السائل: عندي سؤال في هذا الحديث
عن أبي العَبَّاس عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْاسٍ رَضي اللهُ عنهما قال: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يًوْماً فقال: يا غُلامُ، إنِّي أُعَلِّمُكَ كلِماتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَك، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجاهَك، إذا سأَلْتَ فاسْأَلِ اللهَ، وإذا اسْتَعنْتَ فاسْتَعِنْ باللهِ، واعْلَمْ أنَّ الأُمَّة لَو اجْتَمَعَتْ على أَنْ يَنْفَعُـوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْءٍ قدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وإن اجْتَمَعُوا على أن يَضُرَّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضُروكَ إلا بِشَيء كَتَبهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ . رواه الترمذي وقال:حديث حسن صحيحٌ
قال الرسول (ص) لَو اجْتَمَعَتْ على أَنْ يَنْفَعُـوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْءٍ قدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ
وقال وإن اجْتَمَعُوا على أن يَضُرَّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضُروكَ إلا بِشَيء كَتَبهُ اللهُ عَلَيْكَ
لماذا في الاولى قد وفي الثانية لايوجد قد؟؟؟وشكرا
الشيخ: الحمد لله وحده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وبعد : أولا : لم أجد الحديث عند الترمذي باللفظ الذي ذكرته بل الحديث عنده بذكر (قد) رقم (2440) ، ورواه أحمد في المسند برقم (2537) و (2669) . نعم روى الحديث باللفظ المذكور بدون (قد) في الثانية أبو يعلى في مسنده برقم (2556) . ولعل عدم ذكرها من تصرف الرواة . ثانياً : لا شك أن وجود (قد) أبلغ لأن قد إذا دخلت على الماضي أفادة التحقيق عند العلماء ، كما في قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }المؤمنون1 . ثالثاً : وهذا الحديث عظيم القدر كثير الفائدة قد شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم وسأذكر بعض فوائدة التي ذكرها رحمه الله تعالى . قال رحمه الله تعالى : (وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهمِّ أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء : تدبرتُ هذا الحديثَ ، فأدهشني وكِدتُ أطيشُ ، فوا أسفي من الجهل بهذا الحديث ، وقِلَّةِ التفهم لمعناه ) وقال : (فقوله صلى الله عليه وسلم : (( احفظِ الله )) يعني : احفظ حدودَه ، وحقوقَه ، وأوامرَه ، ونواهيَه ، وحفظُ ذلك : هو الوقوفُ عندَ أوامره بالامتثال ، وعند نواهيه بالاجتنابِ ، وعندَ حدوده ، فلا يتجاوزُ ما أمر به ، وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك ، فهو مِنَ الحافظين لحدود الله الذين مدحهمُ الله في كتابه ، وقال عز وجل : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ }. وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامرِ الله ، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها ). وقال –رحمه الله تعالى : (وقوله صلى الله عليه وسلم : (( يحفظك )) يعني : أنَّ من حفظَ حدود الله ، وراعى حقوقَه ، حفظه الله ، فإنَّ الجزاء من جنس العمل ، كما قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِبِعَهْدِكُمْ } ، وقال : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ، وقال : { إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ } . وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان : أحدهما : حفظه له في مصالح دنياه ، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله ، قال الله عز وجل : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ } (7) ومَنْ حفظ الله في صباه وقوَّته ، حفظه الله في حال كبَره وضعفِ قوّته ، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقله . النوع الثاني من الحفظ ، وهو أشرف النوعين : حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه ، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة ، ومن الشهوات المحرَّمة ، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته ، فيتوفَّاه على الإيمان وفي الجملة ، فالله عز وجل يحفظُ على المؤمن الحافظ لحدود دينَه ، ويحولُ بينَه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها ، وقد يكونُ كارهاً له ، كما قال في حقِّ يوسُف عليه السلام : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . قال ابن عباس في قوله تعالى : { أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } (4) ، قال : يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار . وفي الجملة : فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه ، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدَّته) . وقال رحمه الله تعالى : (وقوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت ، فاستعن بالله )) هذا مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنَّ السؤال لله هو دعاؤُه والرغبةُ إليه ، والدُّعاء هو العبادة واعلم أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خلقه هوَ المتعين ؛ لأنَّ السؤال فيهِ إظهار الذلِّ من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار ، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسؤول على دفع هذا الضَّرر ، ونيل المطلوب ، وجلبِ المنافع ، ودرء المضارِّ ، ولا يصلح الذلُّ والافتقار إلاَّ لله وحدَه ؛ لأنَّه حقيقة العبادة ، وكان الإمامُ أحمد يدعو ويقول : اللهمَّ كما صُنتَ وجهي عَنِ السُّجود لغيرك فصُنْه عن المسألة لغيرك ، ولا يقدر على كشف الضرِّ وجلب النفع سواه . كما قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ } ، وقال : { مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } . والله سبحانه يحبّ أنْ يُسأل ويُرْغَبَ إليه في الحوائج ، ويُلَحَّ في سؤاله ودُعائه ، ويَغْضَبُ على من لا يسأله ، ويستدعي مِنْ عباده سؤاله ، وهو قادر على إعطاء خلقه كُلِّهم سُؤْلَهم من غير أنْ يَنْقُصَ من ملكه شيء ، والمخلوق بخلاف ذلك كله : يكره أنْ يُسأل ، ويُحبُّ أنْ لا يُسألَ ، لعجزه وفقره وحاجته . ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك : ويحك ، تأتي من يُغلِقُ عنك بابَه ، ويُظهِرُ لك فقرَه ، ويواري عنك غناه ، وتدع من يفتحُ لك بابه بنصف الليل ونصف النهار ، ويظهر لك غناه ، ويقول : ادعني أستجب لك ؟! وقال طاووس لعطاء : إياك أنْ تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة ، أمرك أنْ تسأله ، ووعدك أنْ يُجيبك وأما الاستعانة بالله عز وجل دونَ غيره من الخلق ؛ فلأنَّ العبدَ عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه ، ودفع مضارّه ، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل ، فمن أعانه الله ، فهو المُعانُ ، ومن خذله فهو المخذولُ ، وهذا تحقيقُ معنى قول : (( لا حول ولا قُوَّةَ إلا بالله )) ، فإنَّ المعنى : لا تَحوُّلَ للعبد مِنْ حال إلى حال ، ولا قُوَّة له على ذلك إلا بالله ، وهذه كلمةٌ عظيمةٌ ، وهي كنز من كنوز الجنة ، فالعبدُ محتاجٌ إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات ، وترك المحظورات ، والصبر على المقدورات كلِّها في الدنيا وعندَ الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل -، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه . وفي الحديث الصحيح عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( احرصْ على ما ينفعُكَ واستعن بالله ولا تعجزْ )) . ومن ترك الاستعانة بالله ، واستعان بغيرِه ، وكَلَهُ الله إلى من استعان به فصار مخذولاً ) وقال رحمه الله تعالى : (قوله صلى الله عليه وسلم : (( جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ )) وفي روايةٍ أخرى : (( رُفِعت الأقلام ، وجفَّت الصحف )) هو كنايةٌ عن تقدُّم كتابة المقادير كلِّها ، والفراغ منها من أمدٍ بعيد ، فإنَّ الكتابَ إذا فُرِغَ من كتابته ، ورفعت الأقلامُ عنه ، وطال عهده ، فقد رُفعت عنه الأقلام ، وجفتِ الأقلام التي كتب بها مِنْ مدادها ، وجفت الصَّحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها ، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغِها . وقد دلَّ الكتابُ والسننُ الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى ، قال الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ } (1) . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إنَّ الله كتبَ مقاديرَ الخلائق قبل أنْ يخلُقَ السَّماوات والأرض بخمسين ألفَ سنة )) . وفيه أيضاً عن جابر : أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله ، فيمَ العمل اليوم ؟ أفيما جفَّت به الأقلامُ ، وجرت به المقادير ، أم فيما يستقبل ؟ قال : (( لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير )) ، قال: ففيم العملُ ؟ قال: (( اعملوا فكلٌّ ميسَّر لما خلق له )) . والمراد : إنَّ ما يُصيب العبدَ في دنياه مما يضرُّه أو ينفعه ، فكلُّه مقدَّرٌ عليه ، ولا يصيبُ العبدَ إلا ما كُتِبَ له من ذلك في الكتاب السابق ، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً . وقد دلَّ القرآنُ على مثل هذا في قوله عز وجل : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا } ، وقوله : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } ، وقوله : { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } واعلم أنَّ مدارَ جميع هذه الوصية على هذا الأصل ، وما ذُكِر قبلَه وبعدَه ، فهو متفرِّعٌ عليه ، وراجعٌ إليه ، فإنَّ العبد إذا علم أنَّه لن يُصيبَه إلا ما كتبَ الله له مِنْ خير وشرٍّ ، ونفعٍ وضرٍّ ، وأنَّ اجتهادَ الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد البتة ، علم حينئذٍ أنَّ الله وحده هو الضَّارُّ النَّافعُ ، المعطي المانع ، فأوجبَ ذلك للعبدِ توحيدَ ربِّه عز وجل ، وإفرادَه بالطاعة ، وحفظَ حدوده ، فإنَّ المعبود إنَّما يقصد بعبادته جلبَ المنافع ودفع المضار ، ولهذا ذمَّ الله من يعبدُ من لا ينفعُ ولا يضرُّ ، ولا يُغني عن عابدِهِ شيئاً ، فمن علم أنَّه لا ينفعُ ولا يضرُّ ، ولا يُعطي ولا يمنعُ غيرُ الله ، أوجبَ له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرُّع والدعاء ، وتقديم طاعته على طاعةِ الخلق جميعاً ، وأنْ يتّقي سخطه ، ولو كان فيه سخطُ الخلق جميعاً ، وإفراده بالاستعانة به ، والسؤال له ، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرَّخاء ، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عندَ الشدائد ، ونسيانه في الرخاء ، ودعاء من يرجون نفعَه مِنْ دُونِه ، قال الله عز وجل : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } ). وأنصح بقراء كل ما كتبه الحافظ ابن رجب على هذا الحديث . والله أعلم .