الشيخ: اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في تحديد وقتها ومحلها لاختلاف الروايات الواردة في تحديدها ، فالأحوط أن تلتمس في العشر الأواخر من رمضان وخاصة أوتارها ، وهو الصحيح المشهور وعليه جمهور الفقهاء ، منهم المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور . قال ابن دقيق العيد(إحكام الأحكام (2/250) ) : (والقول بتنقلها حسن لأن فيه جمعا بين الأحاديث وحثاً على إحياء جميع تلك الليالي ) . والدليل على ذلك ما يأتي : الدليل الأول : عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ))(رواه البخاري رقم الحديث (1913) ، ومسلم رقم الحديث (1998) ) . وبوب عليه البخاري بقوله : (باب تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ)( صحيح البخاري ص (381) ) . قال الحافظ ابن حجر( فتح الباري (4/305) ) : (في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ، ثم في العشر الأخير منه ، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها ، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها) . الدليل الثاني : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى ، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى ، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى))(رواه البخاري رقم الحديث (1917) ) . الدليل الثالث : عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ((الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ- فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلاَ يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي))( رواه مسلم رقم الحديث (2822) ) . الدليل الرابع : عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ، وَجَدَّ ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ ))(رواه البخاري رقم الحديث (1920) ، ومسلم رقم الحديث (2844) واللفظ له ) . الدليل الخامس : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال : ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ(يعني يعتكف ) فِي رَمَضَانَ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ ، فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِى مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي ، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ، رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ . وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا ، فَخَطَبَ النَّاسَ ، فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللهُ ، ثُمَّ قَالَ : « كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ ، ثُمَّ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا فَابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَابْتَغُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ » . فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، فَأَمْطَرَتْ ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ(يعني قطر ماء المطر من سقفه ) فِي مُصَلَّي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ، فَبَصُرَتْ عَيْنِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ ، وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً ))( رواه البخاري رقم الحديث (1914) ، ومسلم رقم الحديث (2826) ) . قال ابن بطال( شرح البخاري (4/155)) : (قال أيوب عن أبي قلابة : إنها تجول في ليالي العشر كلّها . قال الطبري : والآثار المروية في ذلك عن النبي عليه السلام صحاح ، وهى متفقة غير مختلفة ، وذلك أن جميعها ينبئ عنه عليه السلام أنها في العشر الأواخر ، وغير منكر أن تتجول في كلّ سنة في ليلة من ليالي العشر كما قال أبو قلابة قال المؤلف : وإنما يصح معناه وتوافق ليلة القدر وترًا من الليالي على ما ذكر في الحديث إذا كان الشهر ناقصًا ، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا في شفع فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين ، والخامسة الباقية ليلة ست وعشرين ، والسابعة الباقية ليلة أربع وعشرين على ما ذكره البخاري عن ابن عباس ، فلا تصادف واحدة منهن وترا ، وهذا يدل على انتقال ليلة القدر كلّ سنة في العشر الأواخر من وتر إلى شفع ، ومن شفع إلى وتر ؛ لأن النبي عليه السلام لم يأمر أمته بالتماسها في شهر كامل دون ناقص ، بل أطلق على طلبها في جميع شهور رمضان التي قد رتبها الله مرة على التمام ، ومرة على النقصان ، فثبت انتقالها في العشر الأواخر كلّها ما قاله أبو قلابة ) . قال في الموسوعة الفقهية(35/366) : (القول الثامن : إنها متنقلة في ليالي العشر الأواخر تنتقل في بعض السنين إلى ليلة وفي بعضها إلى غيرها ، وذلك جمعا بين الأحاديث التي وردت في تحديدها في ليال مختلفة من شهر رمضان عامة ومن العشر الأواخر خاصة ، لأنه لا طريق إلى الجمع بين تلك الأحاديث إلا بالقول بأنها متنقلة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل ، فعلى هذا كانت في السنة التي رأى أبو سعيد -رضي الله عنه- النبي صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين ليلة إحدى وعشرين ، وفي السنة التي أمر عبد الله بن أنيس بأن ينزل من البادية ليصلي في المسجد ليلة ثلاث وعشرين ، وفي السنة التي رأى أبي بن كعب -رضي الله عنه- علامتها ليلة سبع وعشرين ، وقد ترى علامتها في غير هذه الليالي ، وهذا قول مالك وأحمد والثوري وإسحاق وأبي ثور وأبي قلابة والمزني وصاحبه أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة والماوردي وابن حجر العسقلاني من الشافعية ، وقال النووي : وهذا هو الظاهر المختار ، لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها ) . فائدة : قال ابن قدامة(المغني (4/453) ) : (قال بعض أهل العلم : أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ، ويجدوا في العبادة في الشهر كلّه طمعا في إدراكها ، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ، ليكثروا من الدعاء في اليوم كلّه ، وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات ، ليجتهدوا في جمعها ، وأخفى الأجل وقيام الساعة ، لِيَجِدَّ الناس في العمل ، حذرا منهما) . والله أعلم . ينظر : حاشية البجيرمي (2/93) ، وروضة الطالبين (2/389) ، والمجموع (6/449) ، والإنصاف (3/354) ، وكشاف القناع (2/345) ، والمغني (4/450) ، وشرح مسلم للنووي (8/57) ، وفتح الباري (4/265) ، وتفسير القرطبي (2/135) ، والموسوعة الفقهية (35/364) ، وإحكام الأحكام (2/250)