجوز كما هو مقرر في علم أصول الفقه . وأيضاً السلف من الصحابة –رضي الله عنهم- ومن بعدهم لم ينقل عن أحد منهم –فيما أعلم- أنه يحرم صيام السبت إلا في الفرض فقط ، فهذا الفهم لم يقل به أحد من السلف وهم قدوتنا في فهم النصوص ، فيجب اتباعهم ، ولا يصح القول بأن الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/35) أشار إلى من قال بهذا القول! فهذا قول ضعيف مردود لمن تمعن في كلام الطحاوي ، وسبق لك بيان مذهب الحنفية بالتفصيل ، وأيضاً الطحاوي نقل الكراهة ولم ينقل التحريم ، قال –رحمه الله تعالى- : (فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ ، فَكَرِهُوا صَوْمَ يَوْمِ السَّبْتِ تَطَوُّعًا ) ، والطحاوي –رحمه الله تعالى- يتكلم عن العلماء الذين كرهوا صيام يوم السبت تطوعاً ، يعني لذات السبت كما سبق ، وأما إذا صام تطوعاً قبله أو بعده أو لم يصمه لذاته فإنه لا يكره ، فالطحاوي يتكلم عن هذا المذهب ، بدليل أن في تتمة كلامه وبحثه وترجيحه تعرض لهذين المذهبين ولم يتعرض مطلقاً إلى أنه لا يجوز صوم السبت إلا في الفرض ، فيبقى القول بتحريم صوم يوم السبت إلا في الفرض قولا لا سلف له . هذا والله أعلم . وقد أطلت البحث في كتابي جامع الأحكام في مسائل الصيام والاعتكاف وعيد الفطر والقيام. ينظر : المجموع (6/481) ، وشرح المحلي مع حاشية القليوبي (2/74) ، ومغني المحتاج (1/447) ، والإنصاف (3/313) ، والمغني (4/428) ، كشاف القناع (2/341) ، وحاشية ابن عابدين (2/84) ومغني المحتاج (1/447) والمغني (4/428) . حاشية ابن عابدين (2/84)، وعون المعبود (7/48) واقتضاء الصراط ص (262) ، وتمام المنة ص (406) وشرح معاني الآثار (3/35).