النوع الرابع : الحديث المنقطع :
المسألة الأولى : تعريفه :
المنقطع لغة([1]) : المُنْقَطِعُ ضد المُتَصِل ، والقَطْعُ إِبانةُ بعض أَجزاء الجِرْمِ من بعضٍ فَصْلاً ، قَطَعَه يَقْطَعُه قَطْعاً وقَطِيعةً وقُطوعاً .
والمنقطع اصطلاحا([2]) : سقوط راوٍ أو أكثر أثناء السند لكن ليس على التوالي .
مثاله :
قال الترمذي([3]) : (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَمَّرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ ، عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ ، عَنْ عَبْدِ الجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: ((اسْتُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَدَرَأَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الحَدَّ ، وَأَقَامَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مَهْرًا )) .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ : عَبْدُ الجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَلاَ أَدْرَكَهُ ، يُقَالُ : إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِأَشْهُرٍ .
وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَغَيْرِهِمْ : أَنْ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَكْرَهَةِ حَدٌّ ) .
مثال آخر :
قال الحاكم([4]) : (حدثنا أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه ثنا محمد بن سليمان الحضرمي حدثنا محمد بن سهل ثنا عبد الرزاق قال : ذكر الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيع عن حذيفة قال : قال رسول الله ﷺ : ((إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم وإن وليتموها علياً فهاد مهدي يقيمكم على طريق مستقيم )) .
هذا إسناد لا يتأمله متأمل إلا علم اتصاله وسنده ، فإن الحضرمي ومحمد بن سهل بن عسكر ثقتان ، وسماع عبد الرزاق من سفيان الثوري واشتهاره به معروف ، وكذلك سماع الثوري من أبي إسحاق ، واشتهاره به معروف ، وفيه انقطاع في موضعين ، فإن عبد الرزاق لم يسمعه من الثوري ، والثوري لم يسمعه من أبي إسحاق .
أخبرنا أبو عمرو بن السماك ثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي حدثنا محمد بن أبي السري ثنا عبد الرزاق أخبرني النعمان بن أبي شيبة الجندي عن سفيان الثوري عن إسحاق فذكر نحو ز .
حدثنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة ثنا الحسن بن علويه القطان حدثني عبد السلام بن صالح ثنا عبد الله بن نمير ثنا سفيان الثوري ثنا شريك عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثيع عن حذيفة قال : ذكروا الإمارة والخلافة عن النبي ﷺ . فذكر الحديث بنحوه .
قال الحاكم : وكل من تأمل ما ذكرناه من المنقطع علم وتيقن أن هذا العلم من الدقيق الذي لا يستدركه إلا الموفق والطالب المتعلم ) .
المسألة الثانية : إطلاقات المنقطع :
عرفت أن المنقطع هو سقوط راوٍ أو أكثر أثناء السند لكن ليس على التوالي ، وهذا اشتهر عند المتأخرين ، لكن قد يطلق المنقطع على المقطوع([5]) ، ويطلق على كل ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان الانقطاع ، سواء كان في أو السند أو وسطه أو آخره وسواء كان سقط منه راو أو أكثر على التوالي أو ليس كذلك فيشمل المرسل والمعضل والمعلق ، ويطلق على إبهام الراوي في السند كأن يقال: (عن رجل) أو (عن شيخ) ، وكقول الراوي : (حدثت عن فلان) و (أخبرت عن فلان) فهو وإن ذكر الراوي ، لكنه أبهمه فأشبه الانقطاع ؛ للتساوي في جهالة الراوي عيناً وحالاً ، فلهذا سمي منقطعا([6]) .
مثال هذه الصورة :
قال الإمام أحمد([7]) : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، سَمِعَهُ مِنْ شَيْخٍ ، فَقَالَ مَرَّةً : سَمِعْتُهُ مِنْ رَجُلٍ ، مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَعْرَابِيٍّ ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَنْ قَرَأَ : ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ . فَقَالَ : ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ سورة المرسلات: 50 ، فَلْيَقُلْ : آمَنَّا بِاللهِ ، وَمَنْ قَرَأَ : ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ ، فَلْيَقُلْ : بَلَى ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ : ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ سورة القيامة: 40 ، فَلْيَقُلْ: بَلَى )) .
وهذا الحديث إسناده ضعيف لجهالة الراوي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- ، وهو عند بعض العلماء حديث منقطع .
قال الخطيب([8]) : (والمنقطع مثل المرسل إلا أن هذه العبارة تستعمل غالبا في رواية من دون التابعي عن الصحابة ، مثل : أن يروى مالك بن أنس عن عبد الله بن عمر ، أو سفيان الثوري عن جابر بن عبد الله ، أو شعبة بن الحجاج عن أنس بن مالك ، وما أشبه ذلك .
وقال بعض أهل العلم بالحديث : الحديث المنقطع ما روي عن التابعي ومن دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله ) .
قال النووي : (المنقطع الصحيح الذي ذهب إليه الفقهاء ، والخطيب ، وابن عبد البر وغيرهم من المحدثين أن المنقطع ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه ، وأكثر ما يستعمل في رواية من دون التابعي عن الصحابي كمالك عن ابن عمر .
وقيل : هو ما اختل منه رجل قبل التابعي محذوفا كان أو مبهما كرجل .
وقيل : هو ما روي عن تابعي أو من دونه قولا له أو فعلا . وهذا غريب ضعيف)([9]) .
المسألة الثالثة : حكم المنقطع :
الحديث المنقطع ضعيف لا يحتج به لتخلف شروط من شوط الصحة وهي الاتصال ، فإذا كان المرسل ضعيفاً فالمنقطع أولى منه لأن الساقط والمجهول في المرسل يحتمل أن يكون صحابياً وهم عدول أو تابعياً وهم أقرب إلى العدالة .
المسألة الرابعة : طرق معرفة المنقطع :
الطرق التي يعرف بها الانقطاع ما يأتي :
الطريق الأول : التنصيص من الراوي أو الناقد على عدم السماع([10]) .
- قد ينص الراوي نفسه على عدم السماع ، مثاله : قول عمرو بن مرة : قلت لأبي عبيدة (يعني ابن عبد الله بن مسعود) : تذكر من أبيك شيئاً؟ قال : لا([11]) .
- وقد يكون بتنصيص من روى عنه من الثقات ، مثاله : قال شعبة : قال لي عبد الملك بن ميسرة : الضحاك لم يسمع من ابن عباس ، إنما لقي سعيد بن جبير بالري فسمع منه التفسير([12]) .
- وقد يكون بتنصيص الناقد العارف بالرجال ، بناء على الاستقراء والنظر ، على عدم الإدراك ، أو اللقاء ، أو السماع ، بقوله مثلاً : (فلان لم يدرك فلاناً ، لم يلق فلاناً ، لم يسمع فلاناً ، عن فلان مرسل ) .
وقد يختلف فيه بين النقاد ، فمن مرجح للسماع ومن مرجح لخلافه ، فيحرر الراجح بأصول الجرح والتعديل .
الطريق الثاني : معرفة التاريخ .
المقصود به تمييز تاريخ وفاة الشيخ ، ومولد التلميذ ، فإن كان التلميذ لم يولد إلا بعد وفاة الشيخ أو قبل وفاته بسنة أو سنتين أو ثلاثة ونحوه بحيث كان صغير السن لا يَحْتَمل السماع ، فهو انقطاع .
وهذا طريق سلكه النقاد الكبار في معرفة الاتصال والانقطاع في الأسانيد ، واستدلوا به كثيراً .
مثاله : عبد الرحمن بن أبي ليلى ، من كبار التابعين ، وقد روى عن أبي بكر الصديق ، ومات أبو بكر سنة (113) ، وقال ابن أبي ليلى : ولدت لست بقين من خلافة عمر([13]) . فروايته عنه بهذا الاعتبار منقطعة قطعاً .
الطريق الثالث : مجيء الرواية بصيغة تدل على وجود واسطة بين الراوي ومن فوقه .
مثاله : قول الراوي : (حُدثت عن فلان) أو نحوها ، وهذا بين في الانقطاع من أجل البناء للمجهول ، وأمثلته واردة في الأسانيد بنسبة غير قليلة .
الطريق الرابع : أن يقوم دليل على أن رواية فلان عن فلان بواسطة بينهما ، فإذا وجدت دون الواسطة فهي منقطعة .
مثاله : رواية سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مولى النبي ﷺ ، فإنه لا يذكر في شيء من روايته سماعاً من ثوبان ، وغالب ما يرويه من حديث ثوبان يدخل بينه وبينه فيه معدان بن أبي طلحة .
ولذا قال الإمامان أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي : لم يسمع من ثوبان ، بينهما معدان بن أبي طلحة([14]) .
الطريق الخامس : تباعد بلد الراوي عن بلد من يروي عنه :
تباعد بلد الراوي عن بلد من يروي عنه قرينة على الانقطاع بحيث يغلب على نظر الباحث بعد تلاقيهما ، كأن يكون الراوي من بلد المشرق ومن يروي عنه من المغرب ، ولم يرحل هذا إلى المشرق ، ولا الراوي إلى المغرب ، ولم يثبت اجتماعهما في الحج في نفس السنة .
وقد يكون كلاهما من المشرق ، وكل واحد منها في بلد تبعد عن الأخرى بعدا يحتاج إلى سفر طويل ، ولم يرحل الأول إلى بلد الثاني ، ولا الثاني إلى بلد الأول ، ولم يثبت اجتماعهما في الحج في نفس السنة ، فهذه قرينة على الانقطاع .
قال ابن رجب([15]) : (ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رحل إلى بلده ، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه .
ونقل مهنا عن أحمد قال : لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري -رضي الله عنه- ، تميم بالشام ، وزرارة بصري .
وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- : لقد أدركه ، ولا أظنه سمع منه ، ذاك بالشام ، وهذا بالبصرة …
وكذلك رواية من هو في بلد عمن ببلد آخر ، ولم يثبت اجتماعهما ببلد واحد يدل على عدم السماع منه) .
([1])ينظر : المحكم (1/159) ، ولسان العرب (11/221) ، وتهذيب اللغة (1/187) ، ومصباح المنير ص (194) ، والقاموس المحيط ص (972) .
([2])ينظر : تدريب الراوي (1/235) ، والباعث الحثيث (1/162) ، النكت على نزهة النظر ص (112) ، وفتح المغيث (1/276) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (150) ، وشرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (412) ، توضيح الأفكار (1/323) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (144) ، والشذا الفياح (1/159) ، واليواقيت والدرر في شرح نخبة الفكر (2/3) .
([3])سنن الترمذي (3/107) رقم الحديث (1453) .
([4])معرفة علوم الحديث ص (70) .
([5])وهو ما رواه دون الصحابي كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .
([6])معرفة علوم الحديث ص (27) .
([7])المسند (12/353) رقم الحديث (7391) .
([9])ينظر : تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/235) .
([10])ينظر : ألفية السيوطي البيت رقم (181) وشروحها .
([11])أخرجه أحمد في العلل رقم (456) ، وابن أبي حاتم في المراسيل ص (256) بإسناد صحيح .
([12])أخرجه ابن أبي حاتم في المراسيل ص (95) بإسناد صحيح .
([13])أخرجه ابن أبي حاتم في المراسيل ص (126) .
([14])ينظر : المراسيل لابن أبي حاتم ص (55) ، وتهذيب الكمال (10/132) .