مباديء علم الحديث

علم مصطلح الحديث

إن كلّ علم يريد الإنسان أن يتعلمه عليه أن يعرف مبادئه العشرة المجموعة في قول الناظم:

إن مبادئ كل علم عشــــرة *** الحد والموضوع ثم الثــمرة

ونسبته وفضله والواضــــع*** الاسم الاستمداد حكم الشــارع

مسائل والبعض بالبعض اكتـفى*** ومن درى الجميع حاز الشـرفا

اعلم أن علم الحديث ينقسم إلى قسمين :

القسم الأول : علم الحديث دراية .

وسأتكلم عن مبادئه العشرة .

القسم الثاني : علم الحديث رواية .

وسأتكلم عن مبادئه العشرة .

القسم الأول : علم الحديث دراية :

فلنشرع في مبادئه العشرة :

المبدأ الأول : الحد : علم الحديث دراية :

علم الحديث دراية ، هو علم مصطلح الحديث ، وهو المقصود بالشرح والبحث ، فهو مركب من كلمتين مضاف ومضاف إليه ، فالمضاف المصطلح ، والمضاف إليه الحديث ، والمضاف وهو المصطلح يخدم المضاف إليه وهو الحديث .

تعريفه :

معرفة القواعد التي يُعرف بها حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد وما يتبع ذلك من كيفية التحمل والأداء والضبط .

شرح التعريف :

قولنا : (معرفة القواعد) المعرفة تشمل القطع والظن ، فمعرفة القواعد قد يكون يقينياً وقد يكون ظنيًّا .

وقولنا : (القواعد) جمع قاعدة ، والمراد بها هنا الطرق والأسس التي وضعها علماء الحديث لمعرفة  قبول الحديث أو رده .

وقولنا : (يُعرف بها حال الراوي والمروي) يعني يعرف بهذه القواعد التي وضعها علماء الحديث حال الراوي في السند ، وحال المروي وهو المتن .

وقولنا : (من حيث القبول والرد) يعني هذه القواعد التي وضعها علماء الحديث لمعرفة الإسناد والمتن من حيث قبول الراوي إذا كان عدلا ، ورده إن كان غير ذلك ، وقبول المروي إن كان صحيحاً أو حسناً ، ورده إن كان دون ذلك .

وقولنا :  (وما يتبع ذلك من كيفية التحمل) يتبع القبول والرد للراوي أو المروي من كيفية التحمل ، يعني تحمل الراوي للحديث ، وسن التحمل ، وروايته عن الشيخ بالقراءة عليه ، أو السماع منه ، والإجازة ونحو ذلك .

وقولنا : ( والأداء) أي كيفية أداء الحديث ، هل أداه من حفظه أو كتابه ، ونحو ذلك .

وقولنا : (والضبط) أي ضبط الراوي للمروي ، وهو على قسمين : ضبط صدر ، وضبط كتاب . كلّ ذلك سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .

المبدأ الثاني : موضوعه :

موضوعه الراوي والمروي ، أو قل : السند والمتن من حيث القبول والرد .

وكان موضوعه الراوي والمروي لأنه يبحث عن العوارض الذاتية للراوي والمروي ، مثل : الحديث الصحيح والحسن يستدل بهما ، والحديث الضعيف لا يستدل به ، الراوي الضعيف يضعّف به المروي ، ونحو ذلك .

المبدأ الثالث : ثمرته :

فائدة هذا العلم تميز الحديث الصحيح من الضعيف ، والمقبول من المردود ، فيعمل بالأول ويستدل به ، ولا يعمل بالثاني ، أو قل : فائدته حفظ سنة النبي ﷺ من أن يدخل فيها ما ليس منها ، فيعمل بما صح منها ويترك ما خالف ذلك .

المبدأ الرابع : نسبته :

نسبة علم الحديث إلى العلوم الأخرى ، والعلاقة بينهما تباين حيث إن هذا علم له أبواب مختلفة عن علم الأصول ، وعن علم الفقه ، والعلوم الشرعية الأخرى ، ومن حيث إن العالم لا يستغني عنه فهو جزء من العلوم الشرعية .

وهذا العلم يخدم حديث النبي ﷺ من حيث قبوله ورده ، فهو من علوم الوسائل .

المبدأ الخامس : فضله :

فضل هذا العلم عظيم لأن حفظ حديث سيد المرسلين ﷺ حفظ للدين ، فهو علم حري بالعناية ، وسلامة الأحكام المستنبطة متوقفة على ثبوت أدلتها من الأحاديث المرفوعة ، وأقوال الصحابة الموقوفة .

قال الحافظ ابن رجب([1]) : (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها ، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك ، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً ، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً ، وفي ذلك كفاية لمن عقل ، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل) .

وقال([2]) : ( ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحه من سقيمه ، وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل ، فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله ،  ويلتبس حقه بباطل ولا يثق بما عنده من ذلك ) .

وقال الخطيب البغدادي([3]) : (طاعة الله في طاعة رسوله ﷺ ، وطاعة رسوله ﷺ في إتباع سننه إذ هي النور البهي ، والأمر الجلي ، والحجة الواضحة ، والمحجة اللائحة ، من تمسك بها اهتدى ، ومن عدل عنها ضل وغوى ، ولما كان ثابت السنن والآثار وصحاح الأحاديث المنقولة والأخبار ملجأ المسلمين في الأحوال ، ومركز المؤمنين في الأعمال إذ لا قوام للإسلام إلا باستعمالها ، ولا ثبات للإيمان إلا بانتحالها ، وجب الاجتهاد في علم أصولها ، ولزم الحث على ما عاد بعمارة سبيلها) .

المبدأ السادس : واضع علم مصطلح الحديث :

أول من صنف في هذا العلم كفن مستقل ، هو القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاّد الرَامَهُرْمُزي المتوفى سنة 360 هـ  ، في كتاب أسماه (المحدّث الفاصل بين الراوي والواعي).

قال الكتاني([4]) : (كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للقاضي أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهُرْمُزي ، قال الذهبي : لم أظفر بتاريخ موته , وأظنهُ بقي إلى حدود الخمسين وثلاثمائة ، وذكر أبو القاسم بن منده في كتاب (الوفيات) له : أنه عاش إلى قرب الستين وثلاثمائة بمدينة (رام هُرْمُز) , وهو أول كتاب ألف في علوم الحديث في ما يغلب على الظن ، وإن كان يوجد قبله مصنفات مفردة في أشياء من فنونه لكن هو أجمع ما جمع من ذلك في زمانه، وإن كان لم يستوعب ، ثم كتاب (علوم الحديث) لأبي عبد الله الحاكم ، لكنه لم يهذب ولم يرتب ، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني ، فعمل على كتابه (مستخرجا) وأبقى أشياء للمتعقب ، ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي ، فصنف في قوانين الرواية وأصولها كتابا سماه ( الكفاية ) وفي آدابها كتابا سماه ( الجامع لآداب الشيخ والسامع ) وكل منهما غاية في بابه … ) .

المبدأ السابع : الاسم :

اسمه علم مصطلح الحديث ، أو علوم الحديث أو علم أصول الحديث ، أو علم الحديث دراية .

المبدأ الثامن : الاستمداد :

يستمد  هذا العلم من كلام المحدثين واصطلاحاتهم ، إما في كتب مستقلة ، أو أثناء كلامهم على الحديث ، أو في مقدمة الكتب ، أو أواخرها ، ونحو ذلك ، فهو مستمد من كلام الأئمة من أهل الحديث .

المبدأ التاسع : حكم تعلمه :

حكم تعلمه فرض كفاية ، لأنه لا يمكن أن يمحص كلام رسول الله ﷺ إلا بهذا العلم ، فتعلمه عبادة ، ففيه الفوز بالدارين إذا صلحت النية ، وحسن القصد .

المبدأ العاشر : مسائله :

المقصود بمسائله الجزئيات التي يتكون منها هذا العلم ، وهي أنواع الحديث ، وكل نوع تحته تفاصيل ، فمسائله تتعلق بالإسناد من حيث الاتصال والانقطاع والتدليس وما شابه ذلك ، وتتعلق بالمتن من حيث القلب والشذوذ وهكذا .

القسم الثاني : علم الحديث رواية .

فلنشرع في مبادئه العشرة :

المبدأ الأول : الحد : علم الحديث رواية :

تعريف علم الحديث رواية في الاصطلاح : معرفة ما ينقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة .

شرح التعريف :

قولنا : (معرفة) : المعرفة تشمل القطع والظن ، فمعرفة ما ينقل عن النبي ﷺ قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا .

وقولنا : (ما) : موصولة بمعنى الذي .

وقولنا : (ما ينقل عن النبي ﷺ) : خرج به ما نقل عن غيره من الصحابة والتابعين ومن دونهم .

وقولنا : (من) : بيانية .

وقولنا : (قول) : يشمل الأمر والنهي الصادرين عنه ﷺ .

مثال الأمر : عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ : ((أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَحِيمًا رَفِيقًا ، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ : ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ – وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا – وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ))([5]) .

مثال النهي : عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِي يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ ، وَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَمْ أَفْعَلْ هَذَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ  يَقُولُ : (( لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ ))([6]) .

وقولنا : (أو فعل) : يشمل شيئين :

الأول : فعل إيجاد : وهو ما حكي من فعل النبي ﷺ .

وهو على أربعة أحوال :

الأولى : أفعال جبلية ، مثل تناول الطعام والشراب ، وقضاء الحاجة ، والمشي ، والجلوس ، والنوم ، والتداوي من المرض ، ونحوها .

وأصل هذه الأشياء ضروري للإنسان من حيث هو إنسان ، لأنه سيصاب بالضرر لو امتنع منها بالكلية ، وعليه فهو يفعلها تحت ضغط الضرورة ، وبذلك يكون فعله لها خارجاً عن التكليف ، ولا قدوة بما لا تكليف فيه ، فيكون مباحاً .

واعلم أن الفعل الجبلي الاختياري مهما كان نوعه فإنه يدل على الإباحة فقط ، إلا إذا اقترن به قول أو قرينة تدل على أنه للاستحباب  أو الوجوب .

الثانية : أفعال على سبيل العادة ، ويقصد به ما فعله النبي ﷺ جرياً على عادة قومه ومألوفهم .

مثاله : أنه ﷺ لبس القميص والجبّة والعمامة ، وأطال شعره ، واستعمل القِرب الجلدية في حفظ الماء ، وكان يكتحل ، ويستعمل الطيب والعطور ، ونحوها .

وحكم هذه الأمور العادية كنظائرها من الأفعال الجبلية ، والأصل فيها جميعاً أنها تدل على الإباحة لا غير ، إلا أن يرد قول يأمر بها أو يرغب فيها ، فتكون حينئذٍ شرعية ، مثل لبس البياض من الثياب والكحل بالإثمد  ، أو يظهر ارتباطها بالشرع بقرينة غير قولية ، مثل توجيه الميت في القبر إلى القبلة ، فإن ارتباط ذلك بالشرع لا خفاء فيه ، حيث إن التوجه إلى القبلة متعلق بالشرع .

الثالثة : أفعال خاصة به ﷺ ، إذا قام الدليل على أن هذا الفعل خاص به ﷺ ، لأنّ الأصل في أفعال النبي ﷺ التي فعلها على سبيل القربة التأسي فيها به ﷺ وعدم الخصوصية ، مثال الأفعال الخاصة ﷺ نكاحه ﷺ بأكثر من أربع نسوة ، فقد دل الدليل على تحريم الزيادة على أربع في النكاح .

الرابعة : أفعال تشريعية بيانية ، وهي التي يقصد بها البيان والتشريع ، مثل ما جاء عنه ﷺ في الطهارة ، والصلاة ، والصيام ، والحج ، ونحو ذلك .

الأول : فعل ترك : وهو ما حكي من ترك النبي ﷺ للشيء .

وهو على نوعين باعتبار نقل الصحابة –رضي الله عنهم- له([7]) :

النوع الأول : التصريح بأن النبي ﷺ ترك كذا وكذا ولم يفعله ، كتصريح الصحابة بترك الأذان لصلاة العيدين ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- قَالَ : ((شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ … ))([8]) ، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- : ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ شَكَّ يَحْيَى ))([9]) .

النوع الثاني : عدم نقل الصحابة للفعل الذي لو فعله ﷺ لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله للأمة ، لأنه مما تدعوا الدواعي لنقله ، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة ولا حدث به في مجمع أبدًا عُلم أنه لم يكن ولم يقع .

مثل تركه ﷺ التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة ، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهو يؤمنون على دعائه ، بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات .

وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أن يترك النبي ﷺ الفعل لعدم وجود المقتضي له ، وذلك كتركه قتال مانعي الزكاة ، فهذا الترك لا يكون سنة ، بل إذا قام المقتضي ووجد كان فعل ما تركه ﷺ مشروعًا غير مخالف لسنته ، كقتال أبي بكر – رضي الله عنه – لمانعي الزكاة ، بل إن هذا العمل يكون من سنته لأنه عمل بمقتضى سنته ﷺ .

الثاني : أن يترك النبي ﷺ الفعل مع وجود المقتضي له بسبب قيام مانع ، كتركه ﷺ فيما بعد قيام رمضان جماعة بسبب خشيته أن يُكتب على أمته ؛ فهذا الترك لا يكون سنة ، بل إذا زال المانع بموته ﷺ كان فعل ما تركه ﷺ مشروعًا غير مخالف لسنته كما فعل عمر – رضي الله عنه – في جمعه للناس على إمام واحد في صلاة التراويح ، بل إن هذا العمل من سنته ﷺ لأنه عمل بمقتضاها .

الثالث : أن يترك النبي ﷺ الفعل مع وجود المقتضي له وانتفاء الموانع فيكون تركه ﷺ والحالة كذلك سنة ، كتركه ﷺ الأذان لصلاة العيدين ، والدعاء الجماعي بعد الصلوات الخمس .

وهذا القسم من سنته ﷺ وهو السنة التركية أصل عظيم وقاعدة جليلة ، به تحفظ أحكام الشريعة ويوصد به باب الابتداع في الدين .

وقولنا : (أو تقرير) : هو كفّ النبي ﷺ عن إنكار قول أو فعل لمسلم قاله أو فعله بين يديه -أعني بين يدي النبي ﷺ- أو وقع في عصره وعلم به ﷺ فسكت عنه .

مثاله ما ثبت عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ : (( أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ ))([10]) ، و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- قَالَ : (( كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ ))([11]) .

وقولنا : (أو صفة) :  يشمل الصفة الخَلْقية –بفتح الخاء- مثل ما ثبت عن كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ –رضي الله عنه- يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ قَالَ : (( فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ ))([12]) .

ويشمل صفته الخُلقية –بضم الخاء- مثل ما ثبت عن ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قال : ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))([13]) .

المبدأ الثاني : موضوع علم الحديث رواية :

موضوع علم الحديث رواية هو النبي ﷺ من حيث أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وصفاته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها .

فهو علم يشتمل على ضبط الحديث ونقله وروايته وتحرير ألفاظه ، ومن كتب هذا النوع الصحيحان ، والسنن الأربعة ، وكذلك المسانيد ، والمعاجم ، والأجزاء الحديثية .

المبدأ الثالث : ثمرته :

فائدة هذا العلم معرفة وضبط حديث النبي ﷺ ، وتحرير ألفاظه ، وبيان كيفية الاقتداء به ﷺ ، ومعرفة أفعاله وأحواله للاقتداء به والفوز بالنجاة والسعادة في الدارين ، قال تعالى : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله  كَثِيرًا    ﴾ الأحزاب: ٢١.

المبدأ الرابع : نسبته :

نسبة علم الحديث رواية إلى العلوم الأخرى نسبة تكامل وتوافق ، فهو علم تستنبط منه الأحكام كالقرآن ، وهو مبين لإجماله ، وإن جزءاً كبيراً من الفقه إنما هو ثمرة للحديث ؛ و من هنا كان علم الحديث رواية من أشرف العلوم و أجلها ، بل هو أجلها على الإطلاق بعد العلم بالقرآن الكريم الذي هو أصل الدين ومنبع الطريق المستقيم ، فالحديث مصدر من مصادر التشريع الإسلامي كالقرآن ، بعضه يستقل بالتشريع ، وبعضه الآخر شارح لكتاب الله تعالى مبين لما جاء فيه ، قال تعالى : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ سورة النحل: ٤٤ ، فهو دليل من أدلة الشرع ، جميع العلوم الشرعية بحاجة إليه غير منفكة عنه .

المبدأ الخامس : فضله :

فضله عظيم وشأنه جليل ، فهو العلم الذي يتلقى منه الشرع وتبنى عليه الأحكام كالقرآن ، فالسنة وحي من الله تعالى قال تعالى : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ سورة النجم: ٣ – ٤ ، ولهذا ألزم الله تعالى باتباعها والأخذ بها ، قال تعالى : ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا ﴾ سورة الأحزاب: ٣٦ ، وقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ سورة النساء: ٥٩ ، وقال تعالى : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾  سورة النور: ٦٣، وقال تعالى : ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة الحشر: ٧ ، وقال تعالى : ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ سورة آل عمران: ٣١ .

وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ … ))([14]) .

قال الشوكاني([15]) : (قال الأوزاعي : الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب . وقال ابن عبد البر : إنها تقضي عليه وتبين المراد منه . وقال يحيى بن أبي كثير : السنة قاضية على الكتاب.

والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام) .

المبدأ السادس : واضع علم الحديث :

نشأ علم الحديث رواية في عهد النبي ﷺ ، فقد كان الصحابة يكتبون الحديث في عهده ﷺ ، فعن أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ ))([16]) ، وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصيِ –رضي الله عنه- قَالَ : (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ ، أَفَأَكْتُبُهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قُلْتُ : فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ؟ قَالَ: نَعَمْ ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا حَقًّا ))([17]) ، وقال النبي ﷺ : ((قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِة ))([18]) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قال : (( مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ))([19]) .

قال النووي([20]) : (وكان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث ، ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها . والله اعلم) .

قال الحافظ ابن حجر([21]) : (السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا ، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم ، بل على استحبابه بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم) .

المبدأ السابع : الاسم :

اسمه علم الحديث ، وعلم الحديث رواية ، والسنة .

المبدأ الثامن : الاستمداد :

يستمد  هذا العلم من كلام المعصوم محمد ﷺ .

المبدأ التاسع : حكم تعلمه :

حكم تعلمه فرض كفاية ، وفرض عين على العالم في المسألة التي سيجتهد فيها .

المبدأ العاشر : مسائله :

المقصود بمسائله الجزئيات التي يتكون منها هذا العلم ، وهي أنواع السنة ، وهي القولية ، والفعلية ، والتقريرية ، والصفات الخَلقية والخُلقية للنبي ﷺ . وسبق بيانها .

[1])) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص (150) .

[2])) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص (148) .

[3])) الكفاية ص (3) .

[4])) الرسالة المستطرفة ص (142) .

[5])) رواه البخاري في الأذان/باب الأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً ، وَالإِقَامَةِ رقم الحديث (631) .

[6])) رواه البخاري في الأطعمة/ باب الأَكْلِ فِي إِنَاءٍ مُفَضَّضٍ رقم الحديث (5426) .

[7])) ينظر ما سيأتي : شرح الكوكب المنير (2/165)  ، ومجموع الفتاوى (26/172) ، واقتضاء الصراط المستقيم (2/591 – 597) ، وإعلام الموقعين (2/389 – 391) ، ومعالم أصول الفقه ص (129) .

([8]) رواه مسلم في صلاة العيدين رقم الحديث (1467) .

([9]) رواه أبو داود في الصلاة / بَاب تَرْكِ الْأَذَانِ فِي الْعِيدِ رقم الحديث (968) . وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (4/308) : (حديث صحيح، رجاله رجال البخاري ) .

 ([10])رواه البخاري في العلم/باب متى يصح سماع الصغير رقم الحديث (76) ، ومسلم في الصلاة/باب سترة المصلي رقم الحديث (504) .

 ([11]) رواه البخاري في أبواب الصلاة في الثياب/باب السجود على الثوب في شدة الحر رقم الحديث (378) .

 ([12])رواه البخاري في المناقب/باب صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ رقم الحديث (3556) ، ومسلم في التوبة/باب حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رقم الحديث (7192) .

([13]) أخرجه البخاري في الصوم /باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَكُونُ فِي رَمَضَانَ رقم الحديث (1902) ، ومسلم في الفضائل /باب كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ رقم الحديث (2308) .

 ([14]) رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (17174) . بإسناد صحيح . وصحح إسناده الشيخ الألباني في الحديث حجة بنفسه ص (32) .

 ([15]) إرشاد الفحول (1/97) .

 ([16])رواه البخاري في اللقطة/باب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ رقم الحديث (2434) ، ومسلم في الحج/باب تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا … رقم الحديث (3371) .

 ([17]) رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (7020) . حديث صحيح .

 ([18]) حديث صحيح بمجموع طرقه روي من حديث أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن العباس  -رضي الله عنهم أجمعين- . ينظر تخريجه في السلسلة الصحيحة رقم (2026) .

 ([19])رواه البخاري في العلم/باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ رقم الحديث (113) .

 ([20]) شرح مسلم (1/245) .

 ([21]) فتح الباري (1/204) .