الشيخ: يندب إحياء ليلة القدر بالصلاة ، وقراءة القرآن ، والذكر ، والدعاء ، والأعمال الصالحة ، وأن يكثر فيها من الدعاء والاستغفار ، فقد اتفق الفقهاء على أنه يستحب إحياء ليلة القدر ، ودليله : الدليل الأول : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))( رواه البخاري رقم الحديث (1802) ، ومسلم رقم الحديث (1268)) . الدليل الثاني : عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ، وَجَدَّ ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ ))(رواه البخاري في فضل ليلة القدر /باب الْعَمَلِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ رقم الحديث (1920) ، ومسلم في الاعتكاف /باب الاِجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ رقم الحديث (2844) واللفظ له ) . قال ابن بطال في شرح البخاري (4/159) : (إنما فعل ذلك عليه السلام ؛ لأنه أخبر أن ليلة القدر في العشر الأواخر ، فَسَنَّ لأمته الأخذ بالأحوط في طلبها في العشر كله لئلا تفوت ، إذ يمكن أن يكون الشهر ناقصًا وأن يكون كاملا ، فمن أحيا ليال العشر كلّها لم يفته منها شفع ولا وتر ، ولو أعلم الله عباده أن في ليالي السنة كلّها مثل هذه الليلة لوجب عليهم أن يحيوا الليالي كلّها في طلبها ، فذلك يسير في جنب طلب غفرانه ، والنجاة من عذابه ، فرفق تعالى بعباده وجعل هذه الليلة الشريفة موجودة في عشر ليال ؛ ليدركها أهل الضعف وأهل الفتور في العمل ، مَنًّا من الله ورحمة) . والله أعلم . ينظر : مراقي الفلاح ص (218) ، وفتح الباري (4/255-270) ، ودليل الفالحين (3/646) ، والمجموع (6/446) ، والموسوعة الفقهية (35/362) .
السائل: هل من السنة ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح ؟
الشيخ: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعلم ختم القرآن في التراويح لأنه كما مر معنا صلى بهم ثلاث ليالٍ ، وقد ذهب جمهور العلماء من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة إلى أنه يندب فعل ذلك ليسمع الناس جميع القرآن . وقد يستدل لهم بأنّ رمضان شهر القرآن ، قال تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ سورة البقرة : 185 . فينبغي أن يقرأ القرآن كاملا ولو مرة واحدة في أقل الأحوال في هذا الشهر بتدبر وتمعن ، وقراءته وسماعه في الصلاة أبلغ في التأثير ، وأيضاً ما ثبت عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : ((كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))(أخرجه البخاري رقم الحديث (1902) ، ومسلم رقم الحديث (2308) ) . قال ابن بطال في شرح البخاري (16/277) : (قال عبد الواحد : ونزول جبريل في رمضان للتلاوة دليل عظيم لفضل تلاوة القرآن فيه ، وهذا أصل تلاوة الناس للقرآن في كلّ رمضان ، تأسيًا به صلى الله عليه وسلم ، ومعنى مدارسة جبريل للنبي ، عليه السلام ، فيه ، لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن ، كما نص الله تعالى). والله أعلم . ينظر : الموسوعة الفقهية (27/148) ، وفتح القدير (1/335) ، وبدائع الصنائع (1/289) ، وحاشية الدسوقي (1/315) ، وأسنى المطالب (1/201) ، والمغني (2/606) .
السائل: ماذا يسن أن يقول بعد السلام من صلاة الوتر ؟
الشيخ: يُسّن أن يقول بعد السلام من الوتر : سبحان الملك القدوس ثلاثاً ، ويمد صوته بها في الثالثة( ينظر : المغني (2/601)) ، وذلك لما ثبت عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ : (( أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، وَكَانَ إِذَا سَلَّمَ قَالَ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ، ثَلَاثًا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْآخِرَةِ ))(رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (15358) . بإسناده صحيح . ينظر : صحيح النسائي رقم الحديث (1732) ) . وعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ فِي الْوِتْرِ قَالَ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ))( رواه أبو داود رقم الحديث (1432) . قال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (5/173) : (وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات على شرط مسلم ) ). والله أعلم .
الشيخ: يسنّ دعاء القنوت بعد الفراغ من القراءة وقبل الركوع ، وكذلك بعد الركوع قبل السجود ، قال الإمام النووي في المجموع (3/520) : (في مذاهبهم في محل الوتر : قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أنه بعد رفع الرأس من الركوع ، وحكاه ابن المنذر عن أبى بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وسعيد بن جبير -رضي الله عنهم- قال : به أقول . وحكى القنوت قبل الركوع عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- أيضا وعن ابن مسعود ، وأبي موسي الأشعري ، والبراء بن عازب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، وعمر بن عبد العزيز ، وعبيدة السلماني ، وحميد الطويل ، وعبد الرحمن بن أبى ليلي ، وأصحاب الرأي ، واسحق ، وحكى عن أيوب السختياني وأحمد بن حنبل أنهما جائزان) .انتهى . أما دليله قبل الركوع : الدليل الأول : عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ –رضي الله عنه- : ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ ))(رواه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها /بَاب مَا جَاءَ فِي الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ رقم الحديث (1172) ، والنسائي رقم الحديث (1710) . وصححه الشيخ الألباني في أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (3/968)) . الدليل الثاني : عَن عَلْقَمَةَ : ((أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ، وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ ))(رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/302) رقم (6983) . إسناده صحيح . قال الشيخ الألباني في الإرواء (2/166) : (وهذا سند جيد ، وهو على شرط مسلم) ) . أما بعد الركوع فلما ثبت عن الأئمة في عهد عمر رضي الله عنه ، فعن عبد الرحمن بن عبد القاريّ قال : ((وكانوا يلعنون الكفرة في النصف : اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ثم يكبر ويهوى ساجداً ))( رواه ابن خزيمة في صحيحه (2/155) برقم (1100) ، وقال الألباني : إسناده صحيح . وينظر قيام رمضان الألباني ص (31) ، وإرواء الغليل (2/177) ) . والله أعلم . ينظر : المجموع (3/520) ، وروضة الطالبين (1/330) ، والمغني (2/581) .
الشيخ: اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء ، والراجح أنه لا يشرع ذلك ، وهو مذهب الحنفية ، وهو الصحيح من مذهب الشافعية ، ورواية عن الإمام أحمد . ورجحت هذا المذهب للأدلة الآتية : الدليل الأول : أن مسح الوجه بعد الدعاء عبادة ، والعبادة توقيفية تحتاج إلى دليل ، ولم يثبت بذلك حديث صحيح ولا أثر ، وعليه لا يشرع ذلك . الدليل الثاني : أنه دعاء في صلاة فلا يستحب مسح الوجهه فيه كسائر الأدعية في الصلاة . الدليل الثالث : أنه عمل في الصلاة والعمل في الصلاة غير مشروع إلا بدليل ، ولا دليل على مشروعية مسح الوجه بعد الدعاء . الدليل الرابع : أنه وردت أحاديث صحيحة كثير في الدعاء وفي رفع اليدين ومرّ بعضها وليس في شيء منها مسح الوجه ، فدل على عدم مشروعيته . وأما الحديثان الواردان في مسح الوجه بعد الدعاء لا يثبت منها شيء ، قال الإمام النووي في المجموع (3/480) : (وأما مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء فان قلنا لا يرفع اليدين لم يشرع المسح بلا خلاف ، وإن قلنا يرفع فوجهان (والثاني) لا يمسح وهذا هو الصحيح صححه البيهقي والرافعي وآخرون من المحققين ، قال البيهقي : لست أحفظ في مسح الوجه هنا عن أحد من السلف شيئا ، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة( وأفاد قوله يروى التضعيف ) ، فأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس ، فالأولى أن لا يفعله ويقتصر علي ما نقله السلف عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة . ثم روى بإسناده حديثا من سنن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس -رضي الله تعالي عنهما- : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((سلوا الله ببطون كفوفكم ولا تسألوه بظهورها فأذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم )) قال أبوا داود : روى هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلّها واهية هذا متنها وهو ضعيف أيضا . ثم روى البيهقي عن علي الباشاني قال : سألت عبد الله يعنى ابن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه قال : لم أجد له ثبتا ، قال علي : ولم أره يفعل ذلك ، قال : وكان عبد الله يقنت بعد الركوع في الوتر وكان يرفع يديه ، هذا آخر كلام البيهقي في كتاب السنن ، وله رسالة مشهورة كتبها إلي الشيخ أبي محمد الجويني أنكر عليه فيها أشياء من جملتها مسحه وجهه بعد القنوت ، وبسط الكلام في ذلك . وأما حديث عمر رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه )) رواه الترمذي وقال : حديث غريب انفرد به حماد ابن عيسي وحماد هذا ضعيف ، وذكر الشيخ عبد الحق هذا الحديث في كتابه الإحكام ، وقال الترمذي : وهو حديث صحيح ، وغلط في قوله : إن الترمذي قال هو حديث صحيح ، وإنما قال غريب). والله أعلم ينظر : إرواء الغليل رقم (433) ورقم (434) . وينظر : حاشية الطحطاوي (1/280) ، والموسوعة الفقهية (45/266) والمجموع (3/480) والمغني (2/585) .
السائل: هل التلحين وتكلف السجع في دعاء القنوت أمر مستحب ؟
الشيخ: التلحين في الدعاء والتكلف في السجع في دعاء القنوت أمر لم يفعله السلف –رضوان الله عليهم- وهو يخالف مقصود الدعاء ، فالداعي ينبغي أن يكون حالُه حالَ المتضرع لله تعالى الوَجِل منه ، والتلحين و التكلف في السجع لا يناسبه ، فعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- قَالَ : ((فَانْظُرْ السَّجْعَ مِنْ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ ، يَعْنِي لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ))( رواه البخاري رقم الحديث (5978) ). قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (10/97) : (إنما نهى عن السجع في الدعاء ، والله أعلم ؛ لأن طلب السجع فيه تكلف ومشقة ، وذلك مانع من الخشوع وإخلاص التضرع لله تعالى وقد جاء في الحديث : ( إن الله لا يقبل من قلب غافلٍ لاهٍ ) . وطالب السجع في دعائه همته في تزويج الكلام وسجعه ، ومن شغل فكره وكد خاطره بتكلفه ، فقلبه عن الخشوع غافل لاه لقول الله تعالى : ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ سورة الأحزاب: ٤) .انتهى . وقد يكون التلحين و التكلف في السجع من موانع الاستجابة ، قال المناوي في فيض القدير (1/296) : (قال الكمال ابن الهمام : ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح والانشغال بتحريات النغم إظهارا للصناعة النغمية لا إقامة للعبودية فإنه لا يقتضي الإجابة ، بل هو من مقتضيات الرد ، وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس به ، فكأنه قال اعجبوا من حسن صوتي وتحريري ، ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال ، وما ذاك إلا نوع لعب ، فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الخفض والرفع والتطريب والترجيع كالتغني نسب البتة إلى قصد السخرية واللعب إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني ، فاستبان أن ذاك من مقتضيات الخيبة والحرمان) . انتهى . قال الشيخ بكر أبو زيد في تصحيح الدعاء ص (469) : ( إِنَّ التلحين , والتطريب , والتغني , والتقعر , والتمطيط في أَدَاءِ الدُّعاءِ , مُنْكَرٌ عَظِيم , يُنَافِيْ الضَّرَاعَة , والابْتِهَال , والعُبُوديَّةَ , وداعِيةٌ للرياء , والإِعجاب , وتكثير جمع المعجبين به وقد أَنكرَ أَهل العلم على من يفعل ذلك في القديم والحديث. فعَلَى مَنْ وَفَّقهُ الله تعالى وصَارَ إِماماً للناسِ في الصلوات , وقنتَ في الوترِ , أَن يجتهدَ في تصحيح النية , وأَن يُلْقِيَ الدُّعاء بصوته المعتاد , بضراعة وابتهال , مُتَخَلَّصاً مِمَّا ذُكِرَ , مجتنباً هذه التكلفات الصارفة لقلبه عن التعلُّق بربه ) . انتهى . فإن قيل : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم السجع في بعض أدعيته فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما – قال : (( دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ : اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ))( رواه البخاري رقم الحديث (2775) ، ومسلم رقم الحديث (4641)) ، ونحوها من الأدعية التي فيها السجع . جوابه : أن السجع المنهي عنه في حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- وكلام العلماء إنما هو السجع المتكلف ، وهو الذي أشرت إليه في هذه المسألة ، أما إذا كان السجع في الدعاء من غير تكلف فلا بأس به . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/139) : (ولا يرد على ذلك( يشير إلى حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- في النهي عن السجع ) ما وقع في الأحاديث الصحيحة لأن ذلك كان يصدر من غير قصد إليه ، ولأجل هذا يجيء في غاية الانسجام كقوله صلى الله عليه وسلم في الجهاد : ((اللهم منزل الكتاب سريع الحساب هازم الأحزاب)) وكقوله صلى الله عليه وسلم : ((صدق وعده واعز جنده )) الحديث وكقوله : ((أعوذ بك من عين لا تدمع ونفس لا تشبع وقلب لا يخشع )) وكلّها صحيحة قال الغزالي : المكروه من السجع هو المتكلف لأنه لا يلائم الضراعة والذلة وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير متكلفة . قال الأزهري : وإنما كرهه صلى الله عليه وسلم لمشاكلته كلام الكهنة كما في قصة المرأة من هذيل ) . والله أعلم .
السائل: ما هي نصيحتك للمأمومين الذين يؤمنون على دعاء الإمام دون تفكر في دعائه ؟
الشيخ: إن مما يلاحظ في تأمين كثير من المأمومين على دعاء الإمام الغفلة الظاهرة فيما يقول الإمام في الدعاء ، فهم يؤمنون فقط حتى لو أخطأ الإمام فدعا عليهم من غير قصد فإنهم يؤمنون ، ومعلوم أن هذا بسبب الغفلة عن الدعاء وانشغال القلب بالدنيا ، نسأل الله تعالى السلامة ، فكيف يستجاب لمثل هذا القلب الساهي اللاهي فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ ))( رواه الترمذي رقم الحديث (3816) . ينظر : السلسلة الصحيحة رقم الحديث (594)) . قال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير (1/106) : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ . أي : لا يعبأ بسؤال سائل مشغوف القلب بما أهمه من دنياه . قال الإمام الرازي : اجمعوا على أنّ الدعاء مع غفلة القلب لا أثر له ) . وأيضا مما ينبغي التنبه له أن التأمين يكون في المواضع المناسبة ، فإن من الناس من يؤمن على دعاء الإمام سواء كان دعاءً أو خبراً ، وهذا أيضا بسبب عدم التدبر فيما يقول الإمام في الدعاء ، والذي ينبغي أن يعقل المأموم ما يسمعه ، فيؤمن في موضع التأمين ويسكت في الخبر كقول الإمام : (إِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ ، وَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ) ، وغيرها من المواضع التي هي خبر وليست دعاء ، ولا يقل : (حقّ) أو (أشهد) ونحو ذلك ، كلّ ذلك من الأمور المحدثة التي لم ترد عن الصحابة -رضي الله عنهم- حال القنوت في الصلاة ، لم يرد عنهم إلا التأمين ، والأصل في الصلاة السكوت والسكون وعدم الكلام إلا ما جاء الدليل به لأن الكلام مبطل للصلاة كما هو معلوم ، ولم يأت في دعاء القنوت في الصلاة إلا التأمين خلف الإمام فيقتصر عليه ولا تجوز الزيادة عليه . وفقك الله تعالى جميع المسلمين في التبصر في دينهم . والله أعلم .
السائل: هل وردت آثار صحيحة عن السلف أنهم كانوا يهنؤون بعضهم بقدوم شهر رمضان ؟
الشيخ: لا أعلم في ذلك أثارا لا نفيا ولا إيجابا لكن التهنئة من باب العادات ، والأصل في العادات الإباحة ، إلا إذا دلّ الدليل على الحث على عادة معينة فإنها تكون عبادة أو نهى عنها فإنها تكون ممنوعة شرعاً . والذي يظهر –والله أعلم أن الناس لم يقصدوا بالتهنئة برمضان التعبد بها ، وإنما هي عادة جرت بينهم ، وفيها مصلحة دعاء المؤمنين بالبركة بعضهم لبعض فلا مانع منها شرعاً . واستدل بعض أهل العلم على جواز التهنئة بشهر رمضان بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ((أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ ، لِلهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ ))( رواه النسائي رقم الحديث (2118) ، والإمام أحمد في المسند رقم الحديث (7347) . والحديث رجاله رجال الشيخين إلا أن في الإسناد انقطاعاً والحديث أصله في الصحيحين . ينظر : السلسلة الصحيحة رقم الحديث (1868) ، وصحيح النسائي رقم الحديث (2106) ) . قال ابن رجب –رحمه الله تعالى- في لطائف المعارف ص (158) : (قال بعض العلماء : هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان ، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان ، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران ، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين ، من أين يشبه هذا الزمان زمان ) . وقال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح (4/451) : (شهر مبارك بدل أو بيان ، والتقدير هو شهر مبارك ، وظاهره الأخبار أي كثر خيره الحسي والمعنوي كما هو مشاهد فيه ، ويحتمل أن يكون دعاء أي جعله الله مباركا علينا وعليكم وهو أصل في التهنئة المتعارفة في أول الشهور بالمباركة ، ويؤيد الأول قوله : اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان . إذ فيه إيماء إلى أن رمضان من أصله مبارك فلا يحتاج إلى الدعاء فإنه تحصيل الحاصل ، لكن قد يقال : لا مانع من قبول زيادة البركة) . قال أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ في أسنى المطالب (4/121) . وينظر : تحفة المحتاج (10/203): (قَالَ الْقَمُولِيُّ : لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا كَلَامًا فِي التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدِ وَالْأَعْوَامِ وَالْأَشْهُرِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ ، لَكِنْ نَقَلَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ عَنْ الْحَافِظِ الْمَقْدِسِيَّ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مُخْتَلِفِينَ فِيهِ ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ . انْتَهَى . وَأَجَابَ عَنْهُ شَيْخُنَا حَافِظُ عَصْرِهِ الشِّهَابُ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ ثُمَّ قَالَ : وَيُحْتَجُّ لِعُمُومِ التَّهْنِئَةِ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ وَالتَّعْزِيَةِ وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ وَمَضَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَامَ إلَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَهَنَّأَهُ ) . وقصة كعب بن مالك -رضي الله عنه- الثابتة في الصحيحين من البشارة له ولصاحبه بتوبة الله عليهما وقيام طلحة -رضي الله تعالى عنه- إليه فهنأه فيها دليل ظاهر على تهنئة من تجددت له نعمة دينية كما سبق النقل عن ابن حجر ، ومن أعظم النعم أن يدرك المسلم شهر رمضان ، شهر المغفرة والعتق من النار . قال ابن القيم في زاد المعاد (3/585) : (وفيه دليل على استحباب تهنئة مَن تجدَّدت له نعمة دينية ) . وقال ابن مفلح في الفروع (6/182) : (وَفِي قِصَّةٍ تَخَلُّفَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ تَهْنِئَةُ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيَّةٌ) . والله أعلم
الشيخ: صفة رفع اليدين في الدعاء (وهو ما يعرف بدعاء المسألة) ومنه القنوت هي أن يرفع الداعي يديه حذو منكبيه أو نحوهما ، ضاماً لهما غير مفرقتين باسطاً بطونهما نحو السماء ، وظهورهما نحو الأرض ، وإن شاء قنَّع بهما وجهه وظهورهما نحو القبلة ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- قَالَ : ((الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوَهُمَا ، وَالاِسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ، وَالاِبْتِهَالُ أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا ))(رواه أبو داود في الوتر /باب الدُّعَاءِ رقم الأثر (1491) . قال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (5/227) : (إسناده صحيح . وأخرجه الضياء في المختارة من طريق المصنف) ). و عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى بَنِي آبِي اللَّحْمِ : (( أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِى عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ قَرِيبًا مِنَ الزَّوْرَاءِ قَائِمًا يَدْعُو يَسْتَسْقِي رَافِعًا يَدَيْهِ قِبَلَ وَجْهِهِ لاَ يُجَاوِزُ بِهِمَا رَأْسَهُ ))(رواه أبو داود رقم الحديث (1170) . قال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (4/331) : (إسناده صحيح على شرط مسلم ، وصححه ابن حبان والحاكم ، ووافقه الذهبي) ) . فالحديث وإن كان في الاستسقاء إلا أنه بين صفة رفع النبي صلى الله عليه وسلم لليدين في دعاء المسألة ومثله القنوت ، قال العيني في شرح أبي داود له (5/13) : (قوله: قِبَل وجهه بكسر القاف وفتح الباء . فيه من السُنَة رفع اليدين إلى وجهه ، ولا يجاوز بهما رأسه كما فعله رسول الله) . وقد جاءت أحاديث أخرى في الاستسقاء بينت صفة دعاء الابتهال ، وهو رفع اليدين مداً نحو السماء حتى يبدو عضداه ، وليس هذا مَحَل بحثانا لأن القنوت يندرج تحت دعاء المسألة كما سبق . وأما ما ذكره بعض الفقهاء من أن صفة رفع اليدين في دعاء القنوت كرفعهما في تكبيرة الإحرام فغير صحيح ، قال المباركفوري في مرعاة المفاتيح (4/299) : (وأما رفع اليدين في قنوت الوتر أي كرفعهما عند التحريمة ، فلم أقف على حديث مرفوع فيه أيضاً ، نعم جاء فيه عن ابن مسعود من فعله ، فذكره نقلاً عن جزء رفع اليدين للبخاري ، وعن كتاب الوتر للمروزي ، وذكر أيضاً في ذلك آثاراً عن عمر وأبي هريرة وأبي قلابة ومكحول عن كتابة المروزي ، ثم قال: وفي الاستدلال بها على رفع اليدين في قنوت الوتر كرفعهما عند التحريمة نظر ، إذ ليس فيها ما يدل على هذا ، بل الظاهر منها ثبوت رفع اليدين كرفعهما في الدعاء ، فإن القنوت دعاء-انتهى . قلت : الأمر كما قال الشيخ فليس في هذه الآثار دلالة على مطلوبهم ، بل هي ظاهرة في رفع اليدين في القنوت حال الدعاء ، كما يرفع الداعي فيجوز أن ترفع اليدان حال الدعاء في قنوت الوتر عملاً بتلك الآثار كما ترفعان في قنوت النازلة في غير الوتر لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما سيأتي . قال شيخ مشائخنا الشيخ حسين بن محسن الأنصاري في مجموعة فتاواه (ص160) : قد ثبت الرفع من فعله صلى الله عليه وسلم في قنوت غير الوتر ، فالوتر مثله لعدم الفارق بين القنوتين إذ هما دعاءان ، ولهذا قال أبو يوسف : إنه يرفعهما في قنوت الوتر إلى صدره ويجعل بطونهما إلى السماء ، واختاره الطحاوي والكرخي . قال الشامي : والظاهر أنه يبقيهما كذلك إلى تمام الدعاء على هذه الرواية- انتهى . قال : والحاصل أن رفع اليدين في قنوت الوتر . (كرفع الداعي) ثبت من فعل ابن مسعود وعمر وأنس وأبي هريرة ، كما ذكره الحافظ في التلخيص ، وكفى بهم أسوة وثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غير الوتر- انتهى) . والله أعلم ينظر : تصحيح الدعاء ص (115) ، والموسوعة الفقهية (45/266) ، وشرح صحيح البخاري لابن بطال (10/102) ، وفتح الباري لابن رجب (6/302) ، وتفسير القرطبي (11/337) .
يستحب رفع اليدين في دعاء القنوت ، وهو مذهب الحنفية ، والحنابلة ، والصحيح عند الشافعية(ينظر : المجموع (3/479) ، والمغني (2/584) ).
ورجحت هذا المذهب للأدلة الآتية :
الدليل الأول : قد ثبت رفع اليدين في قنوت الوتر عن جمع من السلف ، وهم أعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم منّا ، وأولى بالإتباع والإقتداء ، وقول الصحابي وفعله حجة على الراجح من أقوال علماء أصول الفقه ، ومن تلك الآثار :
الأثر الأول : عن أبي عثمان ، قال : (( كان عمر يقنت بنا بعد الركوع ، ويرفع يديه حتى يبدو ضبعاه ، ويسمع صوته من وراء المسجد))( رواه البخاري في جزء رفع اليدين رقم (89) و(90) ، وابن أبي شيبة (2/316) ، وابن المنذر في الأوسط (5/213) ، والبيهقي السنن الكبرى رقم (3272) و(3273) و(3274) و(3275) . وقال : (وَهَذَا عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صَحِيحٌ ) . ينظر : إرواء الغليل (2/181) ، وما صح من آثار الصحابة (1/412)) .
قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل (2/181) : (ورفع اليدين في قنوت النازلة ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم … وثبت مثله عن عمر , وغيره في قنوت الوتر) .
الأثر الثاني : عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود –رضي الله عنه- : (( أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ ))(رواه ابن أبي شيبة (2/307) ، والبخاري في جزء رفع اليدين (91) ، وابن المنذر في الأوسط رقم (2671) ، والبيهقي في سننه رقم (5062) . وفي سنده ليث ، وليث هو ابن أبي سليم وهو ضعيف لاختلاطه . لكن رواه عبد الرزاق عن الزهري عن حماد عن إبراهيم : (( أن ابن مسعود كان يرفع يديه في الوتر ثم يرسلهما بعد )) . إسناده حسن . مصنف عبد الرزاق (4/325) . فثبت الرفع عن ابن مسعود –رضي الله عنه في قنوت الوتر . ينظر : ما صح من الآثار (1/413) ) .
قال محمد بن نصر المروزي في صلاة الوتر ص (103) : (باب رفع الأيدي عند القنوت : عن الأسود أن عبد الله بن مسعود : « كان يرفع يديه في القنوت إلى صدره » ، وعن أبي عثمان النهدي : « كان عمر يقنت بنا في صلاة الغداة ، ويرفع يديه حتى يخرج ضبعيه » ، وعن خلاس : « رأيت ابن عباس يمد بضبعيه في قنوت صلاة الغداة » . وكان أبو هريرة يرفع يديه في قنوته في شهر رمضان . وعن أبي قلابة ، ومكحول أنهما كانا يرفعان أيديهما في قنوت رمضان ، وعن إبراهيم في القنوت في الوتر : « إذا فرغ من القراءة كبر ورفع يديه ، ثم قنت ثم كبر وركع » ، وعن وكيع عن محل عن إبراهيم قال : « قل في الوتر هكذا ، ورفع يديه قريبا من أذنيه ، ثم ترسل يديه ») .
الدليل الثاني : قياس قنوت الوتر على قنوت النازلة في رفع اليدين والجامع بينهما أنه دعاء قنوت في كلّ ، فكما أنه يسن رفع اليدين في قنوت النازلة فكذلك في قنوت الوتر ولا فرق ، ووجه القياس : الأصل : دعاء قنوت النازلة في صلاة الفرض ، الحكم : يسن فيها رفع الأيدي ، الفرع : دعاء قنوت الوتر ، العلة : الجامعة بينهما أنهما دعاء قنوت في كل ، الحكم : رفع الأيدي في قنوت الوتر كما ترفع في قنوت النازلة ، بل هي في النافلة أولى لأنه إذا جاز الرفع في قنوت النازلة في الفرض فالأولى أن يجوز في قنوت النفل . والله أعلم .
ويسن رفع اليدين في دعاء قنوت النازلة لحديث أنس – رضي الله عنه- قال : (( … فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ ، وَجْدَهُ عَلَيْهِمْ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا صَلَّى الْغَدَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ ))(رواه الإمام أحمد في مسنده (19/349) رقم الحديث (12402) ، والطبراني في الصغير ص (111) . إسناده صحيح . قال في إرواء الغليل (2/181) : سنده صحيح )
الدليل الثالث : أن الدعاء إما أن يكون بألفاظ مخصوصة محددة من الشارع لا يزاد عليها أو لا يكون كذلك ، فإن كان بألفاظ مخصوصة – كالاستخارة – فلا يسن رفع اليدين حتى يرد الدليل بالرفع ، فإن لم يكن مخصوصا بألفاظ معينة فرفع اليدين فيه سنة ، لأنّ الأصل في الدعاء رفع اليدين ، ولأنه أدعى للتضرع فيه ولقبوله ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ))( رواه الترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه . صحيح الترمذي رقم (2819) ، صحيح الجامع رقم (1757) ) .
ولغيرها من الأحاديث التي ورد فيها بيان فضل رفع اليدين في الدعاء . ودعاء قنوت الوتر من الأدعية التي يجوز أن يزاد فيها لما ورد عن السلف كما سبق ، فليست ألفاظه مخصوصة لا تجوز الزيادة عليها ، وعليه فهو دعاء يسن رفع اليدين فيه .
فإن قيل : كذلك الدعاء في السجود غير مخصوص بألفاظ معينة بعد التسبيح فهلا قلتم بالرفع ؟
جوابه :
أن السجود ورد على صفة معينة وهي السجود على الأعضاء المعروفة ، فلا يجوز أن يغير من هيئة الصلاة التي وردت ، بخلاف دعاء القنوت فإن الهيئة الواردة عن النبي صلى اللله عليه وسلم في النازلة الرفع ، وكذلك في صلاة الاستسقاء ، فعلم بذلك أن رفع اليدين مشروع في هذه الهيئة وهي القنوت سواء نازلة أو غيرها لأنه أدعى للاستجابة ، فهو داخل في النصوص التي ورد فيها الحث على رفع اليدين ، بخلاف بقية الصلاة فلا يشرع فيها الرفع لأنه لم يرد به الدليل ، ولأنه موطن قد وردت صفته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشرع فيه الرفع ، بمعنى أن المشروع في الدعاء رفع اليدين إلا ما جاء في السنة بعدم رفعه ، مثل الدعاء في الصلاة بين السجدتين ليس فيه رفع ، وبعد التشهد ليس فيه رفع ، وفي أثناء الركوع ليس فيه رفع ، وفي الاستفتاح اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، كل هذه المواضع وردت صفتها ليس فيها رفع . والله أعلم .
اعتراض :
قد يعترض المخالف بما ثبت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- قَالَ : (( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ ))(رواه البخاري رقم الحديث (984) ، ومسلم رقم الحديث (2113) ).
وجه الاستدلال : أن أنساً –رضي الله عنه- نفى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلا في الاستسقاء ، فدل هذا على أنه لا ترفع الأيدي في دعاء القنوت .
جوابه :
الجواب الأول : أن المُثْبِت مقدم على النافي لأن المثبت معه زيادة علم ، فأنس –رضي الله عنه- نفى الرفع إلا في الاستسقاء ، وغيره أثبت الرفع في غير الاستسقاء فيؤخذ بالمثبت .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/517) : ( قوله : إلا في الاستسقاء . ظاهره نفي الرفع في كلّ دعاء غير الاستسقاء ، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء وقد تقدم أنها كثيرة ، وقد أفردها المصنف بترجمة في كتاب الدعوات وساق فيها عدة أحاديث ، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى وحمل حديث أنس على نفي رؤيته ، وذلك لا يستلزم نفى رؤية غيره ) .
الجواب الثاني : أن أنساً –رضي الله عنه- نفى الرفع إلا في الاستسقاء ، ثم هو نفسه أثبت الرفع في دعاء قنوت النازلة كما سبق ، فيحتمل أن يكون النفي منه نفياً لرفع خاص وهو المبالغة في الرفع بحيث ترفع الأيدي باطنها إلى الأرض وظاهرها إلى السماء ، ولم يرد بنفيه نفي رفع الأيدي في الصلاة مطلقاً ، وبهذا تجتمع جميع الأدلة ولا تتعارض ، فلا يصلح الاستدلال به على نفي رفع الأيدي في دعاء القنوت .
ثم وجدت الإمام النووي –رحمه الله تعالى- ذكر ذلك فقال في شرح مسلم (6/190) : (هذا الحديث يوهم ظاهره أنه لم يرفع صلى الله عليه وسلم إلا في الاستسقاء وليس الأمر كذلك ، بل قد ثبت رفع يديه صلى الله عليه وسلم في الدعاء في مواطن غير الاستسقاء ، وهي أكثر من أن تحصر ، وقد جمعت منها نحوا من ثلاثين حديثا من الصحيحين أو أحدهما ، وذكرتها في أواخر باب صفة الصلاة من شرح المهذب ، ويتأول هذا الحديث على أنه لم يرفع الرفع البليغ بحيث يرى بياض إبطيه إلا في الاستسقاء) .
قال ابن رجب –رحمه الله تعالى- في فتح الباري (6/300) : (إن أنساً أراد أنه لم يرفع يديه هذا الرفع الشديد حتى يرى بياض إبطيه ، إلا في الاستسقاء . وقد خرّج الحديث مسلم ، ولفظه : كان النبي ( لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه) . ومع هذا ؛ فقد رآه غيره رفع يديه هذا الرفع في غير الاستسقاء – أيضاً ) .
الجواب الثالث : أن أنساً –رضي الله تعالى عنه- أراد بالنفي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه بالدعاء يوم الجمعة إلا في الاستسقاء ، فنفي أنس –رضي الله عنه- لرفع الأيدي بالدعاء في يوم الجمعة وليس للتعميم وبهذا تجتمع جميع الأدلة ولا تتعارض .
قال ابن خزيمة في صحيحه (3/147) مترجماً على حديث أنس –رضي الله عنه- : (باب صفة رفع اليدين في الاستسقاء في خطبة الجمعة . ثم قال بعد ذكر الحديث : في خبر شريك بن عبد الله عن أنس قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه قد أمليته قبل في خبر قتادة عن أنس لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء يريد إلا عند مسألة الله عز و جل أن يسقيهم و عند مسألته بحبس المطر عنهم ، و قد أوقع الثاني أن يحبس المطر عنهم ، والدليل على صحة ما تأولت أن أنس بن مالك قد خبر شريك بن عبد الله عنه أنه رفع يديه في الخطبة على المنبر يوم الجمعة حين سأل الله أن يغيثهم ، و كذلك رفع يديه حين قال : اللهم حوالينا ولا علينا فهذه اللفظة أيضا استسقاء إلا أنه سأل الله أن يحبس المطر عن المنازل و البيوت و تكون السقيا على الجبال و الآكام و الأودية ) .
والله أعلم .