وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
سؤالك أخي حفظك الله تعالى ذو شقين :
الأول : حكم مس المرأة الأجنبية أو مصافحتها وأظن الحكم ظاهر لديك أنه للتحريم إلا للضرورة ولهذا انت قلت تلامس يدي يدها من غير قصد وقد أجب على هذا في هذا الموقع وسؤالك هو عن الشق الثاني .
الثاني : هو نقض الوضوءبمس المرأة اختلف العلماء في مس المرأة بدون حائل فذهب الحنفية إلى أنه لا ينقض الوضوء مطلقاً وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذهب المالكية والمشهور عند الحنابلة إلى أنه ينقض الوضوء إذا كان لشهوة ، وذهب الشافعيةإلى أنه ينقض الوضوء مطلقاً ، وهو رواية عن الإمام أحمد .
والراجح أنه لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أو غير شهوة إلا إذا خرج منه شيء ، ورجحت هذا المذهب للأدلة الآتية :
الدليل الأول : الأصل عدم النقض ، ولا يوجد دليل صريح صحيح في نقض الوضوء من مس المرأة ، والأدلة الواردة إما أدلة غير صريحة في الاستدلال أو غير صحيحة .
الدليل الثاني : عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا قَالَتْ : ((كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي ، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا . قَالَتْ : وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ ))(رواه البخاري رقم الحديث (382) ، ومسلم رقم الحديث (1173) ) .
وجه الاستدلال : أن مس المرأة لو كان ينقض الوضوء ما مس النبي ﷺ عائشة –رضي الله عنها- وهو في الصلاة ، فدل هذا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء .
فإن قيل : لعل الغمز من النبي ﷺ كان مع وجود حائل .
قلنا : الأصل عدمه ، خاصة أنها نائمة ، فاحتمال أن يمس شيئاً من جسدها من غير حائل احتمال كبير ، وليس في الحديث أن الغمز كان مع حائل حتى يقال به .
الدليل الثالث : عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- : ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . قُلْتُ : مَا هِيَ إِلَّا أَنْتِ فَضَحِكَتْ ))( رواه ابن ماجه رقم الحديث (495) ، والترمذي رقم الحديث (79) ، وأحمد في المسند رقم (25766) . قال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (1/317) : (حديث صحيح، وعروة: هو ابن الزبير، وقد صححه ابن التركماني والزيلعي وقال : وقد مال ابن عبد البر إلى تصحيح هذا الحديث ، فقال: صححه الكوفيون وثبتوه لرواية الثقات من أئمة الحديث له ) ، وينظر : صحيح ابن ماجه رقم (406) ) .
وعَنْ زَيْنَبَ السَّهْمِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- : ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُقَبِّلُ وَيُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ وَرُبَّمَا فَعَلَهُ بِي))(رواه ابن ماجه رقم الحديث (496) ، وأحمد في المسند رقم (24329) . وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (1/316) ) .
وجه الاستدلال : أن النبي ﷺ قبل عائشة –رضي الله عنها- ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ ، والتقبيل مس وزيادة ، ولا يكون غالبا للزوجة إلا مع شهوة ، فدل هذا على أن مس المرأة بشهوة لا ينقض الوضوء .
الدليل الرابع : عَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- قَالَتْ : (( فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ))(رواه مسلم رقم الحديث (1118) .
وجه الاستدلال : قولها : ((فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ)) فلو كان مس المرأة ينقض الوضوء لقطع النبي ﷺ صلاته ، فدل ذلك على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء .
فإن قيل : المس لم يقع من النبي ﷺ إنما وقع من عائشة –رضي الله عنها- له ، فلهذا لم ينتقض الوضوء .
قلنا : لو كان مس المرأة حدثا ناقضا للوضوء فإن لا فرق بين مس المرأة للرجل أو الرجل للمرأة ، كخروج الريح فإنه لا فرق بين أن يخرج من غير قصد لإخراجه وبين إخراجه متعمدا فالكل ناقض للوضوء لأنه حدث .
الدليل الخامس : لو كان مس المرأة بمجرده حدثاً ناقضا للوضوء لكان مس الرجل للمرأة الكبيرة أو الصغيرة أو المحارم أو غيرها ناقضاً للوضوء ، وكذلك ومس المرأة للمرأة ناقضا للوضوء ، لأن بطلان الوضوء من أحكام الوضوء من الأحكام الوضعية وليس من الأحكام التكليفية ، وأنتم فرقتم في ذلك بين مس المرأة للمرأة ، ومس الصغيرة ، ونحو ذلك ، فدل ذلك على أن القول بالنقض ضعيف .
استدل المخالفون القائلون بنقض الوضوء من مس المرأة مطلقاً أو القائلون من مس المرأة مع شهوة ، بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ﴾ سورة المائدة: ٦.
وجه الاستدلال : قوله تعالى : ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ فإن ملامسة النساء من نواقض الوضوء بنص الآية ، وهو يشمل اللمس باليد وغيره ، قال تعالى : ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ سورة الأنعام: ٧، فاللمس هنا باليد كما هو ظاهر ، وعليه فقوله تعالى : ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ دل على أن مس النساء من نواقض الوضوء .
جوابه : أن المراد بالملامسة في الآية الجماع لا غير وذلك لما يأتي :
الجواب الأول : أن الآية ذكرت طهارتين : الماء والتيمم .
أما طهارة الماء فقد ذكرت في وجوبه سببين : الحدث الأصغر والأكبر ، فالأصغر بقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ﴾ ، والحدث الأكبر بقوله : ﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ ﴾ .
وأما طهارة التيمم فقد ذكرت كذلك في سبب وجوبه : الحدث الأصغر والأكبر ، فالحدث الأصغر بقوله تعالى : ﴿ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ ﴾ ، والحدث الأكبر بقوله : ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ أي جامعتموهن ، فلو كان المراد به اللمس باليد لكان فيه تكرار حدثين أصغرين في التيمم وأهملت الحدث الأكبر ، وهذا مناف لبلاغة القرآن ، لأن المقتضي أن نفس التقسيم الذي ذكر في طهارة الماء وهو الحدث الأصغر والأكبر أن يذكر في طهارة التيمم .
الجواب الثاني : أن القرآن أطلق المس وأراد به الجماع في مواطن كثيرة ، وأفضل ما فسر به القرآن هو القرآن نفسه ، قال تعالى : ﴿ لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ سورة البقرة: ٢٣٦ ، وقال تعالى : ﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ سورة البقرة: ٢٣٧ ، وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ سورة الأحزاب: ٤٩.
قال ابن المنذر(الأوسط (1/128) ) : (وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ مَسَّهَا بِيَدِهِ أَوْ قَبَّلَهَا بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَخْلُ بِهَا فَطَلَّقَهَا أَنَّ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ إِنْ كَانَ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا ، وَالْمُتْعَةَ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، فَدَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ إِنَّمَا أَرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْجِمَاعَ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَكَمْنَا اللَّمْسَ بِحُكْمِ الْمَسِّ إِذَا كَانَا فِي الْمَعْنَى وَاحِدًا ) .
الجواب الثالث : أن النبي ﷺ كان يقبل بعض أزواجه ولا يعيد الوضوء كما سبق ، فدل على أن المراد بالملامسة في الآية الجماع لا غير .
الجواب الرابع : أن ترجمان القرآن ابن عباس –رضي الله عنهما- فسر الملامسة في الآية بالجماع ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- قَالَ : ((هُوَ الْجِمَاعُ))(رواه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (1768) . وهو أثر صحيح عنه ) .
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : (( اخْتَلَفْت أَنَا وَأُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي اللَّمْسِ ، فَقُلْتُ : أَنَا وَأُنَاسٌ مِنَ الْمَوَالِي : اللَّمْسُ مَا دُونَ الْجِمَاعِ ، وَقَالَتِ الْعَرَبُ : هُوَ الْجِمَاعُ ، فَأَتَيْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : غَلَبَتِ الْعَرَبُ ، هُوَ الْجِمَاعُ ))(رواه ابن أبي شيبة في المصنف رقم (1779) . وإسناده صحيح ) .
فإن قيل : ثبت عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أنه كان يقول : ((قبلة الرجل امرأتَه وجَسِّها بيده من الملامسة ، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء))( رواه الإمام مالك في الموطأ رقم (95) . وإسناده صحيح) .
قلت : إذا اختلف الصحابة ينظر إلى أقربهما إلى الصواب ، ولا شك أن قول ابن عباس –رضي الله عنهما- أرجح لأنه موافق لفعل النبي ﷺ ، ولأن في الآية قرينة تدل على أن المراد باللمس الجماع كما في الجواب الأول ، ولأن تفسير اللمس بالجماع موافق لآيات كثيرة تدل على ذلك كما تقدم . والله أعلم .
ينظر : المبسوط (1/68) ، وتبيين الحقائق (1/12) ، والبحر الرائق (1/47) ، وبدائع الصنائع (1/30) ، وشرح فتح القدير (1/54) والمدونة (1/13) ، وحاشية الدسوقي (1/119) ، والتمهيد (21/179) ، والاستذكار (1/320) ، والتفريع (1/196) ، ومواهب الجليل (1/296) ، والكافي (1/148)الأم (1/29) ، والمجموع (2/29) ، ومغني المحتاج (1/34) والإنصاف (1/205) ، والمغني (1/256) ، والكافي (1/46) ، والفروع (1/81) ومسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (1/68)