السائل: سلام عليكم شيخنا الا ترى أن العلماء اليوم يؤخرون البيان عن وقت الحاجة
الشيخ:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة مسألة قد بحثت في أصول الفقه ، فقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وقد حكى هذا الاتفاق كثير من العلماء ، منهم ابن السمعاني ، والباجي ، والغزالي ، والسمرقندي ، وابن قدامة ، وغيرهم .
واعلم أن تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز وواقع عند جمهور العلماء ، لأنه لا مانع عقلاً من ذلك ، و لا يترتب على هذا جواز محال ، والوقوع دليل الجواز ، ومن المواضع التي وقع فيها ذلك :
أولاً : قوله تعالى : ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [سورة القيامة الآية :18 و19] ، فإن معنى ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ أي أنزلناه لدلالة قوله : ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ ، لأن الله تعالى أمر نبيه ﷺ بالإتباع بفاء التعقيب ، ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به ، وعليه فإن قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ، يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال ، لأن (ثم) تفيد التراخي ، فدلت على تراخي البيان عن وقت الخطاب .
ثانياً : قوله تعالى : ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[سورة البقرة الآية :43] ، وقوله تعالى : ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة آل عمران الآية :97] ، ثم بين ذلك كلّه بالسنة بالتراخي والتدريج في أوقات الحاجة .
ثالثاً : عن سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ: «صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ - يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ - فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرَ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ، فَأَبْرَدَ بِهَا، فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا، وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا»، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟» فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ» رواه مسلم
قال الإمام النووي في شرح مسلم (5/114) : (وَفِيهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ ) .
وغيرها من الأدلة .
ولا أعلم ماذا تعني بقولك : إن العلماء اليوم يؤخرون البيان عن وقت الحاجة ، وما هو البيان الذي تم تأخيره من قبلهم والحاجة كانت قائمة وجميع العلماء لم يبينوا ، هذا غير متصور في علماء الأمة ، فمسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة مسألة الأصل فيها أنها مفروضة في الشرع في الكتاب والسنة بأنه لا يوجد فيها ما يدل على تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بل لا يجوز ذلك ، وهو محل اتفاق كما سبق ، والعالم الذي يسأل عن حكم مسألة ما وهو يعرف حكمها والسائل يحتاج إلى جوابها لأنه لا يستطيع العمل إلا ببيناها فالعالم مأمور ببيان الحق وعدم كتمانه ، إذا لم يكن هناك مفسدة أعظم في جوابه ، قال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/157) : ( وإن كان عالما بالحكم فللسائل حالتان إجداهما أن يكون قد حضره وقت العمل احتاج إلى السؤال فيجب على المفتى المبادرة على الفور إلى جوابه فلا يجوز له تأخير بيان الحكم له عن وقت الحاجة والحالة الثانية ان يكون قد سأل عن الحادثة قبل وقوعها فهذا لا يجب على المفتى أن يجيبه عنها وقد كان السلف الطيب إذا سئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل هل كانت أووقعت فإن قال لا لم يجبه وقال دعنا في عافية) .
وقد يسكت بعض العلماء عن بعض المسائل لمصلحة راجحة عنده أو دفع مفسدة أعظم وهذه المسألة فيها تفصيل طويل لأهل العلم ، وهذا السكوت منهم ليس تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة بل هو تأخير للبيان إلى وقت الحاجة .
والله أعلم