الحديث الحسن

الحديث الحسن .

المبحث الأول : تعريف الحديث الحَسَن :

الحسن لغة([1]) :  الحُسْنُ ضدُّ القُبْح ونقيضه ، والحُسْن نَعْت لما حَسُن ، حَسُنَ وحَسَن يَحْسُن حُسْناً فيهما فهو حاسِنٌ وحَسَن ، وجمع الحُسْنُ مَحاسِن على غير قياس كأَنه جمع مَحْسَن ، وجمع الحَسَن حِسان ، تقول : قد حَسُن الشيءُ وإن شئت خَفَّفْت الضمة فقلت : حَسْنَ الشيءُ .

الحسن لذاته اصطلاحا([2]) : ما اتصل إسناده بنقل العدل الذي خف ضبطه إلى منتهاه ، من غير شذوذ ولا علة قادحة .

شرح التعريف :

سبق شرح كلمات التعريف عند تعريف الحديث الصحيح ، وبقي أن أشرح الآتي :

قولنا : (خف ضبطه) : أي قل ضبطه الراوي للحدث ، وخفة الضبط وقلته لا تصل إلى حال من يُعد تفرده منكرا ، وهو الذي لم يتقن ضبط وحفظ الحديث ضبطا تاماً ، ويعبر عنه بعض العلماء بالصدوق .

وقولنا : (إلى منتهاه) : يعني أن اتصال السند والعدالة لابد أن تكون من أول السند إلى منتهاه ، وأما خفة الضبط فإنها تجعل الحديث حسناً لذاته في أي طبقة وجدت من طبقات السند ، فلو أن الحديث رجاله ستة ، وجميعهم ثقات عدول تاموا الضبط إلا الرابع خف ضبطه فإن الحديث يكون حسناً ، مع بقية الشروط .

مثاله الحديث الحسن لذاته :

قال الإمام أحمد حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ : ((لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ))([3]) .

هذا الحديث إسناده حسن لأجل عمر بن أبي سلمة قال الحافظ عنه([4]) : (عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قاضي المدينة صدوق يخطيء) . وبقية رجاله ثقات .

المبحث الثاني : أنواع الحديث الحسن :

يتنوع الحديث الحسن إلى نوعين :

النوع الأول : الحديث الحسن لذاته ، وسبق تعريفه والمثال عليه .

النوع الثاني : الحديث الحسن لغيره ، وهو ما قصر عن الحديث الحسن لذاته إلا أنه وجد ما يرتقي به إلى الحديث الحسن لغيره ككثرة الطرق ، أو المتابعات أو الشواهد ونحوها .

فقد يكون الحديث إسناده ضعيفاً وسيأتي بيانه ، وجاء من طرق أخرى بأسانيد فيها ضعف ، فإنه يرتقي الحديث بمجموع تلك الطرق إلى الحديث الحسن لغيره ، ولا بد أن يكون الضعف غير شديد فما كَانَ يسيراً زال بمجيئه من طريق آخر مثله أو أحسن مِنْهُ ، فإن ما كَانَ ضعفه بسبب سوء الحفظ أو اختلاطٍ أو تدليسٍ أو انقطاع يسير فالضعف هنا يرتفع ويتقوى الحديث بالمتابعات والطرق والشواهد ، وأما إن كَانَ انقطاعه شديداً أو كَانَ هناك قدحٌ في عدالة الراوي فالضعف في الحديث يزيد بكثرة الطرق والحالة هذه .

قال ابن الصلاح([5]) : (ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت :

فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة . فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ، ولم يختل فيه ضبطه له . وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر .

ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف ، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته . وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا .

وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث ، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة) .

مثاله الحديث الحسن لغيره :

قال ابن حبان : أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ فِطْرٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنها- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ ابْنَتَانِ ، فَيُحْسِنُ إِلَيْهِمَا مَا صَحِبَتَاهُ ، أَوْ صَحِبَهُمَا إِلَّا أَدْخَلَتَاهُ الْجَنَّةَ ))([6]) .

هذا الحديث إسناد ضعيف ، لأجل ضعف شرحبيل بن سعد . قال عنه الحافظ([7]) : (شرحبيل بن سعد أبو سعد المدني مولى الأنصار صدوق اختلط بآخره ) .  إلا أن الحديث حسن بشواهده ، فقد رواه ابن ماجه رقم الحديث (3670) ، وأبو يعلى (2571) و (2742) ، والطبراني (10836) ، والحاكم (4/178)  من طرق عن فطر ، بهذا الإسناد .

ورواه أبو يعلى في مسنده رقم الحديث (2457) قال : حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال : ((… ومن عال ثلاث بنات فأنفق عليهن وأحسن إليهن وجبت له الجنة . فقام رجل من الأعراب فقال : أو اثنتين ؟ قال : نعم . حتى لو قال : واحدة لقال : نعم …)) . وإسناده ضعيف بسبب ضعف حسين بن قيس . قال البغوي([8]) بعد أن روى هذا الحديث : (وحسين بن قيس أبو علي الرحبي ، لقبه : حنشٌ ، ضعفه أهل الحديث . وله نسخةٌ يرويها عن عكرمة ، عن ابن عباس أكثرها مقلوبة) .

ورواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (11384) قال : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُكْمِلٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه-  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ ثَلَاثُ بَنَاتٍ ، أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ ، أَوْ ابْنَتَانِ ، أَوْ أُخْتَانِ، فَيَتَّقِي اللهَ فِيهِنَّ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ )) . وإسناده ضعيف لجهالة سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل ، فقد روى عنه اثنان ، ولم يوثقه غير ابن حبان .

تنبيه :

اعلم أن الحديث الحسن بنوعيه من أدق مباحث علم الحديث حيث إنه يدور بين الصحة والضعف للاختلاف في الراوي بين المضعفين له والموثقين ، فالباحث يتردد فيه ، ولهذا ينبغي على الباحث أن يتريث في حكمه ، وأن ينظر في كلام العلماء على الراوي وأن يرجح بينها بناء على قواعد علمية سيأتي بيان بعضها إن شاء الله تعالى ، وأن ينظر كذلك في كلام العلماء على الحديث الذي يبحث فيه ينظر في كلام المصحح والمضعف ويرجح بينها معتمدا على القواعد العلمية والخبرة العملية .

قال الشيخ الألباني([9]) : (وإن مما ينبغي ذكره بهذه المناسبة أن الحديث الحسن لغيره وكذا الحسن لذاته من أدق علوم الحديث وأصعبها لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته ما بين موثق ومضعف ، فلا يتمكن من التوفيق بينها أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده ، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعليل ، ومارس ذلك عمليا مدة طويلة من عمره مستفيدا من كتب التخريجات ، ونقد الأئمة النقاد عارفا بالمتشددين منهم والمتساهلين ومن هم وسط بينهم حتى لا يقع في الإفراط والتفريط ، وهذا أمر صعب قل من يصير له ، وينال ثمرته فلا جرم أن صار هذا العلم غريبا من العلماء ،  والله يختص بفضله من يشاء).

المبحث الثالث : الاحتجاج بالحديث الحسن بنوعيه :

الناظر في الحديث الحسن لذاته يرى أنه قد اجتمعت في شروط الحديث الصحيح إلا أنه خف ضبط الراوي ، وهذا لا يخرجه في الحقيقة عن مرتبة الاحتجاج ، قال ابن كثير([10]) : (الحسن وهو في الاحتجاج به كالصحيح عند الجمهور ) ،  وسبب الخلاف في الاحتجاج بالحديث الحسن لذاته أن راوي الحسن خفّ ضبطه قليلاً عن راوي الصحيح ، فمن نظر إلى أصل الضبط احتج به ، ومن نظر إلى أن هذا الراوي قد خف ضبطه ، والأخبار ينبغي التثبت فيها قال : إنه لا يحتجّ به ، وعلى كل الراجح والمعتمد عند جمهور أهل العلم الاحتجاج به ، وأنه كالصحيح في الحجية .

وأما الحديث الحسن لغيره فإن كثرة الطرق غير شديدة الضعف ترتقي به إلى مرتبة الاحتجاج ، فالراجح أن الحديث الحسن لغيره  محتج به لأنه خرج عن مرتبة الضعيف ، وتقوية الحديث بالمتابعات والشواهد متقرر لدى أئمة الحديث ، ولذلك كان الأئمة يكتبون أحاديث الراوي للاعتبار بها .

قال الحافظ ابن حجر([11]) : (كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوة ) .

قال السخاوي([12]) : (قال النووي -رحمه الله- في بعض الأحاديث : وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوى بعضه بعضاً ، ويصير الحديث حسنا ويحتج به . وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الضعيفة ، وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه فإنه قال : هذا القسم لا يحتج به كله بأن يعمل به في فضائل الأعمال ، ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن واستحسنه شيخنا –يعني ابن حجر-  ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية([13]) : (فَإِنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَكَثْرَتَهَا يُقَوِّي بَعْضَهَا بَعْضًا حَتَّى قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهَا ) .

وقد ذهب الأئمة إلى تقوية الحديث بكثرة الطرق ، قال الإمامُ أَحْمَدُ بْنَُ حَنْبَلٍ : (أَحَادِيثُ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ » وَ «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ» أَحَادِيثُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهَا)([14]).

وقال الإمام سفيان الثوري : ( إني لأكتب الحديث على ثلاثة وجوه : فمنه ما أتدين به ، ومنه ما أعتبر به ، ومنه ما أكتبه لأعرفه )([15]) .

المبحث الرابع : أول من أطلق اصطلاح الحديث الحسن :

اعلم أن أول من أشهر اصطلاح (الحديث الحسن) الذي هو دون الصحيح الإمام الترمذي ، واصطلاح الحديث الحسن كان معروفاً قبله إلا أنه لم يظهر ويشتهر إلا في عهده ، فقد استعمل اصطلاح الحديث الحسن قبل الترمذي أو من معاصريه أئمة ، منهم :

أولا : الإمام مالك بن أنس ، فقد روى ابن أبي حاتم الرازي قال([16]) : (حدثنا عبد الرحمن نا أحمد بن عبد الرحمن بن أخي بن وهب قال سمعت عمي –عبدالله بن وهب- يقول : سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال : ليس ذلك على الناس . قال : فتركته حتى خف الناس ، فقلت له : عندنا في ذلك سنة ، فقال : وما هي؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : ((رأيت رسول الله ﷺ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه)) . فقال : إن هذا الحديث حسن ، وما سمعت به قط إلا الساعة ، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع) .

ثانياً : الإمام علي بن المديني ، قال المزي في ترجمة (نعيم بن حنظلة)([17]) : (قال علي بن المديني في هذا الحديث : إسناده حسن ولا نحفظه عن عمار عن النبي ﷺ إلا من هذا الطريق) .

ثالثاً : الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، فقد نقل عنه الإمام الترمذي تحسينه لعدة أحاديث في كتابه السنن (الجامع) والعلل الكبير .

وغيرهم كثير ممن حكموا على الحديث أو على الراوي بأنه حسن الحديث ، فالاصطلاح كان معروفاً قبل الإمام الترمذي إلا أنه لم يكن مشهوراً كما اشتهر في عهده ، وتتابع الناس بعده على هذا الاصطلاح . والله أعلم .

المبحث الخامس : أعلى مراتب الحسن رواية :

قال الإمام الذهبي([18]) : (فأعلى مراتب الحَسَن :

بَهْزُ بن حَكيم ، عن أبيه ، عن جَدَّه .

و : عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جَدَّه .

و : محمد بن عَمْرو ، عن أبي سَلَمة ، عن أبي هريرة .

و: ابنُ إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمِي ، وأمثالُ ذلك .

وهو قِسمٌ مُتجاذَبٌ بين الصحةِ والحُسن ، فإنَّ عِدَّةً من الحُفَّاظ يصححون هذه الطرق ، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح .

ثم بعدِ ذلك أمثلةُ كثيرة يُتَنازَعُ فيها ، بعضُهم يُحسَّنونها ، وآخَرُون يُضعِّفونها ، كحديث الحارثِ بن عبد الله ، وعاصم بن ضَمْرة ، وحَجَّاج بن أَرْطَاة ، وخُصَيْف ، ودَرَّاجٍ أبي السَّمْح ، وخلقٍ سِواهم) .

المبحث السادس : ما معنى وصف الترمذي للحديث بأنه (حسن صحيح) ؟

أعلم أن الترمذي قد صرح بتعريف الحسن فقال([19]) : (وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، فَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ حُسْنَ إِسْنَادِهِ عِنْدَنَا : كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى لَا يَكُونُ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ ، وَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ شَاذًّا ، وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوَ ذَاكَ ، فَهُوَ عِنْدَنَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . فإطلاق الحسن فقط عند الترمذي ظاهر لأنه بين مراده ، ولكن الخلاف بين العلماء -رحمهم الله تعالى- في قوله : (حديث حسن صحيح) فقد اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في مراد الترمذي عند إطلاقه على الحديث بأنه (حسن صحيح) على أقوال([20]) لأن الحديث الحسن قاصر عن الصحيح ، فكيف يجمع بينهما :

قيل : إنه جمع بينهما باعتبار الأسانيد ، فباعتبار إسناد الحديث هو حسن ، وباعتبار الأسانيد الأخرى يكون متن الحديث صحيحاً .

وتعقب هذا القول : بأنه يرده ما قال فيه الترمذي : (هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) .

وقيل : هو حسن باعتبار المتن ، أي حسن بالمعنى اللغوي لا المعنى الاصطلاحي ، صحيح باعتبار الإسناد .

وتعقب هذا القول : بأنه ضعيف ، بل مردود ، لأنه خلاف الأصل فالأصل حمل اللفظ على المعنى الاصطلاحي لا اللغوي ولا يصرف إلا بقرينة ، وليست هنا قرينة تصرفه من المعنى الاصطلاحي إلى المعنى اللغوي ، ولأنه يلزم على هذا إطلاق الحسن على الأحاديث الموضوعة ، فيقال : حديث حسن إسناده موضوع . وهذا باطل لا يطلقه المحدثون ولا يقولونه .

وقيل : إن الحديث الحسن الصحيح أعم من الصحيح ، فالحسن بالنسبة للحديث لأنه مؤيد بعمل القرون الفاضلة من الصحابة فمادون ، سواء صح أو نزل عن درجة الصحة ، وما لم يتأيد بعمل لا يصفه بالحسن وإن صح .

وتعقب هذا القول : بأنه يرده قول الترمذي : (حديث صحيح ، وعليه العمل بمكة ، وهو قول الشافعي) ، فلم يصفه بالحسن مع أنه مؤيد بعمل أهل مكة .

وقيل : إن ما قال  فيه : (حسن صحيح) أعلى رتبة عنده من (الحسن) ، ودون (الصحيح) ، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن .

وتعقب هذا القول : بأنه تحكم لا دليل عليه ، وهو بعيد من فهمهم معنى كلام الترمذي . وأيضاً يقتضي إثبات قسم ثالث ، ولا قائل به فهو خرق لإجماعهم ، وفيه أيضاً أنه يلزم عليه أن لا يكون في كلام الترمذي حديث صحيح إلا قليلاً لقلة اقتصاره على قوله : (هذا حديث صحيح) ، مع أن الذي يعبر فيه بالصحة والحسن أكثره موجود في الصحيحين .

وقيل : إن الحديث الذي يقول فيه الترمذي : (حسن صحيح) إن وقع التفرد والغرابة في سنده فهو محمول على التردد الحاصل من المجتهد في الرواة هل اجتمعت فيهم صفة الصحة أو الحسن ؟ فتردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد أن يتردد ولا يصفه بأحد الوصفين جزماً ، فيقال فيه : (حسن) باعتبار وصفه عند قوم ، و (صحيح) باعتبار وصفه عند قوم آخرين ، غاية ما فيه أنه حذف فيه حرف التردد ، وكان حقه أن يقول : (حسن أو صحيح) ، وهذا كما يحذف حرف العطف من التعداد ، وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح دون ما قيل فيه صحيح ؛ لأن الجزم أقوى من التردد .

وتعقب هذا القول : أن الترمذي قال عن أحاديث صحيحة ولا غبار عليها : (حسن صحيح) كحديث : (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ … )) . والحديث في صحيح البخاري . فكيف يكون قوله (حسن صحيح) دون الصحيح ؟!

وقيل : إن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا إذا اقتصر على قوله : (حسن) فالقصور يأتيه بسبب الاقتصار على ذكره لا من حيث حقيقته وذاته ، وبيانه وتوضيحه أن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواة ، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان ، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق فيصح أن يقال في هذا : إنه (حسن) باعتبار وجود الصفة الدنيا وهي الصدق مثلاً ، (صحيح) باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان ، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسناً ، ويؤيده ورود قولهم : هذا حديث حسن في الأحاديث الصحيحة ، وهذا موجود في كلام المتقدمين .

وشبه ذلك قولهم في الراوي : (صدوق فقط) و(صدوق ضابط) فإن الأول قاصر عن درجة رجال الصحيح ، والثاني منهم فكما أن الجمع بينهما لا يضر ولا يشكل ، فكذلك الجمع بين الصحة والحسن .

وقيل : إنه يريد بقوله : (حسن صحيح) في هذه الصورة الخاصة الترادف ، فيكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول للتأكيد له كما يقال : حديث صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك .

وتعقب هذا القول : بأن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ؛ لأن الأصل عدم التأكيد .

ورد هذا التعقب : بأن هذا يندفع عند وجود القرينة الدالة على ذلك ، وقد وجد في عبارة غير واحد كالدارقطني (هذا حديث صحيح ثابت) .

وقيل : إنه يريد حقيقتهما الاصطلاحية في إسناد واحد لكن باعتبار حالين وزمانين ، فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرة في حال كونه مستوراً أو مشهوراً بالصدق والأمانة ، ثم ارتقى وارتفع حاله إلى درجة العدالة فسمعه منه مرة أخرى فأخبر بالوصفين ، وقد روي عن غير واحد أنه سمع الحديث الواحد على شيخ واحد غير مرة .

وقيل : يحتمل أن يكون الترمذي أدى اجتهاده إلى حسنه ، وأدى اجتهاد غيره إلى صحته فيكون معناه حسنا عندي صحيحا عند غيري ، أو بالعكس فهو باعتبار مذهبين .

وقيل غير ذلك .

قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى-([21]) وهو يجمع ويرجح بين بعض الأقوال المتقدمة : (فإن جُمِعا ، أي الصحيحُ والحسنُ ، في وصفٍ واحدٍ ، كقول الترمذي وغيره : (حديثٌ حسنٌ صحيحٌ) ، فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل : هل اجتمعتْ فيه شروط الصحة أو قَصُرَ عنها ، وهذا حيث يَحْصل منه التفرد بتلك الرواية .

وعُرِفَ بهذا جوابُ مَنِ استشكلَ الجمعَ بين الوصفين ؛ فقال : الحَسَنُ قاصرٌ عن الصحيحِ ؛ ففي الجمع بين الوصفين إثباتٌ لذلك القصورِ ونَفْيُهُ ! .

ومُحَصَّل الجواب : أنّ تردُّدَ أئمة الحديث في حال ناقلِهِ اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحدِ الوصفين ، فيُقال فيه : حَسَنٌ باعتبار وصْفِهِ عند قومٍ ، صحيحٌ باعتبارِ وصْفِهِ عند قومٍ، وغايةُ ما فيه أنه حُذِف منه حرفُ التردد ؛ لأنّ حقه أن يقول : (حسنٌ أو صحيحٌ) ، وهذا كما حُذِفَ حرف العطف مِن الذي بعده . وعلى هذا فما قيل فيه : (حسنٌ صحيحٌ) دون ما قيل فيه صحيحٌ ؛ لأن الجزمَ أقوى مِن التردد ، وهذا حيث التفرد([22]) .

وإلا إذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معاً على الحديث يكون باعتبارِ إسنادين : أحدُهما صحيحٌ ، والآخر حسنٌ .

وعلى هذا فما قيل فيه : (حسن صحيح) فوقَ ما قيل فيه : (صحيح) فقط -إذا كان فرداً- لأن كثرة الطرق تقوِّي .

فإن قيل : قد صرَّح الترمذي بأنَّ شرط الحسن أن يُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ ؛ فكيف يقول في بعض الأحاديث : (حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه) ؟

فالجواب : أن الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقاً ، وإنما عَرَّفَ نوعاً خاصاً منه وَقَعَ في كتابه ، وهو ما يقول فيه : (حسنٌ) ، مِن غير صفةٍ أخرى ؛ وذلك أنه : يقول في بعض الأحاديث : (حسنٌ) . وفي بعضها: (صحيحٌ) . وفي بعضها : (غريبٌ) . وفي بعضها : (حسنٌ صحيحٌ) . وفي بعضها: (حسنٌ غريبٌ) . وفي بعضها : (صحيحٌ غريبٌ) . وفي بعضها : (حسنٌ صحيحٌ غريبٌ) .

وتعريفه إنما وقع على الأول فقط ، وعبارته تُرْشِدُ إلى ذلك ؛ حيث قال في آخر كتابه : (وما قلنا في كتابنا : (حديثٌ حَسَنٌ) ، فإنما أردنا به حُسْنَ إسناده عندنا : كُلُّ حديثٍ يُرْوَى ، لا يكون راويه متَّهَماً بكَذِبٍ ، ويُرْوَى من غير وجهٍ نحوُ ذلك ، ولا يكون شاذّاً فهو عندنا حديثٌ حسنٌ) .

فَعُرِفَ بهذا أنه إنما عَرَّفَ الذي يقول فيه : (حسنٌ) فقط ، أما ما يقول فيه : (حسنٌ صحيحٌ) ، أو : (حسنٌ غريبٌ) ، أو : (حسنٌ صحيحٌ غريبٌ) ، فلم يُعَرِّجْ على تعريفه ، كما لم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقول فيه : (صحيحٌ) فقط ، أو : (غريبٌ) فقط ، وكأنه ترك ذلك استغناءً ، لِشُهْرَتِه عند أهل الفن . واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه : (حسنٌ) فقط ؛ إمّا لغموضه ، وإمّا لأنه اصطلاحٌ جديدٌ ؛ ولذلك قَيَّدَه بقوله : عندنا ، ولم ينسِبْه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي .

وبهذا التقرير يندفع كثيرٌ مِن الإيرادات التي طال البحث فيها ، ولم يُسْفِر وجْهُ توجيهِها ، فلله الحمد على ما أَلْهَم وعَلَّم ) .

والأقرب- والله أعلم -من الأقوال المتقدمة الأقوال التي لم يرد عليها تعقيب أو رد .

المبحث السابع : مسائل في الحديث الصحيح والحسن :

المسألة الأولى : هل قول العلماء في الحديث : (رجاله ثقات) يستوجب الصحة ؟

إطلاق العالم على إسناد حديث ما بأن رجاله ثقات لا يلزم منه الصحة أو التحسين ، فقد يكون الحديث رجاله ثقات ولكنه منقطع أو شاذ أو فيه علة ونحو ذلك ، فالحكم على أن رجال إسناد الحديث ثقات هو شرط من شروط الصحيح الخمسة ، فلا بدّ من اجتماع الشروط لتصحيح أو تحسين ولا يكفي وجود شرط واحد .

مثاله :

قال أبو داود : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ : (( أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ  فَذَكَرَ حَدِيثَ الصَّلَاةِ ، قَالَ : فَلَمَّا سَجَدَ وَقَعَتَا رُكْبَتَاهُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ كَفَّاهُ ))([23]) .

فهذا الحديث إسناد رجاله ثقات رجال مسلم ، لكنه ضعيف ، وعلته الانقطاع بين عبد الجبار بن وائل وأبيه ؛ فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه كما ذكر العلماء .

قال يحيى بن معين : ( ولم يسمع من أبيه شيئاً ، إنما كان يحدث عن أهل بيته عن أبيه)([24]).

وقال : ( لم يسمع من وائل ، يقولون : إنه مات وهو حبل )([25]) يعني أن أمه به حبلى .

وقال ابن حبان([26]) : (ولد بعد موت أبيه بستة أشهر ، مات وائل بن حجر وأم عبد الجبار حامل به ، وهذا ضرب من المنقطع الذي لا تقوم به الحجة ) .

مثال آخر :

قال ابن ماجه : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ : (( إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ))([27]) .

فهذا الحديث إسناد رجاله ثقات ، لكنه ضعيف جدا .

قال البوصيري([28]) : (هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع . قال العلائي في المراسيل ، والمزي في التهذيب : إن رواية ميمون بن مهران عن عمر مرسلة ) .

وقال الشيخ الألباني([29]) : (وهذا سند ضعيف جدا ، وله علتان : الأولى : الانقطاع بين ميمون وعمر ، وبه أعلوه ، فقال البوصيري في الزوائد  ( ق 90/1 ) : (هذا الإسناد رجاله ثقات ، إلا أنه منقطع ، قال العلائي في المراسيل ، والمزي في التهذيب : إن رواية ميمون بن مهران عن عمر مرسلة) . وقال المنذري في الترغيب ( 4/164 ) : (ورواته ثقات مشهورون ، إلا أن ميمون بن مهران لم يسمع من عمر) ، وتبعه الحافظ في الفتح فقال ( 10/99 ) : (أخرجه ابن ماجه بسند حسن لكن فيه انقطاع) ، وغفلوا جميعا عن العلة الأخرى ، وهي : الثانية : وهي أن راويه عن جعفر بن برقان ليس هو كثير بن هشام كما هو ظاهر هذا الإسناد ، بل بينهما رجل متهم ، بين ذلك الحسنُ بن عرفة فقال : حدثنا كثير بن هشام الجزري عن عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران به ، أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص (178 ) . وعيسى هذا قال فيه البخاري والنسائي : (منكر الحديث) ، وقال أبو حاتم : (متروك الحديث) ، فلعله سقط من رواية جعفر بن مسافر وهما منه ، فقد قال فيه الحافظ : (صدوق ربما أخطأ) ، ثم رجعت إلى التهذيب ، فرأيته قد تنبه لهذه العلة ، فقال متعقبا لقول النووي الذي نقلته عنه آنفا : (فمشى على ظاهر السند ، وعلته أن الحسن بن عرفة رواه عن كثير ، فأدخل بينه وبين جعفر رجلا ضعيفا جدا، وهو عيسى بن إبراهيم الهاشمي) ) .

المقصود أنه لا يلزم تصحيح الإسناد بمجرد أن يكون رجال الإسناد ثقات ، أو قال فيه العلماء : رجاله ثقات . بل لا بد من اجتماع الشروط الحديث الصحيح السابقة .

وقال الشيخ الألباني وهو يتكلم على تخريج حديث ضعيف ورجاله ثقات([30]) : (فإذا عرفت هذا فلا فائدة كبرى من قول الهيثمي في المجمع ( 8/106 ) : (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة ، وفيه ضعف ) . وكذلك من قول الحافظ في الفتح  ( 5/139 ) : ( أخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات ) . لأن كون رجال الإسناد ثقات ليس هو كل ما يجب تحققه في السند حتى يكون صحيحا ، بل هو شرط من الشروط الأساسية في ذلك ، بل إن تتبعي لكلمات الأئمة في الكلام على الأحاديث قد دلني على أن قول أحدهم في حديث ما : (رجال إسناده ثقات) ، يدل على أن الإسناد غير صحيح ، بل فيه علة ولذلك لم يصححه ، وإنما صرح بأن رجاله ثقات فقط ، فتأمل).

قال ابن القيم([31]) : (إن ثقة الراوي شرط من شروط الصحة ، وجزء من المقتضى لها ، فلا يلزم من مجرد توثيقه الحكم بصحة الحديث . يوضحه : أن ثقة الراوي هي كونه صادقا لا يتعمد الكذب ، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل ، وهذا أحد الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي ، لكن بقي وصف الضَّبط والتَّحَفُّظ بحيث لا يعرف بالتَّغْفِيل وكثرة الغلط ، ثانيهما : وهو أن لا يَشُذَّ عن الناس فيروي ما يخالفُهُ فيه من هو أوثقُ منه وأكبر ، أو يروي ما لا يتابع عليه وليس ممن يحتمل ذلك ) .

المسألة الثانية : هل قول العلماء في الحديث : (أصح شيء في هذا الباب أو أحسن) يعنى صحة الحديث ؟

لا يلزم من قول العلماء : (هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب أو أحسن) الصحة ، فقد يكون الحديث ضعيفاً من جهة الإسناد ، أو المتن ، أو كليهما ، ولكن قالوا : (أصح) مقارنة بغيره مما يروى في نفس الباب ، فإذا كانت تلك الأحاديث ضعيفة جدا أو موضوعة فهذا الحديث ضعيف فقط ، فهو بالنسبة لها أصح منها ، فهو أصح شيء في هذا الباب ، وقد يكون صحيحاً ، المهم أن كلمة (أصح شيء في هذا الباب ) لا يلزم منها التصحيح ، فقد يكون الحديث صحيحاً ، وقد يكون ضعيفاً ، فينظر في إسناده ومتنه .

قال النووي -رحمه الله تعالى- : (لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث فإنهم يقولون : (هذا أصح ما جاء في الباب) وإن كان ضعيفاً ، ومرادهم أرجحة أو أقله ضعفاً )([32]) .

قال الزيلعي([33]) : (قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ : هَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي التَّصْحِيحِ ، فَقَوْلُهُ : هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ ، يَعْنِي أَشْبَهَ مَا فِي الْبَابِ ، وَأَقَلَّ ضَعْفًا … فَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ : أَصَحُّ شَيْءٍ ، لَيْسَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا ) .

المسألة الثالثة : هل قول العلماء في الحديث : (حديث جيد أو حديث قوي) يعنى الصحة؟

قول العلماء في الحديث : (حديث جيد أو حديث قوي) يعني أنه صحيح عندهم ، وهذا الاستعمال قليل نادر .

قال السيوطي([34]) : (فأما الجيد فقال شيخ الإسلام([35]) في الكلام على أصح الأسانيد لما حكى ابن الصلاح عن أحمد بن حنبل أن أصحها الزهري عن سالم عن أبيه عبارة أحمد : أجود الأسانيد كذا أخرجه الحاكم قال : هذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح ، ولذا قال البلقيني بعد أن نقل ذلك : من ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة ، وفي جامع الترمذي في الطب هذا حديث جيد حسن . وكذا قال غيره : لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم ، إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ، ويتردد في بلوغه الصحيح ، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح ، وكذا القوي) .

المسألة الرابعة : استدلال وعمل العالم بالحديث ولم يصرح بصحته هل يستلزم تصحيحه له؟

اعلم أن عمل العالم بالحديث والاستدلال به فيه التفصيل الآتي :

إذا كان المستدل أو العامل بالحديث ممن ليس له خبرة بصحيح الحديث وضعيفه ، فهذا لا يحتج باستدلاله أو عمله بأن الحديث صحيح ، وهذا تجده كثيرا في كتب الفقه ، فكم من حديث ضعيف بل موضوع استدل به كثير من الفقهاء على مسائل فقهية .

أما إذا كان المستدل أو العامل بالحديث عالما بالصحيح والضعيف ، وممن يميز ويعرف الأحاديث الصحاح والضعاف ويحكم عليها ، فالظاهر أن استدلاله بالحديث أو العمل به حكم له بالصحة أو الحسن إذا كان هذا الحديث هو الدليل الوحيد في هذه المسألة التي استدل بها ، أما لو كانت هناك أدلة أخرى فلا يستلزم استدلاله بالحديث أن يصححه ، لأنه ربما ذكره على سبيل الاستشهاد أو الاستئناس أو نحو ذلك .

قال ابن كثير([36]) : (قال([37]) : وكذلك فُتيا العالم أو عمله على وفق حديث ، لا يستلزم تصحيحه له . قلت : وفي هذا نظر ، إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث ، أو تعرض للاحتجاج به في فتياه أو حكمه ، أو استشهد به عند العمل بمقتضاه ) .

المسألة الخامسة : هل قول العالم : (إسناده صحيح) كقوله : (حديث صحيح) ؟ بمعنى هل يلزم من إطلاق العالم على الحديث بأن إسناده صحيح أن يكون الحديث صحيحاً وكذلك قوله : إسناده حسن) وقوله : (حديث حسن) ؟

إطلاق العالم على الحديث بأن إسناده صحيح لا يخلو من أمرين :

الأمر الأول : أنه يريد من هذا أنه اجتمعت في هذا الحديث شروط صحة الحديث المتقدمة وهي اتصال السند ، وعدالة الرواة ، وضبطهم من أول السند إلى آخره ، وكذلك لم يكن الحديث شاذا أو معللا وذلك لا يعرف بنفس الإسناد الذي يبحث فيه الباحث بل لا بد من جمع الطرق والأسانيد والمتون ، فإذا فعل ذلك فلا فرق أن يقول : (إسناده صحيح ) أو (حديث صحيح) .

الأمر الثاني : أنه يريد من هذا الإطلاق هو أنه بحث في هذا الإسناد فقط ، فحكم عليه بأنه صحيح ، فهنا لا ينبغي أن يقول : (حديث صحيح) بل يقول : (إسناد هذا الحديث صحيح) أو (إسناده صحيح) ، لأن قوله : (حديث صحيح) يوهم أنه تتبع الطرق والأسانيد والمتون لهذا الحديث فلم يجد فيه شذوذا أو علة تقدح فيه ، فلهذا حكم على الحديث بالصحة .

وعليه لا يلزم من قوله : (إسناده صحيح) أن يكون الحديث صحيحاً فقد يكون شاذا أو معللا ، وهذا يعرف بجمع الطرق والأسانيد ، نعم إطلاقه على الحديث بأن إسناده صحيح الأصل فيه أن يكون قد استوفى شروط الحديث الصحيح فيعمل به حتى يتبين ضعفه بالشذوذ أو العلة .

ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يحتاط ويتريث في حكمه على الحديث أو إسناده بالصحة أو الضعف ، وعليه أن يعرف أقوال أئمة الحديث في الحكم على الحديث تصحيحًا وتضعيفاً ، والحكم على الرواة تجريحًا وتعديلاً .

قال ابن الصلاح([38]) : (قَوْلُهُمْ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، أَوْ حَسَنُ الْإِسْنَادِ) دُونَ قَوْلِهِمْ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَدِيثٌ حَسَنٌ) ، لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ) ، وَلَا يَصِحُّ ، لِكَوْنِهِ شَاذًّا أَوْ مُعَلَّلًا .

غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ الْمُعْتَمَدَ مِنْهُمْ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ عِلَّةً ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْحُكْمُ لَهُ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ ، وَاللهُ أَعْلَمُ) .

وقال النووي([39]) : (وقولهم : حديث حسن الإسناد أو صحيحه ، دون قولهم : حديث صحيح أو حسن ؛ لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد دون المتن لشذوذ أو علة ، فإن اقتصر على ذلك حافظ معتمد فالظاهر صحة المتن وحسنه) .

وقال ابن القيم([40]) : (قد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحته ، فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور منها : صحة سنده ، وانتفاء علته ، وعدم شذوذه ونكارته ، وأن لا يكون روايه قد خالف الثقات أو شذ عنهم) .

وقال ابن كثير([41]) : (والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على المتن ، إذ قد يكون شاذاً أو معللاً ) .

 ([1])ينظر : المحكم (3/197) ، والمخصص (1/233) ، ومختار الصحاح (1/167) ، ولسان العرب (13/114) .

 ([2]) ينظر : معالم السنن (1/11) ، وعلل الجامع (9/457) ، وفتح المغيث (1/66) ، والموقظة ص (28) ، وعلوم الحديث ص (27) ، ونزهة النظر ص (92) .

 ([3])رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (8449) .

 ([4])تقريب التهذيب (1/720) .

 ([5])مقدمة ابن الصلاح ص (20) .

 ([6])رواه ابن حبان في صحيحه رقم الحديث (2945) ، والإمام أحمد في المسند رقم الحديث (2104) .

 ([7])تقريب التهذيب رقم (2764) .

 ([8])شرح السنة (13/45) .

 ([9])إرواء الغليل (3/363) .

 ([10])الباعث الحثيث (1/129) .

 ([11])القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد ص (38) .

 ([12])فتح المغيث (1/71) .

 ([13])مجموع الفتاوى (18/26) .

 ([14])ينظر :  سنن الكبرى للبيهقي (2/481) ، والكامل (4/254) ، وميزان الاعتدال (2/225) .

 ([15])ينظر :  الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/193) .

 ([16])مقدمة الجرح والتعديل ص (27) .

 ([17])تهذيب الكمال (29/482) رقم الترجمة (6452) .

 ([18])الموقظة ص (4) .

 ([19])سنن الترمذي (13/53) .

 ([20])ينظر :  الباعث الحثيث (1/139) ، واليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر (1/398) ، وتوضيح الأفكار ص (236) ، وفتح المغيث (1/164) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (110) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (113) ، والموقظة ص (8) ، ومرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/205) .

 ([21])نزهة النظر ص (79)  .

 ([22])وسبق أنه تعقب أن الترمذي قال عن أحاديث صحيحة ولا غبار عليها : (حسن صحيح) كحديث : ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ … )) . والحديث في صحيح البخاري . فكيف يكون قوله (حسن صحيح) دون الصحيح ؟!.

 ([23])رواه أبو داود في الصلاة/بَاب كَيْفَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ رقم الحديث (713) .

 ([24])ينظر : تاريخ يحيى بن مَعين، رواية الدُّوري (النص: 44) .

 ([25])ينظر : تاريخ يحيى بن مُعين، رواية الدوري (النص: 1890) .

 ([26])المجروحين (2/273)  ترجمة: مُحمد بن حُجر .

 ([27])رواه ابن ماجه في ما جاء في الجنائز/بَاب مَا جَاءَ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ رقم الحديث (1431) .

 ([28])مصباح الزجاجة (2/21) .

 ([29])السلسلة الضعيفة رقم (1004) .

 ([30])السلسلة الضعيفة (3/317) .

 ([31])الفروسية ص (73) .

 ([32])ينظر : تدريب الراوي ص (39) .

 ([33])نصب الراية (2/217) .

 ([34])تدريب الراوي ص (178) .

 ([35])الحافظ ابن حجر .

 ([36])الباعث الحثيث (1/290) .

 ([37])يعني ابن الصلاح .

 ([38])مقدمة ابن الصلاح ص (113) .

 ([39])التقريب للنووي (1/161) .

 ([40])الفروسية ص (246) .

 ([41])الباعث الحثيث (1/139) .