الشيخ: المرض مبيح للفطر في رمضان ، والدليل على ذلك ما يأتي : الدليل الأول : الإجماع ، أجمع العلماء على إباحة الفطر للمريض في الجملة(ينظر : مراتب الإجماع لابن حزم ص (71) ، والمغني (4/403) ، وروضة الطالبين (2/234) ) . الدليل الثاني : قوله تعالى : ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ سورة البقرة: ١٨٤. أما السؤال عن المرض المبيح للفطر فهذه المسألة فيها تفصيل يتضح منها معرفة أحوال الإنسان مع المرض إذا صام ، وهي على النحو الآتي : الحال الأولى : مرض لا يقدر معه على الصوم . وهذا المرض يحرم الصوم معه ، والشرع لا يكلف بمثل هذا ، لأنه من باب التكليف بما لا يطاق ، والتكليف بما لا يطاق لا يجوز بالاتفاق . قال القرطبي المالكي في تفسيره (2/276) : (للمريض حالتان : إحداهما : ألا يطيق الصوم بحال ، فعليه الفطر واجبا . الثانية : أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة ، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل ) . الحال الثانية : مرض يقدر المكلف أن يصوم معه لكن بمشقة وجهد وتكلف . وهذا المرض يجب معه الفطر على الراجح ويحرم الصوم ، لأن فيه ضرراً للنفس وإهلاكاً لها ، وهو محرم بنصوص الشريعة ، كقوله تعالى : ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ سورة البقرة: ١٩٥ . وقوله تعالى : ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ سورة النساء: ٢٩، قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ))(رواه أحمد في المسند رقم الحديث (2867) ، ومالك في الموطأ رقم الحديث (1249) . ينظر : إرواء الغليل رقم الحديث (888) ، والسلسلة الصحيحة رقم الحديث (250) . قال ابن نجيم في البحر الرائق (2/303) : (الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَالصَّوْمُ عَزِيمَةٌ فَكَانَ أَفْضَلَ إلَّا إذَا خَافَ الْهَلَاكَ فَالْإِفْطَارُ وَاجِبٌ كَذَا في الْبَدَائِعِ ) . وقال خليل في مختصر خليل (1/63) : (وَوَجَبَ إنْ خَافَ هَلَاكًا ، أَوْ شَدِيدَ أَذًى) . وقال الخرشي في شرح الخرشي على مختصر خليل (7/99) : (وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا خَافَ بِصَوْمِهِ الْهَلَاكَ ، أَوْ شِدَّةَ الْأَذَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ وَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ) . وقال النووي في روضة الطالبين (2/234) : (ثم شرط كون المرض مبيحا أن يجهده الصوم معه فيلحقه ضرر يشق احتماله) . الحال الثالثة : مرض يقدر أن يصوم معه من غير كلفة ومشقة لكن يغلب على ظنه أو أخبره الطبيب الثقة أنه سيزيد الصوم من مرضه . وهذا يستحب معه الفطر على الراجح . قال الكاساني في بدائع الصنائع (2/94) : (أَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ أَنْ يَزْدَادَ بِالصَّوْمِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ . فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ خَافَ إنْ لَمْ يُفْطِرْ أَنْ تَزْدَادَ عَيْنَاهُ وَجَعًا ، أَوْ حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ) . وقال القرطبي المالكي في تفسيره (2/276) : (قال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر . قال ابن عطية : وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون . وأما لفظ مالك فهو : المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به ) . الحال الرابعة : المرض اليسير الذي لا يشق معه الصيام ، ولا يزيده ، ولا يؤخر شفاءه . والراجح أن هذا المرض لا يبيح الفطر ، وهو مذهب الجمهور( ينظر : القوانين الفقهية ص (82) ، والموسوعة الفقهية (28/45) ). فالراجح من الأحوال التي مضت في المرض أن المرض المبيح للفطر هو الذي يجد معه مشقة إذا صام ويعلم ذلك بنفسه ، أو يغلب على ظنه أنه إذا صام تضرر وذلك يعرف غالبا بخبر الطبيب الثقة أو أمارة أو تجربة عند الصائم المريض ، فكلّ مرض يجد الصائم معه مشقة شديدة أو يزيده أو يخشى تأخر الشفاء معه يبيح الفطر ، وهو مذهب جمهور العلماء كما مر معنا . وأما القول بأن كلّ مرض يبيح الفطر ففيه نظر لأن الأمراض كثيرة جدا بعضها يؤثر على الصائم ، وبعضها لا يؤثر كالصداع الخفيف والألم اليسير في اليد أو الرجل ونحو ذلك ، فهذه لا تبيح الفطر ، وغالب الناس لا يسلم منها ، ولأنه لا فرق بينه وبين السليم في الغالب . قال ابن قدامة في المغني (4/403) : (وَالْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلْفِطْرِ هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَزِيدُ بِالصَّوْمِ أَوْ يُخْشَى تَبَاطُؤُ بُرْئِهِ . قِيلَ لِأَحْمَدَ : مَتَى يُفْطِرُ الْمَرِيضُ ؟ قَالَ : إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ . قِيلَ : مِثْلُ الْحُمَّى ؟ قَالَ : وَأَيُّ مَرَضٍ أَشَدُّ مِنْ الْحُمَّى وَالْمَرَضُ لَا ضَابِطَ لَهُ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَاضَ تَخْتَلِفُ ، مِنْهَا مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ الصَّوْمُ وَمِنْهَا مَا لَا أَثَرَ لِلصَّوْمِ فِيهِ ، كَوَجَعِ الضِّرْسِ ، وَجُرْحٍ فِي الْإِصْبَعِ ، وَالدُّمَّلِ ، وَالْقَرْحَةِ الْيَسِيرَةِ ، وَالْجَرَبِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَصْلُحْ الْمَرَضُ ضَابِطًا ، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْحِكْمَةِ ، وَهُوَ مَا يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ). قال ابن نجيم في البحر الرائق (2/303) : (أَبَاحَ الْفِطْرَ لِكُلِّ مَرِيضٍ ، لَكِنْ الْقَطْعُ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْفِطْرِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ ، وَتَحَقُّقُ الْحَرَجِ مَنُوطٌ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ أَوْ إبْطَاءِ الْبُرْءِ أَوْ إفْسَادِ عُضْوٍ ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْمَرِيضِ ، وَالِاجْتِهَادُ غَيْرُ مُجَرَّدِ الْوَهْمِ بَلْ هُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ عَنْ أَمَارَةٍ أَوْ تَجْرِبَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ وَقِيلَ : عَدَالَتُهُ شَرْطٌ ) . والله أعلم