الشيخ: قطرة العين تبحث من جهتين : الجهة الأولى : يقول الأطباء إن العين قناة إلى الحلق فإن العين لها قناة متصلة بالأنف ثم بالحلق ، ويقولون إن تجويف العين لا يمكن أن يتسع إلا لقطرة واحدة وهذه القطرة حجمها لا يعدوا ستة بالمائة من السنتيمتر المكعب الواحد ، ثم إن هذه القطرة سوف يمتص أكثرها فيما يسمى بالقناة الدمعية ، وما يصل إلى الحلق إن وصل فهو كمية ضئيلة جداً لا تزيد عما تسامح الشرع به في المضمضة. ينظر : مجلة الفقه الإسلامي (المفطرات في ضوء الطب الحديث) الجزء (10). الجهة الثانية : اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في تقطير الصائم في عينه هل ذلك يفسد الصوم ؟ والراجح أنه لا يفسد الصوم حتى لو وصل طعمه إلى الحلق ، وهو مذهب الحنفية ، والشافعية ، والظاهرية ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم . والدليل على ترجيح هذا المذهب ما يأتي : الدليل الأول : الأصل الجواز وعدم الفطر ، والصيام ثبت بيقين فلا يرفع إلا بيقين . الدليل الثاني : القياس على الكحل ، فعَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- قَالَتْ : ((اكْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ ))(رواه ابن ماجه رقم الحديث (1678) ، والطبراني في الصغير (1/246) رقم الحديث (401) ، وأبو يعلى في مسنده رقم الحديث (4792) . وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (1360) . وصحح سنده العيني في عمدة القاري (8/94). وينظر : التلخيص الحبير (2/782) ) . وصح عن أنس رضي الله عنه : (( أنه كان يكتحل وهو صائم))(رواه أبو داود رقم الأثر (2380) ، ابن أبي شيبة برقم (9272) . وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم الحديث (2057) غراس . والحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (2/782) ) . قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (2/782) : (وفي الباب عن بريرة مولاة عائشة في الطبراني الأوسط ، وعن ابن عباس في شعيب الإيمان للبيهقي بإسناد جيد) . الدليل الثالث : أن الغالب في قطرة العين عدم وصولها إلى الحلق ، وأن ما يصل إلى الحلق إن وصل قليل جداً لا يزيد على ما يعفى عنه مما يتبقى بعد المضمضة كما سبق في كلام الأطباء . الدليل الرابع : أن المغتسل وكذا المتوضيء يدخل إلى عينيه شيء من الماء ولا شك ، وهذا لا يعد مفطرا بالإجماع ، فكذلك قطرة العين ولا فرق . والله أعلم . ينظر : المبسوط (3/67) ، بدائع الصنائع (2/93) ، والفتاوى الهندية (1/203) ، وفتح القدير (2/345) ، والعناية شرح الهداية (2/330) ، وتبيين الحقائق (1/331) ، وحاشية ابن عابدين (2/395) ، والبحر الرائق (2/302) ولأم (7/153) ، والمجموع (6/387) ، وأسنى المطالب (1/416) ، ومغني المحتاج (2/156) ، ونهاية المحتاج (3/186) ، وحاشية الجمل (2/319) والمحلى (4/335) ومجموع الفتاوى (25/233) ، والفتاوى الكبرى (5/376) ، وحقيقة الصيام ص (37) وزاد المعاد (2/63).
الشيخ: اعلم –رحمني الله تعالى وإياك- أن هذه المسألة تبحث من جهتين: الجهة الأولى : اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- قديماً في تقطير الدواء أو الماء أو الدهن في أذن الصائم على مذهبين : المذهب الأول : أن التقطير في الأذن يفطر الصائم ، وهو مذهب الحنفية في تقطير الدهن والدواء في الأذن ، واختلفوا في تقطير الماء في الأذن ، فالاتفاق عند الحنفية على الفطر بصب الدهن ، وعلى عدمه بدخول الماء ، والاختلاف في التصحيح في إدخاله ، والمالكية إذا وصل إلى الحلق ، والشافعية في الأصح عندهم ، والحنابلة إذا وصل إلى الدماغ . تعليلهم أن الأذن منفذ من المنافذ التي يصل عن طريقها إلى المعدة ، وأنه يصل إلى الدماغ فيحصل به التغذية . المذهب الثاني : أن التقطير في الأذن لا يفطر الصائم ، وهو مذهب الحنفية في الماء على التفصيل السابق في المذهب الأول ، والشافعية في الوجه الآخر قاله أبو علي السنجي والقاضي حسين والفوراني وصححه الغزالي . وتعليلهم أنه لا منفذ بين الأذن والجوف ، والأصل عدم الفطر . الجهة الثانية : أثبت علماء التشريح بالاعتماد على المشاهدة والتجربة أن الأذن ليس بينها وبين الجوف ولا الدماغ قناة ينفذ منها المائعات إلا إذا كانت طبلة الأذن منخرمة ، فإنه من الممكن أن يضع الإنسان في أذنه شيئاً فيصل إلى حلقة لأنه توجد قناة تصل من الأذن إلى الحلق. وعليه فالراجح أن قطرة الأذن غير مفطرة إذا كانت طبلة الأذن غير منخرقة لأنه قد ثبت أنه لا يوجد منفذ من الأذن إلى الحلق ، وهو ما رجحه أصحاب المذهب الثاني ، وكذلك ينبغي أن يكون هذا القول للمذهب الأول لأن تعليله أن الأذن منفذ إلى الجوف والطب الحديث ينفي ذلك . أما إذا كانت طبلة الأذن منخرقة ووجد طعم الدواء في حلقه فإن الأطباء يقولون : إنه يوجد منفذ من الأذن إلى الحلق ، والبحث حينئذ كالبحث في قطرة الأنف وغيرها هل هذا الذي يصل إلى الحلق كثير يحصل به الفطر أو هو قليل معفو عنه ؟ والذي يظهر –والله أعلم- أن عليه أن يمج ما في فمه وحلقه ، ولا يعود إلى استخدام قطرة الأذن في نهار رمضان ، إلا في حالة الاضطرار إليها ، وعليه أن يتأكد من سلامة طبلة الأذن لديه . والله أعلم. وقد ذهب مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورته العاشرة عام 1418هـ إلى أن قطرة الأذن لا تفطر إذا كانت الأذن سليمة بعكس منزوعة الطبلة . ينظر : مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص (368) ، والدر المختار ورد المحتار عليه (2/98) ، وتبيين الحقائق (1/329) ، والهداية وشروحها (2/266 و 267) ، وبدائع الصنائع (2/93) ، والبحر الرائق (2/299) ، والفتاوى الهندية (1/204) وجواهر الإكليل (1/149) ، والقوانين الفقهية ص (80) ، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه (1/524) ، والمدونة (1/269) ، ومواهب الجليل (2/425) والمجموع (6/320) ، وشرح المحلي على المنهاج (2/56) ، ومغني المحتاج (2/156) ، ونهاية المحتاج (3/167) ،وحاشيتا قليوبي وعميرة (2/71) ، والوجيز (1/101) وكشاف القناع (2/318) ، والفروع (3/46) ، وشرح المنتهى (1/481) والمجموع (6/315) ، وشرح الرافعي (6/367 – 369) والمفطرات في مجال التداوي ، للدكتور البار ، ص (14) ، (36) ، (43) ، ومجلة المجمع عدد (10) ، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (1/152) .
الشيخ: اعلم : أولا : لا شك أن الأنف منفذ إلى الحلق ثم إلى المعدة ، وقد دل على ذلك السنة ، والواقع ، والطب . أما السنة فعَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عله وسلم : (( بَالِغْ فِي الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا ))(رواه أبو داود رقم الحديث (2368) . ينظر : صحيح أبي داود رقم (2048) غراس ) . وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمبالغة في الاستنشاق لغير الصائم لأن المبالغة تؤدى إلى دخول الماء إلى الحلق ثم إلى الجوف ، والصائم ممنوع من ذلك . وأما الواقع فإن الإنسان إذا أدخل شيئاً في أنفه يجده في حلقه ، كذلك إذا شَرِق بالماء فإنه يخرج بعض الأحيان من أنفه . الطب الحديث أثبت أن الأنف متصل بالحلق ، من خلال التشريح وغيره ، وفي الطب يكون غسيل المعدة وأحيانا التغذية لبعض المرضى وأمور كثيرة عن طريق الأنف فهو منفذ إلى المعدة . ثانياً : ألحق بعض العلماء قطرة الأنف لعلاج الجيوب الأنفية مثلا بمسألة السَّعُوط للصائم ، (وهو ما يجعل في الأنف مما يتداوى به ، وطريقة استخدامه هو أن يستلقي على ظهره ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس) . ينظر : فتح الباري (10/147) . وقد اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في الفطر بالسَّعوط ، ذهب جمهور العلماء إلى أنه مفطر إذا وصل إلى الدماغ( ينظر : المجموع (6/346) ، والموسوعة الفقهية (28/35) ) أما إذا لم يصل إلى الدماغ لم يضر ، بأن لم يجاوز الخيشوم( وهذا لأنهم كانوا –رحمهم الله تعالى- يظنُّون أن السَّعوط يصل إلى الدماغ فقالوا : إن ما يصل إلى الدماغ يفطِّر لأجل ذلك ، وأنه وصل بذلك إلى الجوف ، والواقع أن الأمر ليس كذلك ، فإن الطب قد أثبت كما سبق أن الأنف مجراه إلى الرئتين أو المعدة مرورا بالحلق وليس إلى الدماغ ) ، وذهب آخرون إلى أنه يفطر إذا وصل إلى الحلق( ينظر : المجموع (6/346) ، وصحيح البخاري (7/236) . قال الحافظ ابن حجر في الفتح (4/160) : ( وقال الحسن : لا بأس بالسعوط للصائم أن لم يصل الماء إلى حلقه . وصله بن أبي شيبة نحوه ، وقال الكوفيون والأوزاعي وإسحاق : يجب القضاء على من استعط . وقال مالك والشافعي : لا يجب إلا أن وصل الماء إلى حلقه ) ) ، وبحثهم هذا مبني على حديث لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ –رضي الله عنه- المتقدم . والراجح –والله أعلم- في مسألة قطرة الأنف أن فيها تفصيلا وهو : إن كان الدواء موضعياً لا يتجاوز الأنف ولا يصل إلى الحلق فإنه لا يفسد الصوم لأنه لا موجب للقول ببطلان الصوم . أما إذا وصل إلى الحلق فله حالتان : الحال الأولى : إذا وصل إلى الحلق ثم إلى المعدة كمية كثيرة بحيث تزيد على ما يعفى عنه في المضمضة فإنه يحصل به الفطر الحال الثانية : إذا وصل إلى الحلق ثم إلى المعدة قدر يسير جداً مثل ما يتسامح فيه مما يبقى بعد المضمضة فإنه حينئذ لا يحصل الفطرُ . ولهذا لا شك أن ترك قطرة الأنف إلى الليل هو الأحوط والأولى لأنه لا يستطيع أن يضبط كمية هذا الدواء ، وكذلك لا يستطيع أن يتحكم بوصوله إلى حلقه من عدمه ، فلا ينبغي استخدام قطرة الأنف إلا بالليل حتى لا يعرض المسلم صيامه للبطلان ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ ))( رواه الترمذي رقم الحديث (2708) ، والنسائي رقم (5729) . ينظر : إرواء الغليل رقم الحديث (21) وقال : صحيح ) ، إلا إذا اضطر إلى استخدامها فقد عرفت التفصيل فيها . والله أعلم . وقد ذهب مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورته العاشرة عام 1418هـ إلى أن قطرة الأنف لا تفطر إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق كما في مجلة المجمع عدد (10) ، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (1/152) .
السائل: هل حبة علاج الأزمات القلبية التي توضع تحت اللسان تفطر الصائم ؟
الشيخ: يستخدم بعض مرضى القلب علاج يسمى (النيتروغلسيرين) وهو عبارة عن حبة توضع تحت اللسان فيمتصها بطريقة مباشر ، ويحملها الدّم إلى القلب فتوقف أزماته المفاجئة ، وسألت بعض الأطباء عنها فأفادني أن هذا النوع من الدواء لا يدخل إلى المعدة ، لسرعة امتصاصه ، وعليه فإن الصائم لو احتاج إلى استخدامها فلا شيء عليه ، ولكن عليه أن يمج ما يجده من الطعم في فمه ولا يجعله يدخل إلى جوفه ، وإلى هذا ذهب المجمع الفقهي . والله أعلم . ينظر : مجلة المجمع عدد (10) ، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (1/152) .
الشيخ: قبل بيان حكم بخاخ الربو هل هو مفطر أو غير مفطر ؟ لا بدّ من معرفة ما يتركب منه هذا البخاخ ، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فأقول وبالله التوفيق : ذكر الأطباء(كما في مجلة المجمع ع 10 ج2 ص 287 ، وأثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي ص (269) ) : أن بخاخ الربو يحتوي على (مستحضرات طبية وماء وأكسجين) ، ويتم استعماله بأخذ شهيق عميق ، ويضغط عليه في الوقت ذاته ، وعندئذ يتطاير الرذاذ ويدخل عن طريق الفم إلى البلعوم الفمي ، ومنه إلى الرغامي فالقصبات الهوائية ، ولكن يبقى جزء منه في البلعوم الفمي ، وقد تدخل كمية ضئيلة جدًّا إلى المريء ، وتحتوي عبوة بخاخ الربو على حوالي (10) ميلي ليتر من السائل بما فيه من المادة الدوائية ، وهذه الكمية مصممة على أن تنطلق على (200) بخة (أي أن الـ10 ميلي ليتر تنتج 200 بخة) ، وهذا معناه أنه في كلّ بخة يخرج جزء من 25 جزء من الميلي ليتر الواحد ، وبمعنى آخر فإن البخة الواحدة تشكل أقل من قطرة واحدة ، وهذه القطرة الواحدة ستقسم إلى أجزاء يدخل الجزء الأكبر منه إلى جهاز التنفس ، وجزء آخر يترسب على جدار البلعوم الفمي ، والمتبقي من تلك القطرة قد يصل إلى الجوف (الجهاز الهضمي) وهي قليلة جداً جداً ، وقد يكون ما يدخل من قطرات عقب الاستنشاق أو المضمضة أكثر من ذلك بكثير ، فلو تمضمض المرء بماء موسوم بمادة مشعة ، لاكتشفنا المادة المشعة في المعدة بعد قليل ، مما يؤكد وجود قدر يسير معفو عنه ، وهو يسير يزيد -يقيناً- عما يمكن أن يتسرب إلى المريء من بخاخ الربو إن تسرب . اختلف العلماء المعاصرون في حكم بخاخ الربو وأثر تفطيره على الصائم ، على قولين ، والراجح –والله أعلم- أن بخاخ الربو غير مفطر ، وهو مذهب جماعة من أهل العلم . ينظر : فتاوى الشيخ ابن باز (15/265) ، وفتاوى الشيخ ابن عثيمين (19/209) ، فتاوى الصيام للشيخ ابن جبرين ص (49) ، والشيخ الدكتور الصديق الضرير ، ود. محمد الخياط كما في مجلة المجمع ع 10 ج2 ص(287) ، واللجنة الدائمة فتاوى إسلامية (2/131) ، وأثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي ص (269). والدليل على أنه غير مفطر ما يأتي : الدليل الأول : القياس ، قياس الداخل اليسير جدا منه إلى المعدة على المضمضة والاستنشاق في عدم الفطر ، توضيحه أن الداخل من بخاخ الربو إلى الجوف (المعدة) قليل جداً ، بل في بعض الأحيان لا يدخل منه شيء ، وإنما يذهب إلى الرئتين ، كما سبق في كلام الأطباء ، وعليه فإن القياس الصحيح يقتضي أن هذا الشيء اليسير الذي لا يرى بالعين فهو معفو عنه كالماء المتبقي من المضمضة . اعترض على هذا الاستدلال بما يأتي : الاعتراض الأول : هذا قياس مع الفارق ؛ لأن المحل الذي يقصد به الجناية على الصوم إنما هو الحلق ، وهو ليس مقصود المضمضة ، بل مقصودها هو الفم ، بخلافه في بخاخ الربو فإن الجوف مقصود له . جوابه : أن القياس صحيح ، لأن أركانه صحيحة تامة ، فالأصل عندنا المضمضة للصائم ، والفرع بخاخ الربو للصائم ، العلة الجامعة بينهما أن كلا منهما يدخل منه اليسير جداً غير المقصود إلى الجوف (المعدة) ، فالحكم كما أنه عفي عن يسير المضمضة الداخلة إلى الجوف للصائم فكذلك بخاخ الربو ولا فرق . وقولكم : لأن المحل الذي يقصد به الجناية على الصوم إنما هو الحلق . غير صحيح لأن الجناية هي أن يقصد المعدة بما هو مفطر ، بدليل أنه لو أدخل الطبيب أصبعه أو المنظار الذي يمر بالحلق فإنه لا يفطر على الراجح كما مر معنا . وقولكم : وهو ليس مقصود المضمضة ، بل مقصودها هو الفم ، بخلافه في بخاخ الربو فإن الجوف مقصود له . غير صحيح لأن البخاخ ليس مقصوده الجوف (المعدة) وإنما مقصوده الرئتين كما هو معلوم ، وهذا ظاهر بيّن . الاعتراض الثاني : وكذلك فإن في الاحتراز عن أثر المضمضة نوع تعذر ومشقة مع كونها مطلوبًا للشارع في الطهارة ، والمشقة تجلب التيسير . جوابه : نقول : وكذلك الاحتراز عن أثر البخاخ اليسير جدا غير المقصود فيه مشقة ، والمشقة تجلب التيسير . فإن قيل : المضمضة مطلوبة شرعاً لا يتم الوضوء إلا بها بخلاف البخاخ . قلنا : يلزم من قولكم هذا تحريم المضمضة على الصائم إذا لم تكن للوضوء ، وهذا لا تقولون به ، بل يلزمكم أن تحرموا الوضوء المستحب وتجيزوا الوضوء الواجب فقط ، وهذا لا يقول به أحد ، وهو مخالف للنصوص ، فجواز المضمضة من غير وضوء ، وكذلك الوضوء المستحب فيه دلالة ظاهرة على أن اليسير الذي يدخل إلى الجوف من غير قصد معفو عنه . الدليل الثاني : القياس ، قياس البخاخ على السواك في أنه يعفى عن اليسير الذي يدخل إلى الجوف (المعدة) ، فالمواد التي تدخل إلى المعدة من استعمال السواك أكثر من البخاخ ، فقد ذكر الأطباء(ينظر : مجلة المجمع ع 10 ج2 ص(259) ) أن السواك يحتوي على ثمانية مواد كيميائية ، تقي الأسنان ، واللثة من الأمراض ، وهي تنحل باللعاب وتدخل البلعوم ، وكلّها تدخل إلى الجوف ، والسواك كما سيأتي يجوز استخدامه لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم . الدليل الثالث : اليقين لا يزول بالشك ، فدخول شيء إلى المعدة من بخاخ الربو أمر ليس قطعياً ، بل مشكوك فيه ، أي قد يدخل وقد لا يدخل ، والأصل صحة الصيام وعدم فساده . الدليل الرابع : أن بخاخ الربو يدخل مع مدخل النفس ، لا مدخل الطعام والشراب ، والمفطر هو ما دخل إلى مدخل الطعام والشراب . اعترض على هذا الاستدلال : أن هذا الفرق بين المدخلين غير مؤثر ؛ فالعبرة بالوصول إلى ما يسمى جوفًا دون التفات إلى المدخل . جوابه : أن هذا الفرق بين المدخلين مؤثر ، فالشارع علق حكم الفطر بالأكل والشرب وهذا لا يكون إلا من مدخله ، أو المدخل الموصل إليه ، فلا يجوز أن نلحق به كلّ مخرج ومدخل ، بل يلحق به ما كان في حكمه ، ومخرج التنفس (الرئتين) ليس مدخلا للأكل والشرب فلا يأخذ حكمه ، وسبق وبينا أن الجوف هو (المعدة) وليس كلّ جوف يكون مفطراً ، ولهذا بينا أن الجائفة والمهبل وغيرهما لو دخل فيهما الدواء فإنه لا يكون مفطرا . تنبيه : بخاخ الربو غير جهاز الرذاذ البخاري فإن مما شك فيه أن أجهزة الرذاذ البخارية التي توضع فيها بعض الأدوية لتوسيع الشعب الهوائية من جملة المفطرات لأن المريض المستخدم لهذا الجهاز يستنشق كمية كبيرة من بخار الماء مع المحلول المائي الذي يصل منه كمية كبير إلى المعدة ، وهو أيضاً ليس مما تعم به البلوى فهو يعطى عادة للصغار ، والكبار لا يستخدمونه عادة إلا في الحالات النادرة الحادة التي لا تنفع معها البخاخات المضغوطة ، وعليه لو اضطر لاستعمالها فإن عليه أن يقضي هذا اليوم . والله أعلم
الشيخ: البخور من جملة المفطرات إذا استنشقه الصائم ووصل الدخان إلى حلقه وجوفه لأنّ له جرماً ، أما إذا شم رائحة البخور ونحوه من غير أن يصل دخانه إلى الحلق فلا يفطر ، وهو مذهب أكثر الفقهاء . قال الشرنبلالي كما في حاشية ابن عابدين (3/327) ، والموسوعة الفقهية (28/36) : ( وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس ، ولا يتوهم أنه كشم الورد وماء المسك ، لوضوح الفرق بين هواء تطيب بريح المسك وشبهه وبين جوهر دخان وصل إلى جوفه بفعله ) . وأعظم منه الدخان المحرم فلا شك في أنه من المفطرات باتفاق الفقهاء . قال في الموسوعة الفقهية(10/111) ) : اتفق الفقهاء على أن شرب الدخان المعروف أثناء الصوم يفسد الصيام لأنه من المفطرات ) . وجاء في كتب الشافعية : (وفي البيجرمي : وأما الدُّخَانُ الْحَادِثُ الْآنَ الْمُسَمَّى بِالنَّتِنِ لَعَنَ اللهُ مِنْ أَحْدَثَهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ ، فَقَدْ أَفْتَى شَيْخُنَا الزِّيَادِيُّ أَوَّلًا بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ ، فَلَمَّا رَأَى أَثَرَهُ بِالْبُوصَةِ الَّتِي يَشْرَبُ بِهَا رَجَعَ وَأَفْتَى بِأَنَّهُ يُفْطِرُ ) . ينظر : إعانة الطالبين (2/230) ، وحاشية البجيرمي على الخطيب (6/440) ، وتحفة الحبيب على شرح الخطيب (3/110) . وجاء في مجلة مجمع الفقه الإسلامي (10/614) : (الدخان :الدخان هو تحول كيميائي يحصل في المادة عند الاحتراق ، يدخل الدخان من الفم وينفذ إلى ما وراء الحلقوم ، وكما يقول الدكتور محمد علي البار ، وهو يتحدث عن دخان السجائر أو الشيشة : (إنه يمر من الفم والبلعوم الفمي ، ثم ينزل جزء منه إلى البلعوم الحنجري ، ومنه إلى الرغامي فالرئتين وينزل الجزء الآخر إلى المريء فالمعدة ) . ولا شك أن الدخان يحتوي على مواد عالقة تختزن في الممرات التي تعبرها وتحدث تأثيرها ) والله أعلم . ينظر : الموسوعة الفقهية (28/35) ، وحاشية ابن عابدين (3/327) ، والتاج والإكليل (2/425) ، ومواهب الجليل (3/348) ، والذخيرة (2/506) ، والشرح الكبير للدردير (1/385) ، وبلغة السالك (1/452) ، وحاشية الدسوقي (1/818) ، وحواشي الشرواني والعبادي (3/440) ، وحاشية إعانة الطالبين (2/260) ، وكشاف القناع (2/320)
الشيخ: إذا أكل الصائم أو شرب ناسياً فإن صومه صحيح ولا شيء عليه ، وهو مذهب جماهير أهل العلم .ينظر : المغني (4/364و367) ، والمجموع (6/352) ، والموسوعة الفقهية (28/57و62) قال ابن بطال في شرح البخاري (4/60) : (قال ابن المنذر : اختلف العلماء في الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا ، فقالت طائفة : فلا شيء عليه ، روينا هذا القول عن علي ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وعطاء ، وطاوس ، والنخعي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق ) . والدليل على ذلك ما يأتي : الدليل الأول : قوله تعالى : ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ سورة البقرة : 286 . وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- قَالَ : (( فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ ))(رواه مسلم رقم الحديث (345) ) . وجه الاستدلال : أن الله تعالى بين أن الناسي غير مكلف ، وأنه غير مؤاخذ على فعله ، فعليه إذا أكل الصائم أو شرب وهو ناسي فهو غير مكلف وغير مؤاخذ فلا قضاء عليه ، لأن من أوجب عليه القضاء جعله مؤاخذ ، وهذا يخالف صريح هذه الآية . الدليل الثاني : عَنْ ابن عباس – رضي الله عنهما – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ))(رواه ابن ماجه رقم الحديث (2045) ، وابن حبان في صحيحه رقم الحديث (7219) واللفظ له . وإسناد صحيح . ينظر : إرواء الغليل رقم (82) ). وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله تعالى تجاوز عن النسيان ، والمجاوزة عدم المؤاخذ وعدم التكليف ، وعدم التكليف دليل على من أكل أو شرب وهو ناسي أنه غير مطالب بالقضاء فيما فعله وهو ناسي . الدليل الثالث : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ((إِذَا نَسِىَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ))( رواه البخاري رقم الحديث (1831) ، ومسلم رقم الحديث (1155) ). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ((إِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِيًا أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ ))( رواه الدارقطني في سننه رقم الحديث (2265) ، وقال : إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ . وينظر : إرواء الغليل (4/86) ) . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلاَ كَفَّارَةَ ))(رواه الدارقطني في سننه رقم الحديث (2266) ، وقال : (تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنِ الأَنْصَارِيِّ) ، والبيهقي في سننه الكبرى رقم الحديث (8330) ، وقال : (تَفَرَّدَ بِهِ الأَنْصَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ) . وحسن إسناده الشيخ الألباني في إرواء الغليل (4/87) ) . وهذه الأحاديث نص في محل الخلاف . الدليل الرابع : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ ؟ فَقَالَ : أَطْعَمَكَ اللهُ وَسَقَاكَ ))( رواه أبو داود رقم الحديث (2400) ، وابن حبان في صحيحه رقم الحديث (3522) . إسناده صحيح . وينظر : إرواء الغليل (4/86) ) . وجه الاستدلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بالقضاء ومعلوم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، والحاجة هنا قائمة ، فلو كان القضاء واجباً لأمره به النبي صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .
الشيخ: قد ورد فيه حديث أَبُي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ – رضي الله عنه- قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (( بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلاَنِ ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ ، فَأَتَيَا بِي جَبَلاً وَعْرًا فَقَالاَ ليَ : اصْعَدْ ، فَقُلْتُ : إِنِّي لاَ أُطِيقُهُ ، فَقَالاَ : إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا أَنَا بَأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ فَقُلْتُ : مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟ قَالُوا : هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ مُشَقَّقَةٌ أَشْدَاقُهُمْ تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاَءِ ؟ قَالَ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ))( رواه ابن خزيمة في صحيحه رقم الحديث (1986) ، وابن حبان في صحيحه رقم الحديث (7491) ، والحاكم في المستدرك رقم الحديث (1568) . وينظر : صحيح الترغيب رقم (1005) ، والسلسلة الصحيحة رقم الحديث (3951) ) . غريب الحديث : بِضَبْعَيَّ أي عضدي . بِعَرَاقِيبِهِمْ العرقوب هو العَصَب الذي فوق مؤخرة قدم الإنسان . َشْدَاقُهُمْ هو جانب الفم . وقوله : ((قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ)) أي : يفطرون قبل وقت الإفطار فهذه عقوبة من يفطر متعمدا قبل دخول وقت الإفطار أنه يعلق بعرقوبه ، منكس الرأس ، أشداقه مشققة تسيل دما ، فكيف بمن لا يصوم أصلا ، نسأل السلامة والعفو والعافية . قال الإمام الذهبي في الكبائر ص (64) : (وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا غرض (أي بلا عذر يبيح ذلك ) أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر ، بل يشكون في إسلامه ، ويظنون به الزندقة والانحلال) .
السائل: هل يجوزالفطر للحامل والمرضع ، وهل عليهما القضاء أو الاطعام؟
الشيخ: الحامل و المرضع إذا خافتا على نفسيهما ، أو ولديهما( ويعرف ذلك بإخبار الطبيب المسلم الثقة ، أو هي شعرت بعد أن شرعت في الصوم بالمشقة الشديدة والإعياء ، أو أنّه يغلب على ظنها أنّ الرضيع يتضرر بصيامها ، ونحو ذلك ، وليس مجرد شكوك ، ولتتق الله في ذلك ) فلهما الفطر ، ودليل ذلك ما يأتي: الدليل الأول : الإجماع ، فقد أجمع العلماء على أن الحامل والمرضع لهما أن تفطرا في رمضان ، بشرط أن تخافا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته ، أو الضرر أو الهلاك ، فالولد من الحامل بمنزلة عضو منها ، فالإشفاق عليه من ذلك كالإشفاق منه على بعض أعضائها. ينظر الاجماع في المغني (4/393) ، والمجموع (6/272) ، والموسوعة الفقهية (28/54) ، وموسوعة الإجماع (2/745) الدليل الثاني : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ إِخْوَةِ بَنِي قُشَيْرٍ قَالَ : (( أَغَارَتْ عَلَيْنَا خَيْلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَانْتَهَيْتُ أَوْ قَالَ : فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَأْكُلُ فَقَالَ : اجْلِسْ فَأَصِبْ مِنْ طَعَامِنَا هَذَا . فَقُلْتُ : إِنِّي صَائِمٌ . قَالَ : اجْلِسْ أُحَدِّثْكَ عَنِ الصَّلاَةِ وَعَنِ الصِّيَامِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاَةِ أَوْ نِصْفَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمَ عَنِ الْمُسَافِرِ وَعَنِ الْمُرْضِعِ أَوِ الْحُبْلَى))(رواه أبو داود رقم الحديث (2410) . ينظر : صحيح أبي داود رقم الحديث (2107) وهو حسن صحيح ، وصحيح النسائي رقم الحديث (2181) ). وأما شق السؤال الثاني هل عليهما الإطعام أو القضاء ؟ اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في هذه المسألة إلى ستة مذاهب ، والراجح منها أن عليهما أن يطعمان عن كلّ يوم مسكيناً ، ولا قضاء عليهما ، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما- وسعيد بن جبير ، والقاسم بن محمد . وذهب إسحاق ابن راهويه إلى التخيير ، فإن شاءت الحامل والمرضع أن تطعما ، ولا قضاء عليهما ، وإن شاءتا قضتا ، ولا إطعام عليهما ، وهو قول حسن تدل عليه الأدلة الآتية أيضاً ، لأن نفي القضاء في الآثار الآتية هو نفي لوجوبه . والله أعلم . ورجحت هذا المذهب للأدلة الآتية : الدليل الأول : عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : (( إذا خافت الحامل على نفسها ، والمرضع على ولدها في رمضان يفطران ويطعمان مكان كلّ يوم مسكيناً ، ولا يقضيان صوماً))(ينظر: إرواء الغليل (4/19) وقال : إسناده صحيح على شرط مسلم ) . وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه رأى أمَّ ولد له حبلى أو ترضع فقال : (( أنت من الذين لا يطيقون ، عليك الجزاء وليس عليك القضاء))(رواه الدارقطني (2/207) وقال : إسناده صحيح . ينظر: إرواء الغليل (4/19) ) . الدليل الثاني : وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال : (( الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي))( رواه الدارقطني (2/207) وصححه . ينظر : الإرواء (4/20)) . وعن مالك عن نافع : (( أن ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها ؟ فقال : تفطر وتطعم مكان كلّ يوم مسكيناً مُدّاً من حنطة ))(رواه مالك في الموطأ برقم (678) ، والبيهقي في السنن رقم الحديث (7868) . ينظر: إرواء الغليل (4/22) ) . وعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- : (( أنّ امرأته سألته وهي حبلى ، فقال : أفطري وأطعمي عن كلّ يوم مسكيناً ، ولا تقضي))( رواه الدارقطني (2/207) . ينظر: إرواء الغليل (4/20) وقال : إسناده جيد ) . عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- : (( كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش ، وكانت حاملاً فأصابها عطش في رمضان فأمرها ابن عمر أن تفطر ، وتطعم عن كلّ يوم مسكيناً ))( رواه الدارقطني (2/207) . ينظر: إرواء الغليل (4/20) وقال : إسناده صحيح) . فابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من فقهاء الصحابة ، كانا يفتيان بذلك ، ولا أعلم أنه صح عن الصحابة –رضي الله عنهما- ما يخالف قوليهما ، فكان حجة . والله أعلم. أما من قال بوجوب القضاء والفدية معا، فقوله مردود من وجوه : الوجه الأول : أن وجوب الأمرين معا يحتاج إلى دليل من الشرع ، ولا دليل على ذلك فكان مردوداً . قال أبو عبد الله المروزي : ( لا نعلم أحدا صح عنه أنه جمع عليهما الأمرين القضاء والإطعام إلا مجاهدا ، قال : وروي ذلك عن عطاء وعن ابن عمر أيضا ، ولا يصح عنهما ، والصحيح عن ابن عمر فيها الإطعام ولا قضاء )( ينظر : الاستذكار (10/223) ، والمبسوط (3/99)) . الوجه الثاني : أنه غير جائز إيجاب الأمرين القضاء والفدية معاً عليهما ، لأن القضاء إذا وجب فقد قام مقام المتروك –وهو الصوم- فلا يكون الإطعام فدية ، وإن كان فدية صحيحة فلا قضاء ، لأن الفدية أجزأت عنه وقامت مقامه . الوجه الثالث : أن الفدية مشروعة بدلا من الصوم ، والجمع بين البدل والأصل لا يجوز ، وهو بدل غير معقول المعنى . وأما من قال بوجوب القضاءفقط ، استدلوا بحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ المتقدم قَالَ : (( أَغَارَتْ عَلَيْنَا خَيْلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَانْتَهَيْتُ أَوْ قَالَ : فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَأْكُلُ فَقَالَ : اجْلِسْ فَأَصِبْ مِنْ طَعَامِنَا هَذَا . فَقُلْتُ : إِنِّي صَائِمٌ . قَالَ : اجْلِسْ أُحَدِّثْكَ عَنِ الصَّلاَةِ وَعَنِ الصِّيَامِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاَةِ أَوْ نِصْفَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمَ عَنِ الْمُسَافِرِ وَعَنِ الْمُرْضِعِ أَوِ الْحُبْلَى)قالوا : قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحامل والمرضع بالمسافر ، وجعلهما معًا في معنى واحد ، فصار حكمهما كحكمه ، وليس على المسافر إلا القضاء لا يعدوه إلى غيره . أقول وهذا الاستدلال مردود من وجوه : الوجه الأول : أن الحديث لم يتعرض للفدية ولا للقضاء ، فكان القضاء والفدية موقوفين على دليل خارجي ، فلا حجة فيه على وجوب القضاء . فإن قيل : إن الحديث لم يتعرض للفدية والقضاء ، ولكنه ذكر الصوم وإسقاطه عن المسافر والحامل والمريض ، وساوى بينهما ، ومعلوم أن المسافر يقضي الصوم فلزم الحامل والمرضع قضاؤه . قلت : استدلالكم على القضاء إنما هو من باب قرن الحامل والمرضع مع المسافر ودلالة الاقتران فيها خلاف بل هي من أضعف الدلالات عند أكثر الأصوليين ، والصحيح أن فيها تفصيل ، والاستدلال بها هنا ضعيف جداً . وأيضاً يلزم من قولكم بأن الحامل والمرضع يجب عليهما القضاء لأجل اقترانهما بالمسافر الذي يجب عليه القضاء ، فكذلك يجب على المسافر الذي سقطت عنه شطر الصلاة أن يقضي الشطر الآخر لاقتران الصلاة بالصوم الذي يجب قضاؤه ، وهذا ظاهر البطلان . الوجه الثاني : أن كلمة وضع يعني اسقط نصف الصلاة عن المسافر ولم يذكر القضاء ، واسقط الصوم عن المسافر والحامل والمرضع ولم يذكر القضاء ، فلا يجب القضاء إلا بدليل ، وجاءت الأدلة بوجوب القضاء على المسافر ، والإطعام للحامل والمرض فوجب أن نصير إليها . قال السندي في حاشيته (3/438) : ( وَالْحَامِل وَالْمُرْضِع : أَيْ إِذَا خَافَتَا عَلَى الْحَمْل وَالرَّضِيع أَوْ عَلَى أَنْفُسهمَا ، ثُمَّ هَلْ هُوَ وَضْع إِلَى قَضَاء أَوْ لَا ، وَهَذَا الْحَدِيث سَاكِت عَنْهُ فَكُلّ مَنْ يَقُول بِقَضَائِهِ لَا بُدّ لَهُ مِنْ دَلِيل ) . الوجه الثالث : أن فهمكم هذا مخالف لما كان عليه الصحابة كابن عباس وابن عمر –رضي الله عنهم- فلا عبرة به . والله أعلم تنظر المذاهب : فتح القدير مع الهداية (2/355) ، وبدائع الصنائع (2/97) ، بداية المجتهد (3/191) ، والاستذكار (10/221) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/288) ، والمجموع (6/274) ، ومغني المحتاج (2/174) ، والحاوي (3/436) ، والمغني (4/393) ، وكشاف القناع (2/313) ، والمحلى لابن حزم (4/410) ، وشرح السنة للبغوي (6/316)
السائل: هل يجب على الحائض والنفساء إذا طهرت في نهار رمضان الإمساك بقية النهار ؟
الشيخ: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين ، والراجح أنه لا يجب عليها الإمساك بقية يومها . وهو مذهب المالكية ، والشافعية ، ورواية في مذهب الحنابلة . والدليل على ذلك ما يأتي : الدليل الأول : عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : ((من أكل أول النهار فليأكل آخره ))( رواه ابن أبي شيبة في المصنف رقم الأثر (9343) بإسناد صحيح . ينظر : ما صح من آثار الصحابة (2/640) ) . وجه الدلالة : أن ابن مسعود – رضي الله عنه – لا يرى فرقاً بين من جاز له أن يأكل في أول النهار في وقت الصيام أن يأكل في آخره أو وسطه ولا يوجد ما يمنع من ذلك ، وهذا قول صحابي وهو حجة على الراجح من أقوال أهل العلم . الدليل الثاني : الأصل الجواز ولا يصار إلى المنع إلا بدليل ، فإذا طهرت الحائض في نصف النهار لا يجوز لها صيام بقية اليوم شرعاً ، فكيف نوجب عليها الإمساك بقيته ، ونحرم عليها ما أحل الله تعالى لها بغير دليل؟! . الدليل الثالث : إن صوم اليوم الواحد عبادة واحدة ، بدليل أن أوله يفسد بفساد آخره ، فلا يجوز أن يكون آخر العبادة واجبا ً ، وأولها غير واجب ، وعليه فلا يصح أن نوجب عليها الصيام إذا طهرت في النهار . الدليل الرابع : أن الحائض التي طهرت في نصف النهار مثلا فإنه يجب عليها قضاء هذا اليوم لأنها لم تصمه ، ولا معنى لإمساكها بقية اليوم لأنه غير مجزئ عنها ، ولا هي عاصية بتركة ، فلا يصح القول بوجوب الإمساك بقية اليوم . والله أعلم ينظر : حاشية الدسوقي (1/514) ، والشرح الصغير (1/689) والمجموع (6/256) والمغني (4/388) ، والمبدع (3/13) .