الحديث الضعيف والحديث المعلق

الحديث الضعيف .

المبحث الأول : تعريف الحديث الضعيف :

الضعيف لغة([1]) : الضَعْفُ والضُعْفُ – بفتح الضاد في لغة تميم و بضمها في لغة قريش-: خلاف القوَّة . قال تعالى : ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً…﴾  سورة الروم: ٥٤ ، بالوجهين (ضَعْف) و (وضُعْف) .

وقد ضَعُفَ فهو ضعيفٌ ، وأضْعَفَهُ غيره . وقومٌ ضِعافٌ وضُعَفاءُ وضَعَفَةٌ . واسْتَضْعَفَهُ ، أي عدَّه ضَعيفاً .

الضعيف اصطلاحا([2]) : كل حديث لم تجتمع فيه صفات القبول .

وصفات القبول التي تشترط للحديث الصحيح والحسن ، قد سبق ذكرها ، وعليه تكون مسالك الحديث الضعيف هي :

  • انقطاع السند (السقط من السند) .
  • عدم عدالة الرواة أو بعضهم أو أحدهم .
  • عدم ضبط الرواة أو بعضهم أو أحدهم .
  • اشتماله على الشذوذ سواء كان في متنه أو سنده أو فيهما .
  • اشتماله على علة قادحة سواء كانت في متنه أو سنده أو فيهما .
  • عدم مجيئه من وجه آخر إذا كان قابلا للانجبار .

 

* المسلك الأول : انقطاع السند (السقط من السند) :

السند والإسناد : هو سلسلة الرجال الذين يذكرهم راوي الحديث ابتداء بشيخه وانتهاءً بمن يسند إليه الخبر .

وقيل : الإسناد : هو رفع الحديث إلى قائله .

والسقط من السند : وسقط الرواة من السند إما أن يكون ظاهراً أو خفياً ، وإما أن يكون في أول السند أو في وسطه أو في آخره ، وإليك التفصيل :

القسم الأول : السقط الظاهر :

وهو سقط في رجال الإسناد ظاهر لا يخفى على من اشتغل بهذا العلم ، يشترك في معرفته كل المشتغلين بهذا العلم سواء كانوا من الحذاق أو ممن لهم معرفة واشتغال بهذا الفن([3]) .

وهذا القسم تندرج تحته أنواع :

النوع الأول : المعلق :

المسألة الأولى : تعريفه :

التعليق لغة([4]) : اسم مفعول من التَّعْلِيق ، عَلَّقَ الشيءَ بالشيءِ ومِنْهُ وعَلَيْهِ ، بمعنى أَنَاطَهُ بِهِ ، وعَلِقَ بالشيءِ عَلَقاً وعَلِقَهُ نَشِب فيه ، عَلِق الصيدُ في حِبَالته أَي نَشِب . والتَّعْلِيقُ جَعْلُ الشَّيءِ مُعَلَّقاً ليس له ما يَعْتَمِدُ عليه ، مأخوذٌ من تَعْلِيقِ الجِّدَارِ أو الطَّلاقِ .

والتعليق في الاصطلاح([5]) : ما حذف أو سقط من أول إسناده راوي أو أكثر على التوالي ، ولو إلى آخر الإسناد .

المسألة الثانية : صور المعلق وأمثلته([6]) :

الصورة الأولى : أن يحذف جميع السند ويضيفه إلى النبي ﷺ .

مثاله :

قول الإمام البخاري([7]) : وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ )) .

الصورة الثانية : أن يحذف جميع السند مع عدم إضافته إلى قائل .

مثاله :

قول الإمام البخاري([8]) : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ ، فَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْيُ حَتَّى يَرْفَعَ ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ )) .

وقول الإمام البخاري([9]) : وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلَاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ وَكَانَتْ فَقِيهَةً.

فالإمام البخاري لم يبين من الذي روى الحديث عن النبي ﷺ ، ولم يبين من الذي حكى فعل أم الدرداء –رضي الله عنها- .

الصورة الثالثة : أن يحذف جميع السند إلا الصحابي .

مثاله :

قول الإمام البخاري([10]) : وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : ((حَسَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ فَخِذِهِ )) .

قول الإمام البخاري([11]) : وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ : ((فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ )) .

الصورة الرابعة : أن يحذف جميع السند إلا الصحابي والتابعي أو يحذف جميع السند إلا الصحابي والتابعي وتابع التابعي .

مثاله : قول الإمام البخاري([12]) : وَقَالَ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : ((لاَ يَبْزُقْ فِي الْقِبْلَةِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ )) .

الصورة الخامسة : أن يحذف من حدثه ويضيفه إلى من فوقه :

وهذه الصورة من المعلق قد تكون تعليقاً ، وقد تكون تدليساً :

أولا : تكون تعليقاً إذا علم أن الراوي المُعَلِق غير مدلس ، وأنه لم يدرك الشيخ الذي علق عنه ، أو أنه أدركه لكنه لم يرو هذا الحديث عنه وإنما يرويه عنه بواسطة :

مثاله : قول الإمام البخاري([13]) : وَقَالَ عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ )) .

قال الحافظ ابن حجر([14]) : (قوله : وقال عفان هو بن مسلم الصفار ، وهو من شيوخ البخاري لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة ، وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر) .

مثال آخر : قول الإمام البخاري([15]) : وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ : (( إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ )) .

قال هذا بعد أن قال : حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ )) . تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ . وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ : إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ .

قال الحافظ ابن حجر([16]) : (قوله : وقال غندر هذا التعليق وصله البزار في مسنده عن محمد بن بشار بندار عن غندر بلفظه ، ورواه أحمد بن حنبل عن غندر بلفظ إذا دخل) .

ثانياً : يكون تدليساً ، إذا كان الذي حذف شيخه ثم حدث به عن شيخ شيخه مدلساً ، فإن هذا صورته صورة تعليق لكنه في الحقيقة تدليس ، وسيأتي تفصيله في الحديث المدلس بالتفصيل إن شاء الله تعالى .

تنبيه :

ليس من التعليق أن يحدث المحدث عن شيخه حديثاً بصيغة (قال) ، بل هي كقوله (عن) ويشترط للحكم باتصاله شرطان :

الشرط الأول : لقاء الراوي لمن روى عنه .

الشرط الثاني : أن لا يكون مدلساً .

وسيأتي تفصيل الحديث المعنن بالتفصيل إن شاء الله تعالى .

المسألة الثالثة : سبب تعليق الحديث([17]) :

يعلق الحديث للأسباب الآتية :

الأول : عدم ثبوت الحديث عند المُعَلِق .

الثاني : أن الحديث الذي علقه ليس على شرطه الذي اشترطه لكتابه فلهذا علقه ، وإن كان هو ثابتاً ، كالأحاديث التي يعلقاها الإمام البخاري وهي صحيحة لكنها ليست على شرطه .

الثالث : أن يفعل ذلك لأجل الاختصار ، سواء كان الحديث عنده ثابتا أو غير ثابت .

الرابع : أن يتصرف في المتن ، فتحرياً للصدق يعلقه .

المسألة الرابعة : حكم المعلق :

الحديث المعلق ضعيف ، لأنه فقد شرطاً من شروط الصحة ، وهو اتصال السند ، فالمحذوف من السند غير معلوم حاله عندنا .

المسألة الخامسة : صيغ المعلقات عند الإمام البخاري([18]) :

اعلم –رحمك الله تعالى- أن ما علقه الإمام البخاري في جامعه الصحيح على صيغتين :

الصيغة الأولى : ما أورده بصيغة الجزم ، كقوله : قال فلان ، فله صور :

الصورة الأولى : معلق ، ويذكره في صحيحه متصلا .

مثاله : قول الإمام البخاري([19]) : وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ )) .

قال الإمام البخاري([20]) : حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) .

الصورة الثانية : معلق صحيح يلتحق بشرطه ، ولم يذكره في صحيحه متصلا أو مصرحا بسماعه من شيخه .

مثاله : قول الإمام البخاري([21]) : وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : (( وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِ آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، وَقُلْتُ : وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ … )) .

قال الحافظ ابن حجر([22]) : (هَذَا الحَدِيث قد ذكره فِي مَوَاضِع فِي كِتَابه مطولا ومختصرا وَلم يُصَرح فِي مَوضِع مِنْهَا بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من عُثْمَان بن الْهَيْثَم … ) .

ثم ذكر من وصله .

وقال -رحمه الله تعالى-([23])  : (ما يلتحق بشرطه ومنه ما لا يلتحق أما ما يلتحق فالسبب في كونه لم يوصل إسناده … لكونه لم يحصل عنده مسموعا أو سمعه وشك في سماعه له من شيخه أو سمعه من شيخه مذاكرة فما رأى أنه يسوقه مساق الأصل ، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه فمن ذلك أنه قال في ((كتاب الوكالة)) : قال عثمان بن الهيثم حدثنا عوف حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : ((وكلني رسول الله ﷺ بزكاة رمضان )) الحديث بطوله ، وأورده في مواضع أخرى منها في فضائل القرآن ، وفي ذكر إبليس ، ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان فالظاهر أنه لم يسمعه منه ) .

الصورة الثالثة : معلق صحيح ، لكنه صحيح على غير شرطه .

مثاله : قول الإمام البخاري([24]) : وَقَالَتْ عَائِشَةُ : ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ)) .

قال الإمام مسلم([25]) : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالاَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ الْبَهِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : (( كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ )) .

الصورة الرابعة : معلق حسن ، لم يبلغ الصحيح .

مثاله : قول الإمام البخاري([26]) : وَقَالَ بَهْزٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : (( اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ )) .

قال الحافظ ابن حجر([27]) : (وأما ما لا يلتحق بشرطه فقد يكون صحيحا على شرط غيره وقد يكون حسنا صالحا للحجة … ومثال ما هو حسن صالح للحجة قوله فيه : وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده : ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)) وهو حديث حسن مشهور عن بهز أخرجه أصحاب السنن كما سيأتي) .

وسبب تحسين الحديث أن والد بهز وهو حكيم بن معاوية لا يرتقي حديثه إلى درجة الصحة ، قال عنه الحافظ ابن حجر([28]) : ( صدوق) .

الصورة الخامسة : معلق صحيح إلى من علق عنه ، لا إلى ما بعده فإن ما بعده منقطع فيبحث فيه .

مثاله : قول الإمام البخاري([29]) : وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ مُعَاذٌ – رضي الله عنه – لأَهْلِ الْيَمَنِ : ((ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ([30]) فِي الصَّدَقَةِ ، مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ ، وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ )) .

قال الحافظ ابن حجر([31]) : (قوله : وقال طاوس قال معاذ لأهل اليمن . هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاوس لكن طاوس لم يسمع من معاذ ، فهو منقطع ، فلا يغتر بقول من قال : ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه ، وأما باقي الإسناد فلا إلا أن إيراده له في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده ، وكأنه عضده عنده الأحاديث التي ذكرها في الباب ) .

الصيغة الثانية : ما أورده بصيغة غير الجزم ، (صيغة التمريض) كقوله : يُروى ، ويُذكر، ويُقال ، فله صور :

الصورة الأولى : معلق صحيح على شرطه لكنه رواه بالمعنى أو اختصره .

مثاله : قول الإمام البخاري([32]) : باب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ . وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .

قال الحافظ ابن حجر([33]) : (ويذكر عن ابن عباس عن النبي ﷺ . هكذا ذكره بصيغة التمريض ، وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة الكتاب عقب هذا الباب ، وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر الخبر بالمعنى ، ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي ﷺ بالرقية بفاتحة الكتاب ، وإنما فيه تقريره على ذلك ، فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية) .

مثال آخر : قول الإمام البخاري([34]) : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : ((كُنَّا نَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ فَأَعْتَمَ بِهَا )) .

قال الحافظ ابن حجر([35]) : (قوله : ويذكر عن أبي موسى . سيأتي موصولا عند المصنف مطولا بعد باب واحد ، وكأنه لم يجزم به لأنه اختصر لفظه ، نبه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل ، وأجاب به من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين ، وحاصل الجواب : أن صيغة الجزم تدل على القوة ، وصيغة التمريض لا تدل ، ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحته إلى التمريض بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف ، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى ، وكذا الاقتصار على بعضه لوجود الاختلاف في جوازه ، وأن كان المصنف يرى الجواز) .

قال الحافظ ابن حجر([36]) : (قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ -رحمه الله- وهي إن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا لما علم من الخلاف في ذلك ) .

الصورة الثانية : معلق صحيح ، لكنه صحيح على غير شرطه .

مثاله : قول الإمام البخاري([37]) : وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : ((ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ)) .

قال الإمام مسلم([38]) : حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ : (( تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ )) .

قال الحافظ ابن حجر([39]) : (هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري … أخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية أبي نضرة عنه ، قيل : وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأن أبا نضرة ليس على شرطه لضعف فيه ، وهذا عندي ليس بصواب لأنه لا يلزم من كونه على غير شرطه أنه لا يصلح عنده للاحتجاج به بل قد يكون صالحا للاحتجاج به عنده وليس هو على شرط صحيحه الذي هو أعلى شروط الصحة ) .

الصورة الثالثة : معلق بصيغة التمريض ، لاختلاف في سنده ومتنه أو أحدهما ، وقد يكون صحيحاً وقد لا يكون كذلك .

مثاله : قول الإمام البخاري([40]) : وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ : (( قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنُونَ فِي الصُّبْحِ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى ، أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ )) .

قال الإمام مسلم([41]) : وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ح قَالَ : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ – وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ – حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْعَابِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : ((صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ ﷺ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى – مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ يَشُكُّ أَوِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ – أَخَذَتِ النَّبِيَّ ﷺ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ حَاضِرٌ ذَلِكَ )). وَفِى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَحَذَفَ فَرَكَعَ. وَفِى حَدِيثِهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو . وَلَمْ يَقُلِ ابْنِ الْعَاصِ .

قال الحافظ ابن حجر([42]) : (قوله : ويذكر عن عبد الله بن السائب … وحديثه هذا وصله مسلم من طريق بن جريج قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي كلهم عن عبد الله بن السائب قال صلى لنا النبي ﷺ الصبح بمكة فاستفتح بسورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى شك محمد بن عباد أخذت النبي ﷺ سعلة فركع ، وفي رواية بحذف فركع ، وقوله ابن عمرو بن العاص وهم من بعض أصحاب بن جريج ، وقد رويناه في مصنف عبد الرزاق عنه فقال عبد الله بن عمرو القارئ وهو الصواب ، واختلف في إسناده على ابن جريج ، فقال بن عيينة عنه عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن السائب أخرجه بن ماجه ، وقال أبو عاصم عنه عن محمد بن عباد عن أبي سلمة بن سفيان أو سفيان بن أبي سلمة وكأن البخاري علقه بصيغة ويذكر لهذا الاختلاف مع أن إسناده مما تقوم به الحجة ) .

الصورة الرابعة : معلق حسن ، لم يبلغ الصحيح .

مثاله : قول الإمام البخاري([43]) : وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ – رضي الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ : (( إِذَا بِعْتَ فَكِلْ ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ )) .

قال الحافظ ابن حجر([44]) : (صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح … ومنه ما هو حسن… ومثال الثاني وهو الحسن قوله في البيوع : ويذكر عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال له : ((إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل )) وهذا الحديث قد رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن المغيرة ، وهو صدوق عن منقذ مولى عثمان وقد وثق عن عثمان به ، وتابعه عليه سعيد بن المسيب ومن طريقه أخرجه أحمد في المسند إلا أن في إسناده ابن لهيعة ، ورواه بن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان وفيه انقطاع ، فالحديث حسن لما عضده من ذلك) .

الصورة الخامسة : معلق ضعيف إلا أنه يوجد ما يقويه ، وقد يكون لا يصح مرفوعاً لكنه صح موقوفاً .

مثاله : قول الإمام البخاري([45]) : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ((جَعَلَ اللهُ الطَّلاَقَ بَعْدَ النِّكَاحِ)) وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَشُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ .

أراد بذكر التابعين تقوية ما جاء عن ابن عباس –رضي الله عنهما- ، وقد ذكر أسانيد هذه الآثار الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (4/439) .

الصورة السادسة : معلق ضعيف لم يصح .

مثاله : قول الإمام البخاري([46]) : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لاَ يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِي مَكَانِهِ . وَلَمْ يَصِحَّ .

قال الحافظ ابن حجر([47]) : (قوله ولم يصح هو كلام البخاري وذلك لضعف إسناده واضطرابه تفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف واختلف عليه فيه وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في تاريخه وقال لم يثبت هذا الحديث) .

 

 

 ([1])ينظر : الصحاح (1/410) ، والمحكم (1/411) ، والمخصص (1/198) ، والمصباح المنير (5/338) ، وتهذيب اللغة (1/151) ، ولسان العرب (9/203) ، ومعجم مقاييس اللغة (3/362) .

 ([2])ينظر : علوم الحديث ص (37) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (117) ، والباعث الحثيث (1/142) ، والتقريب للنووي ص (105) ، وتدريب الراوي (1/195) ، النكت على كتاب ابن الصلاح (1/491) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (115) ، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث 1/171) .

  ([3])ينظر  : شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (414) .

 ([4])ينظر : القاموس المحيط ص (1175) ، ومختار الصحاح ص (450) ، والمحكم (1/208) ، وتهذيب اللغة (1/242) ، ولسان العرب (9/356) ، الصحاح (4/1529) ، تاج العروس (7/19) ، والمنهل الروي ص(55) ، وهداية المغيث ص (127) .

 ([5])ينظر : إسبال المطر على قصب السكر ص (255) ، التقيد والإيضاح ص (32) ، والمنهل الروي ص (55) ، والتقريب للنووي ص (11) ، علوم الحديث لابن الصلاح ص (20) ، وشرح شرح النخبة لملا علي القاري ص (106) ، وتدريب الراوي ص(117) ، وتوضيح الأفكار ص (137) ، ونخبة الفكر ص (229) ، ونزهة النظر ص (98) .

 ([6])ينظر : نزهة النظر ص (98) .

 ([7])صحيح البخاري (1/119) .

 ([8])صحيح البخاري (8/204) .

 ([9])صحيح البخاري (3/322) .

 ([10])صحيح البخاري (2/112) .

 ([11])صحيح البخاري (3/189) .

 ([12])صحيح البخاري (2/412) .

 ([13])صحيح البخاري (19/136) .

 ([14])فتح الباري (10/158) .

 ([15])صحيح البخاري (1/258) .

 ([16])فتح الباري (1/244) .

 ([17])ينظر : هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر (1/17) ، وتغليق التعليق (2/8) .

 ([18])ينظر : هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .

 ([19])صحيح البخاري (7/176) ، باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا .

 ([20])صحيح البخاري (1/76) رقم الحديث (38) ، باب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الإِيمَانِ .

 ([21])صحيح البخاري (8/368) ، باب إِذَا وَكَّلَ رَجُلاً ، فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا ، فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ  .

 ([22])تغليق التعليق (3/295) .

 ([23])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .

 ([24])صحيح البخاري (3/72) ، باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا ، وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ  .

 ([25])صحيح مسلم في الحيض/باب ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِهَا رقم الحديث (852) .

 ([26])صحيح البخاري (1/486) ، باب مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ ، وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ  .

 ([27])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/18) .

 ([28])تقريب التهذيب (1/177) ، رقم (1478) .

 ([29])صحيح البخاري (5/431) ، باب الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ .

 ([30])قال الحافظ في الفتح (3/213) : (وقوله : خميص ، قال الداودي والجوهري وغيرهما : ثوب خميس بسين مهملة هو ثوب طوله خمسة أذرع . وقيل : سمي بذلك لأن أول من عمله الخميس ملك من ملوك اليمن ، وقال عياض : ذكره البخاري بالصاد وأما أبو عبيدة فذكره بالسين ، قال أبو عبيدة : كأن معاذا عنى الصفيق من الثياب ، وقال عياض : قد يكون المراد ثوب خميص أي خميصة لكن ذكره على إرادة الثوب ، وقوله : لبيس أي ملبوس ، فعيل بمعنى مفعول ) .

 ([31])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/17) .

 ([32])صحيح البخاري (19/178) .

 ([33])فتح الباري (10/198) .

 ([34])صحيح البخاري (2/457) ، باب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا .

 ([35])فتح الباري (2/46) .

 ([36])فتح الباري (1/136) .

 ([37])صحيح البخاري (19/178) .

 ([38])صحيح مسلم في الصلاة/باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَإِقَامَتِهَا رقم الحديث (1010) .

 ([39])فتح الباري (2/240) .

 ([40])صحيح البخاري (3/304) ، باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ .

 ([41])صحيح مسلم في الصلاة/ باب الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ رقم الحديث (1050) .

 ([42])فتح الباري (2/255) .

 ([43])صحيح البخاري (8/55) ، باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي .

 ([44])هدي الساري مقدمة فتح الباري (1/18) .

 ([45])صحيح البخاري (17/427) ، باب لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ .

 ([46])صحيح البخاري (3/430) ، باب مُكْثِ الإِمَامِ فِي مُصَلاَّهُ بَعْدَ السَّلاَمِ .

 ([47])فتح الباري (5/269) .

الحديث الحسن

الحديث الحسن .

المبحث الأول : تعريف الحديث الحَسَن :

الحسن لغة([1]) :  الحُسْنُ ضدُّ القُبْح ونقيضه ، والحُسْن نَعْت لما حَسُن ، حَسُنَ وحَسَن يَحْسُن حُسْناً فيهما فهو حاسِنٌ وحَسَن ، وجمع الحُسْنُ مَحاسِن على غير قياس كأَنه جمع مَحْسَن ، وجمع الحَسَن حِسان ، تقول : قد حَسُن الشيءُ وإن شئت خَفَّفْت الضمة فقلت : حَسْنَ الشيءُ .

الحسن لذاته اصطلاحا([2]) : ما اتصل إسناده بنقل العدل الذي خف ضبطه إلى منتهاه ، من غير شذوذ ولا علة قادحة .

شرح التعريف :

سبق شرح كلمات التعريف عند تعريف الحديث الصحيح ، وبقي أن أشرح الآتي :

قولنا : (خف ضبطه) : أي قل ضبطه الراوي للحدث ، وخفة الضبط وقلته لا تصل إلى حال من يُعد تفرده منكرا ، وهو الذي لم يتقن ضبط وحفظ الحديث ضبطا تاماً ، ويعبر عنه بعض العلماء بالصدوق .

وقولنا : (إلى منتهاه) : يعني أن اتصال السند والعدالة لابد أن تكون من أول السند إلى منتهاه ، وأما خفة الضبط فإنها تجعل الحديث حسناً لذاته في أي طبقة وجدت من طبقات السند ، فلو أن الحديث رجاله ستة ، وجميعهم ثقات عدول تاموا الضبط إلا الرابع خف ضبطه فإن الحديث يكون حسناً ، مع بقية الشروط .

مثاله الحديث الحسن لذاته :

قال الإمام أحمد حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ : ((لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ))([3]) .

هذا الحديث إسناده حسن لأجل عمر بن أبي سلمة قال الحافظ عنه([4]) : (عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قاضي المدينة صدوق يخطيء) . وبقية رجاله ثقات .

المبحث الثاني : أنواع الحديث الحسن :

يتنوع الحديث الحسن إلى نوعين :

النوع الأول : الحديث الحسن لذاته ، وسبق تعريفه والمثال عليه .

النوع الثاني : الحديث الحسن لغيره ، وهو ما قصر عن الحديث الحسن لذاته إلا أنه وجد ما يرتقي به إلى الحديث الحسن لغيره ككثرة الطرق ، أو المتابعات أو الشواهد ونحوها .

فقد يكون الحديث إسناده ضعيفاً وسيأتي بيانه ، وجاء من طرق أخرى بأسانيد فيها ضعف ، فإنه يرتقي الحديث بمجموع تلك الطرق إلى الحديث الحسن لغيره ، ولا بد أن يكون الضعف غير شديد فما كَانَ يسيراً زال بمجيئه من طريق آخر مثله أو أحسن مِنْهُ ، فإن ما كَانَ ضعفه بسبب سوء الحفظ أو اختلاطٍ أو تدليسٍ أو انقطاع يسير فالضعف هنا يرتفع ويتقوى الحديث بالمتابعات والطرق والشواهد ، وأما إن كَانَ انقطاعه شديداً أو كَانَ هناك قدحٌ في عدالة الراوي فالضعف في الحديث يزيد بكثرة الطرق والحالة هذه .

قال ابن الصلاح([5]) : (ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت :

فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة . فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ، ولم يختل فيه ضبطه له . وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر .

ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف ، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته . وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذا .

وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث ، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة) .

مثاله الحديث الحسن لغيره :

قال ابن حبان : أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ فِطْرٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنها- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ ابْنَتَانِ ، فَيُحْسِنُ إِلَيْهِمَا مَا صَحِبَتَاهُ ، أَوْ صَحِبَهُمَا إِلَّا أَدْخَلَتَاهُ الْجَنَّةَ ))([6]) .

هذا الحديث إسناد ضعيف ، لأجل ضعف شرحبيل بن سعد . قال عنه الحافظ([7]) : (شرحبيل بن سعد أبو سعد المدني مولى الأنصار صدوق اختلط بآخره ) .  إلا أن الحديث حسن بشواهده ، فقد رواه ابن ماجه رقم الحديث (3670) ، وأبو يعلى (2571) و (2742) ، والطبراني (10836) ، والحاكم (4/178)  من طرق عن فطر ، بهذا الإسناد .

ورواه أبو يعلى في مسنده رقم الحديث (2457) قال : حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال : ((… ومن عال ثلاث بنات فأنفق عليهن وأحسن إليهن وجبت له الجنة . فقام رجل من الأعراب فقال : أو اثنتين ؟ قال : نعم . حتى لو قال : واحدة لقال : نعم …)) . وإسناده ضعيف بسبب ضعف حسين بن قيس . قال البغوي([8]) بعد أن روى هذا الحديث : (وحسين بن قيس أبو علي الرحبي ، لقبه : حنشٌ ، ضعفه أهل الحديث . وله نسخةٌ يرويها عن عكرمة ، عن ابن عباس أكثرها مقلوبة) .

ورواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (11384) قال : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُكْمِلٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه-  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ ثَلَاثُ بَنَاتٍ ، أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ ، أَوْ ابْنَتَانِ ، أَوْ أُخْتَانِ، فَيَتَّقِي اللهَ فِيهِنَّ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ )) . وإسناده ضعيف لجهالة سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل ، فقد روى عنه اثنان ، ولم يوثقه غير ابن حبان .

تنبيه :

اعلم أن الحديث الحسن بنوعيه من أدق مباحث علم الحديث حيث إنه يدور بين الصحة والضعف للاختلاف في الراوي بين المضعفين له والموثقين ، فالباحث يتردد فيه ، ولهذا ينبغي على الباحث أن يتريث في حكمه ، وأن ينظر في كلام العلماء على الراوي وأن يرجح بينها بناء على قواعد علمية سيأتي بيان بعضها إن شاء الله تعالى ، وأن ينظر كذلك في كلام العلماء على الحديث الذي يبحث فيه ينظر في كلام المصحح والمضعف ويرجح بينها معتمدا على القواعد العلمية والخبرة العملية .

قال الشيخ الألباني([9]) : (وإن مما ينبغي ذكره بهذه المناسبة أن الحديث الحسن لغيره وكذا الحسن لذاته من أدق علوم الحديث وأصعبها لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته ما بين موثق ومضعف ، فلا يتمكن من التوفيق بينها أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده ، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعليل ، ومارس ذلك عمليا مدة طويلة من عمره مستفيدا من كتب التخريجات ، ونقد الأئمة النقاد عارفا بالمتشددين منهم والمتساهلين ومن هم وسط بينهم حتى لا يقع في الإفراط والتفريط ، وهذا أمر صعب قل من يصير له ، وينال ثمرته فلا جرم أن صار هذا العلم غريبا من العلماء ،  والله يختص بفضله من يشاء).

المبحث الثالث : الاحتجاج بالحديث الحسن بنوعيه :

الناظر في الحديث الحسن لذاته يرى أنه قد اجتمعت في شروط الحديث الصحيح إلا أنه خف ضبط الراوي ، وهذا لا يخرجه في الحقيقة عن مرتبة الاحتجاج ، قال ابن كثير([10]) : (الحسن وهو في الاحتجاج به كالصحيح عند الجمهور ) ،  وسبب الخلاف في الاحتجاج بالحديث الحسن لذاته أن راوي الحسن خفّ ضبطه قليلاً عن راوي الصحيح ، فمن نظر إلى أصل الضبط احتج به ، ومن نظر إلى أن هذا الراوي قد خف ضبطه ، والأخبار ينبغي التثبت فيها قال : إنه لا يحتجّ به ، وعلى كل الراجح والمعتمد عند جمهور أهل العلم الاحتجاج به ، وأنه كالصحيح في الحجية .

وأما الحديث الحسن لغيره فإن كثرة الطرق غير شديدة الضعف ترتقي به إلى مرتبة الاحتجاج ، فالراجح أن الحديث الحسن لغيره  محتج به لأنه خرج عن مرتبة الضعيف ، وتقوية الحديث بالمتابعات والشواهد متقرر لدى أئمة الحديث ، ولذلك كان الأئمة يكتبون أحاديث الراوي للاعتبار بها .

قال الحافظ ابن حجر([11]) : (كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوة ) .

قال السخاوي([12]) : (قال النووي -رحمه الله- في بعض الأحاديث : وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوى بعضه بعضاً ، ويصير الحديث حسنا ويحتج به . وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الضعيفة ، وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه فإنه قال : هذا القسم لا يحتج به كله بأن يعمل به في فضائل الأعمال ، ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن واستحسنه شيخنا –يعني ابن حجر-  ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية([13]) : (فَإِنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَكَثْرَتَهَا يُقَوِّي بَعْضَهَا بَعْضًا حَتَّى قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهَا ) .

وقد ذهب الأئمة إلى تقوية الحديث بكثرة الطرق ، قال الإمامُ أَحْمَدُ بْنَُ حَنْبَلٍ : (أَحَادِيثُ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ » وَ «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ» أَحَادِيثُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهَا)([14]).

وقال الإمام سفيان الثوري : ( إني لأكتب الحديث على ثلاثة وجوه : فمنه ما أتدين به ، ومنه ما أعتبر به ، ومنه ما أكتبه لأعرفه )([15]) .

المبحث الرابع : أول من أطلق اصطلاح الحديث الحسن :

اعلم أن أول من أشهر اصطلاح (الحديث الحسن) الذي هو دون الصحيح الإمام الترمذي ، واصطلاح الحديث الحسن كان معروفاً قبله إلا أنه لم يظهر ويشتهر إلا في عهده ، فقد استعمل اصطلاح الحديث الحسن قبل الترمذي أو من معاصريه أئمة ، منهم :

أولا : الإمام مالك بن أنس ، فقد روى ابن أبي حاتم الرازي قال([16]) : (حدثنا عبد الرحمن نا أحمد بن عبد الرحمن بن أخي بن وهب قال سمعت عمي –عبدالله بن وهب- يقول : سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال : ليس ذلك على الناس . قال : فتركته حتى خف الناس ، فقلت له : عندنا في ذلك سنة ، فقال : وما هي؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : ((رأيت رسول الله ﷺ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه)) . فقال : إن هذا الحديث حسن ، وما سمعت به قط إلا الساعة ، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع) .

ثانياً : الإمام علي بن المديني ، قال المزي في ترجمة (نعيم بن حنظلة)([17]) : (قال علي بن المديني في هذا الحديث : إسناده حسن ولا نحفظه عن عمار عن النبي ﷺ إلا من هذا الطريق) .

ثالثاً : الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، فقد نقل عنه الإمام الترمذي تحسينه لعدة أحاديث في كتابه السنن (الجامع) والعلل الكبير .

وغيرهم كثير ممن حكموا على الحديث أو على الراوي بأنه حسن الحديث ، فالاصطلاح كان معروفاً قبل الإمام الترمذي إلا أنه لم يكن مشهوراً كما اشتهر في عهده ، وتتابع الناس بعده على هذا الاصطلاح . والله أعلم .

المبحث الخامس : أعلى مراتب الحسن رواية :

قال الإمام الذهبي([18]) : (فأعلى مراتب الحَسَن :

بَهْزُ بن حَكيم ، عن أبيه ، عن جَدَّه .

و : عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جَدَّه .

و : محمد بن عَمْرو ، عن أبي سَلَمة ، عن أبي هريرة .

و: ابنُ إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمِي ، وأمثالُ ذلك .

وهو قِسمٌ مُتجاذَبٌ بين الصحةِ والحُسن ، فإنَّ عِدَّةً من الحُفَّاظ يصححون هذه الطرق ، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح .

ثم بعدِ ذلك أمثلةُ كثيرة يُتَنازَعُ فيها ، بعضُهم يُحسَّنونها ، وآخَرُون يُضعِّفونها ، كحديث الحارثِ بن عبد الله ، وعاصم بن ضَمْرة ، وحَجَّاج بن أَرْطَاة ، وخُصَيْف ، ودَرَّاجٍ أبي السَّمْح ، وخلقٍ سِواهم) .

المبحث السادس : ما معنى وصف الترمذي للحديث بأنه (حسن صحيح) ؟

أعلم أن الترمذي قد صرح بتعريف الحسن فقال([19]) : (وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، فَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ حُسْنَ إِسْنَادِهِ عِنْدَنَا : كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى لَا يَكُونُ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ ، وَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ شَاذًّا ، وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوَ ذَاكَ ، فَهُوَ عِنْدَنَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . فإطلاق الحسن فقط عند الترمذي ظاهر لأنه بين مراده ، ولكن الخلاف بين العلماء -رحمهم الله تعالى- في قوله : (حديث حسن صحيح) فقد اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في مراد الترمذي عند إطلاقه على الحديث بأنه (حسن صحيح) على أقوال([20]) لأن الحديث الحسن قاصر عن الصحيح ، فكيف يجمع بينهما :

قيل : إنه جمع بينهما باعتبار الأسانيد ، فباعتبار إسناد الحديث هو حسن ، وباعتبار الأسانيد الأخرى يكون متن الحديث صحيحاً .

وتعقب هذا القول : بأنه يرده ما قال فيه الترمذي : (هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) .

وقيل : هو حسن باعتبار المتن ، أي حسن بالمعنى اللغوي لا المعنى الاصطلاحي ، صحيح باعتبار الإسناد .

وتعقب هذا القول : بأنه ضعيف ، بل مردود ، لأنه خلاف الأصل فالأصل حمل اللفظ على المعنى الاصطلاحي لا اللغوي ولا يصرف إلا بقرينة ، وليست هنا قرينة تصرفه من المعنى الاصطلاحي إلى المعنى اللغوي ، ولأنه يلزم على هذا إطلاق الحسن على الأحاديث الموضوعة ، فيقال : حديث حسن إسناده موضوع . وهذا باطل لا يطلقه المحدثون ولا يقولونه .

وقيل : إن الحديث الحسن الصحيح أعم من الصحيح ، فالحسن بالنسبة للحديث لأنه مؤيد بعمل القرون الفاضلة من الصحابة فمادون ، سواء صح أو نزل عن درجة الصحة ، وما لم يتأيد بعمل لا يصفه بالحسن وإن صح .

وتعقب هذا القول : بأنه يرده قول الترمذي : (حديث صحيح ، وعليه العمل بمكة ، وهو قول الشافعي) ، فلم يصفه بالحسن مع أنه مؤيد بعمل أهل مكة .

وقيل : إن ما قال  فيه : (حسن صحيح) أعلى رتبة عنده من (الحسن) ، ودون (الصحيح) ، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن .

وتعقب هذا القول : بأنه تحكم لا دليل عليه ، وهو بعيد من فهمهم معنى كلام الترمذي . وأيضاً يقتضي إثبات قسم ثالث ، ولا قائل به فهو خرق لإجماعهم ، وفيه أيضاً أنه يلزم عليه أن لا يكون في كلام الترمذي حديث صحيح إلا قليلاً لقلة اقتصاره على قوله : (هذا حديث صحيح) ، مع أن الذي يعبر فيه بالصحة والحسن أكثره موجود في الصحيحين .

وقيل : إن الحديث الذي يقول فيه الترمذي : (حسن صحيح) إن وقع التفرد والغرابة في سنده فهو محمول على التردد الحاصل من المجتهد في الرواة هل اجتمعت فيهم صفة الصحة أو الحسن ؟ فتردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد أن يتردد ولا يصفه بأحد الوصفين جزماً ، فيقال فيه : (حسن) باعتبار وصفه عند قوم ، و (صحيح) باعتبار وصفه عند قوم آخرين ، غاية ما فيه أنه حذف فيه حرف التردد ، وكان حقه أن يقول : (حسن أو صحيح) ، وهذا كما يحذف حرف العطف من التعداد ، وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح دون ما قيل فيه صحيح ؛ لأن الجزم أقوى من التردد .

وتعقب هذا القول : أن الترمذي قال عن أحاديث صحيحة ولا غبار عليها : (حسن صحيح) كحديث : (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ … )) . والحديث في صحيح البخاري . فكيف يكون قوله (حسن صحيح) دون الصحيح ؟!

وقيل : إن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا إذا اقتصر على قوله : (حسن) فالقصور يأتيه بسبب الاقتصار على ذكره لا من حيث حقيقته وذاته ، وبيانه وتوضيحه أن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواة ، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان ، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق فيصح أن يقال في هذا : إنه (حسن) باعتبار وجود الصفة الدنيا وهي الصدق مثلاً ، (صحيح) باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان ، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسناً ، ويؤيده ورود قولهم : هذا حديث حسن في الأحاديث الصحيحة ، وهذا موجود في كلام المتقدمين .

وشبه ذلك قولهم في الراوي : (صدوق فقط) و(صدوق ضابط) فإن الأول قاصر عن درجة رجال الصحيح ، والثاني منهم فكما أن الجمع بينهما لا يضر ولا يشكل ، فكذلك الجمع بين الصحة والحسن .

وقيل : إنه يريد بقوله : (حسن صحيح) في هذه الصورة الخاصة الترادف ، فيكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول للتأكيد له كما يقال : حديث صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك .

وتعقب هذا القول : بأن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ؛ لأن الأصل عدم التأكيد .

ورد هذا التعقب : بأن هذا يندفع عند وجود القرينة الدالة على ذلك ، وقد وجد في عبارة غير واحد كالدارقطني (هذا حديث صحيح ثابت) .

وقيل : إنه يريد حقيقتهما الاصطلاحية في إسناد واحد لكن باعتبار حالين وزمانين ، فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرة في حال كونه مستوراً أو مشهوراً بالصدق والأمانة ، ثم ارتقى وارتفع حاله إلى درجة العدالة فسمعه منه مرة أخرى فأخبر بالوصفين ، وقد روي عن غير واحد أنه سمع الحديث الواحد على شيخ واحد غير مرة .

وقيل : يحتمل أن يكون الترمذي أدى اجتهاده إلى حسنه ، وأدى اجتهاد غيره إلى صحته فيكون معناه حسنا عندي صحيحا عند غيري ، أو بالعكس فهو باعتبار مذهبين .

وقيل غير ذلك .

قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى-([21]) وهو يجمع ويرجح بين بعض الأقوال المتقدمة : (فإن جُمِعا ، أي الصحيحُ والحسنُ ، في وصفٍ واحدٍ ، كقول الترمذي وغيره : (حديثٌ حسنٌ صحيحٌ) ، فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل : هل اجتمعتْ فيه شروط الصحة أو قَصُرَ عنها ، وهذا حيث يَحْصل منه التفرد بتلك الرواية .

وعُرِفَ بهذا جوابُ مَنِ استشكلَ الجمعَ بين الوصفين ؛ فقال : الحَسَنُ قاصرٌ عن الصحيحِ ؛ ففي الجمع بين الوصفين إثباتٌ لذلك القصورِ ونَفْيُهُ ! .

ومُحَصَّل الجواب : أنّ تردُّدَ أئمة الحديث في حال ناقلِهِ اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحدِ الوصفين ، فيُقال فيه : حَسَنٌ باعتبار وصْفِهِ عند قومٍ ، صحيحٌ باعتبارِ وصْفِهِ عند قومٍ، وغايةُ ما فيه أنه حُذِف منه حرفُ التردد ؛ لأنّ حقه أن يقول : (حسنٌ أو صحيحٌ) ، وهذا كما حُذِفَ حرف العطف مِن الذي بعده . وعلى هذا فما قيل فيه : (حسنٌ صحيحٌ) دون ما قيل فيه صحيحٌ ؛ لأن الجزمَ أقوى مِن التردد ، وهذا حيث التفرد([22]) .

وإلا إذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معاً على الحديث يكون باعتبارِ إسنادين : أحدُهما صحيحٌ ، والآخر حسنٌ .

وعلى هذا فما قيل فيه : (حسن صحيح) فوقَ ما قيل فيه : (صحيح) فقط -إذا كان فرداً- لأن كثرة الطرق تقوِّي .

فإن قيل : قد صرَّح الترمذي بأنَّ شرط الحسن أن يُرْوَى مِن غيرِ وجهٍ ؛ فكيف يقول في بعض الأحاديث : (حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه) ؟

فالجواب : أن الترمذي لم يُعرِّف الحسن مطلقاً ، وإنما عَرَّفَ نوعاً خاصاً منه وَقَعَ في كتابه ، وهو ما يقول فيه : (حسنٌ) ، مِن غير صفةٍ أخرى ؛ وذلك أنه : يقول في بعض الأحاديث : (حسنٌ) . وفي بعضها: (صحيحٌ) . وفي بعضها : (غريبٌ) . وفي بعضها : (حسنٌ صحيحٌ) . وفي بعضها: (حسنٌ غريبٌ) . وفي بعضها : (صحيحٌ غريبٌ) . وفي بعضها : (حسنٌ صحيحٌ غريبٌ) .

وتعريفه إنما وقع على الأول فقط ، وعبارته تُرْشِدُ إلى ذلك ؛ حيث قال في آخر كتابه : (وما قلنا في كتابنا : (حديثٌ حَسَنٌ) ، فإنما أردنا به حُسْنَ إسناده عندنا : كُلُّ حديثٍ يُرْوَى ، لا يكون راويه متَّهَماً بكَذِبٍ ، ويُرْوَى من غير وجهٍ نحوُ ذلك ، ولا يكون شاذّاً فهو عندنا حديثٌ حسنٌ) .

فَعُرِفَ بهذا أنه إنما عَرَّفَ الذي يقول فيه : (حسنٌ) فقط ، أما ما يقول فيه : (حسنٌ صحيحٌ) ، أو : (حسنٌ غريبٌ) ، أو : (حسنٌ صحيحٌ غريبٌ) ، فلم يُعَرِّجْ على تعريفه ، كما لم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقول فيه : (صحيحٌ) فقط ، أو : (غريبٌ) فقط ، وكأنه ترك ذلك استغناءً ، لِشُهْرَتِه عند أهل الفن . واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه : (حسنٌ) فقط ؛ إمّا لغموضه ، وإمّا لأنه اصطلاحٌ جديدٌ ؛ ولذلك قَيَّدَه بقوله : عندنا ، ولم ينسِبْه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي .

وبهذا التقرير يندفع كثيرٌ مِن الإيرادات التي طال البحث فيها ، ولم يُسْفِر وجْهُ توجيهِها ، فلله الحمد على ما أَلْهَم وعَلَّم ) .

والأقرب- والله أعلم -من الأقوال المتقدمة الأقوال التي لم يرد عليها تعقيب أو رد .

المبحث السابع : مسائل في الحديث الصحيح والحسن :

المسألة الأولى : هل قول العلماء في الحديث : (رجاله ثقات) يستوجب الصحة ؟

إطلاق العالم على إسناد حديث ما بأن رجاله ثقات لا يلزم منه الصحة أو التحسين ، فقد يكون الحديث رجاله ثقات ولكنه منقطع أو شاذ أو فيه علة ونحو ذلك ، فالحكم على أن رجال إسناد الحديث ثقات هو شرط من شروط الصحيح الخمسة ، فلا بدّ من اجتماع الشروط لتصحيح أو تحسين ولا يكفي وجود شرط واحد .

مثاله :

قال أبو داود : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ : (( أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ  فَذَكَرَ حَدِيثَ الصَّلَاةِ ، قَالَ : فَلَمَّا سَجَدَ وَقَعَتَا رُكْبَتَاهُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ كَفَّاهُ ))([23]) .

فهذا الحديث إسناد رجاله ثقات رجال مسلم ، لكنه ضعيف ، وعلته الانقطاع بين عبد الجبار بن وائل وأبيه ؛ فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه كما ذكر العلماء .

قال يحيى بن معين : ( ولم يسمع من أبيه شيئاً ، إنما كان يحدث عن أهل بيته عن أبيه)([24]).

وقال : ( لم يسمع من وائل ، يقولون : إنه مات وهو حبل )([25]) يعني أن أمه به حبلى .

وقال ابن حبان([26]) : (ولد بعد موت أبيه بستة أشهر ، مات وائل بن حجر وأم عبد الجبار حامل به ، وهذا ضرب من المنقطع الذي لا تقوم به الحجة ) .

مثال آخر :

قال ابن ماجه : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ : (( إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ))([27]) .

فهذا الحديث إسناد رجاله ثقات ، لكنه ضعيف جدا .

قال البوصيري([28]) : (هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع . قال العلائي في المراسيل ، والمزي في التهذيب : إن رواية ميمون بن مهران عن عمر مرسلة ) .

وقال الشيخ الألباني([29]) : (وهذا سند ضعيف جدا ، وله علتان : الأولى : الانقطاع بين ميمون وعمر ، وبه أعلوه ، فقال البوصيري في الزوائد  ( ق 90/1 ) : (هذا الإسناد رجاله ثقات ، إلا أنه منقطع ، قال العلائي في المراسيل ، والمزي في التهذيب : إن رواية ميمون بن مهران عن عمر مرسلة) . وقال المنذري في الترغيب ( 4/164 ) : (ورواته ثقات مشهورون ، إلا أن ميمون بن مهران لم يسمع من عمر) ، وتبعه الحافظ في الفتح فقال ( 10/99 ) : (أخرجه ابن ماجه بسند حسن لكن فيه انقطاع) ، وغفلوا جميعا عن العلة الأخرى ، وهي : الثانية : وهي أن راويه عن جعفر بن برقان ليس هو كثير بن هشام كما هو ظاهر هذا الإسناد ، بل بينهما رجل متهم ، بين ذلك الحسنُ بن عرفة فقال : حدثنا كثير بن هشام الجزري عن عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران به ، أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص (178 ) . وعيسى هذا قال فيه البخاري والنسائي : (منكر الحديث) ، وقال أبو حاتم : (متروك الحديث) ، فلعله سقط من رواية جعفر بن مسافر وهما منه ، فقد قال فيه الحافظ : (صدوق ربما أخطأ) ، ثم رجعت إلى التهذيب ، فرأيته قد تنبه لهذه العلة ، فقال متعقبا لقول النووي الذي نقلته عنه آنفا : (فمشى على ظاهر السند ، وعلته أن الحسن بن عرفة رواه عن كثير ، فأدخل بينه وبين جعفر رجلا ضعيفا جدا، وهو عيسى بن إبراهيم الهاشمي) ) .

المقصود أنه لا يلزم تصحيح الإسناد بمجرد أن يكون رجال الإسناد ثقات ، أو قال فيه العلماء : رجاله ثقات . بل لا بد من اجتماع الشروط الحديث الصحيح السابقة .

وقال الشيخ الألباني وهو يتكلم على تخريج حديث ضعيف ورجاله ثقات([30]) : (فإذا عرفت هذا فلا فائدة كبرى من قول الهيثمي في المجمع ( 8/106 ) : (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة ، وفيه ضعف ) . وكذلك من قول الحافظ في الفتح  ( 5/139 ) : ( أخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات ) . لأن كون رجال الإسناد ثقات ليس هو كل ما يجب تحققه في السند حتى يكون صحيحا ، بل هو شرط من الشروط الأساسية في ذلك ، بل إن تتبعي لكلمات الأئمة في الكلام على الأحاديث قد دلني على أن قول أحدهم في حديث ما : (رجال إسناده ثقات) ، يدل على أن الإسناد غير صحيح ، بل فيه علة ولذلك لم يصححه ، وإنما صرح بأن رجاله ثقات فقط ، فتأمل).

قال ابن القيم([31]) : (إن ثقة الراوي شرط من شروط الصحة ، وجزء من المقتضى لها ، فلا يلزم من مجرد توثيقه الحكم بصحة الحديث . يوضحه : أن ثقة الراوي هي كونه صادقا لا يتعمد الكذب ، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل ، وهذا أحد الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي ، لكن بقي وصف الضَّبط والتَّحَفُّظ بحيث لا يعرف بالتَّغْفِيل وكثرة الغلط ، ثانيهما : وهو أن لا يَشُذَّ عن الناس فيروي ما يخالفُهُ فيه من هو أوثقُ منه وأكبر ، أو يروي ما لا يتابع عليه وليس ممن يحتمل ذلك ) .

المسألة الثانية : هل قول العلماء في الحديث : (أصح شيء في هذا الباب أو أحسن) يعنى صحة الحديث ؟

لا يلزم من قول العلماء : (هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب أو أحسن) الصحة ، فقد يكون الحديث ضعيفاً من جهة الإسناد ، أو المتن ، أو كليهما ، ولكن قالوا : (أصح) مقارنة بغيره مما يروى في نفس الباب ، فإذا كانت تلك الأحاديث ضعيفة جدا أو موضوعة فهذا الحديث ضعيف فقط ، فهو بالنسبة لها أصح منها ، فهو أصح شيء في هذا الباب ، وقد يكون صحيحاً ، المهم أن كلمة (أصح شيء في هذا الباب ) لا يلزم منها التصحيح ، فقد يكون الحديث صحيحاً ، وقد يكون ضعيفاً ، فينظر في إسناده ومتنه .

قال النووي -رحمه الله تعالى- : (لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث فإنهم يقولون : (هذا أصح ما جاء في الباب) وإن كان ضعيفاً ، ومرادهم أرجحة أو أقله ضعفاً )([32]) .

قال الزيلعي([33]) : (قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ : هَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي التَّصْحِيحِ ، فَقَوْلُهُ : هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ ، يَعْنِي أَشْبَهَ مَا فِي الْبَابِ ، وَأَقَلَّ ضَعْفًا … فَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْبُخَارِيِّ : أَصَحُّ شَيْءٍ ، لَيْسَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا ) .

المسألة الثالثة : هل قول العلماء في الحديث : (حديث جيد أو حديث قوي) يعنى الصحة؟

قول العلماء في الحديث : (حديث جيد أو حديث قوي) يعني أنه صحيح عندهم ، وهذا الاستعمال قليل نادر .

قال السيوطي([34]) : (فأما الجيد فقال شيخ الإسلام([35]) في الكلام على أصح الأسانيد لما حكى ابن الصلاح عن أحمد بن حنبل أن أصحها الزهري عن سالم عن أبيه عبارة أحمد : أجود الأسانيد كذا أخرجه الحاكم قال : هذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح ، ولذا قال البلقيني بعد أن نقل ذلك : من ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة ، وفي جامع الترمذي في الطب هذا حديث جيد حسن . وكذا قال غيره : لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم ، إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ، ويتردد في بلوغه الصحيح ، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح ، وكذا القوي) .

المسألة الرابعة : استدلال وعمل العالم بالحديث ولم يصرح بصحته هل يستلزم تصحيحه له؟

اعلم أن عمل العالم بالحديث والاستدلال به فيه التفصيل الآتي :

إذا كان المستدل أو العامل بالحديث ممن ليس له خبرة بصحيح الحديث وضعيفه ، فهذا لا يحتج باستدلاله أو عمله بأن الحديث صحيح ، وهذا تجده كثيرا في كتب الفقه ، فكم من حديث ضعيف بل موضوع استدل به كثير من الفقهاء على مسائل فقهية .

أما إذا كان المستدل أو العامل بالحديث عالما بالصحيح والضعيف ، وممن يميز ويعرف الأحاديث الصحاح والضعاف ويحكم عليها ، فالظاهر أن استدلاله بالحديث أو العمل به حكم له بالصحة أو الحسن إذا كان هذا الحديث هو الدليل الوحيد في هذه المسألة التي استدل بها ، أما لو كانت هناك أدلة أخرى فلا يستلزم استدلاله بالحديث أن يصححه ، لأنه ربما ذكره على سبيل الاستشهاد أو الاستئناس أو نحو ذلك .

قال ابن كثير([36]) : (قال([37]) : وكذلك فُتيا العالم أو عمله على وفق حديث ، لا يستلزم تصحيحه له . قلت : وفي هذا نظر ، إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث ، أو تعرض للاحتجاج به في فتياه أو حكمه ، أو استشهد به عند العمل بمقتضاه ) .

المسألة الخامسة : هل قول العالم : (إسناده صحيح) كقوله : (حديث صحيح) ؟ بمعنى هل يلزم من إطلاق العالم على الحديث بأن إسناده صحيح أن يكون الحديث صحيحاً وكذلك قوله : إسناده حسن) وقوله : (حديث حسن) ؟

إطلاق العالم على الحديث بأن إسناده صحيح لا يخلو من أمرين :

الأمر الأول : أنه يريد من هذا أنه اجتمعت في هذا الحديث شروط صحة الحديث المتقدمة وهي اتصال السند ، وعدالة الرواة ، وضبطهم من أول السند إلى آخره ، وكذلك لم يكن الحديث شاذا أو معللا وذلك لا يعرف بنفس الإسناد الذي يبحث فيه الباحث بل لا بد من جمع الطرق والأسانيد والمتون ، فإذا فعل ذلك فلا فرق أن يقول : (إسناده صحيح ) أو (حديث صحيح) .

الأمر الثاني : أنه يريد من هذا الإطلاق هو أنه بحث في هذا الإسناد فقط ، فحكم عليه بأنه صحيح ، فهنا لا ينبغي أن يقول : (حديث صحيح) بل يقول : (إسناد هذا الحديث صحيح) أو (إسناده صحيح) ، لأن قوله : (حديث صحيح) يوهم أنه تتبع الطرق والأسانيد والمتون لهذا الحديث فلم يجد فيه شذوذا أو علة تقدح فيه ، فلهذا حكم على الحديث بالصحة .

وعليه لا يلزم من قوله : (إسناده صحيح) أن يكون الحديث صحيحاً فقد يكون شاذا أو معللا ، وهذا يعرف بجمع الطرق والأسانيد ، نعم إطلاقه على الحديث بأن إسناده صحيح الأصل فيه أن يكون قد استوفى شروط الحديث الصحيح فيعمل به حتى يتبين ضعفه بالشذوذ أو العلة .

ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يحتاط ويتريث في حكمه على الحديث أو إسناده بالصحة أو الضعف ، وعليه أن يعرف أقوال أئمة الحديث في الحكم على الحديث تصحيحًا وتضعيفاً ، والحكم على الرواة تجريحًا وتعديلاً .

قال ابن الصلاح([38]) : (قَوْلُهُمْ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، أَوْ حَسَنُ الْإِسْنَادِ) دُونَ قَوْلِهِمْ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَدِيثٌ حَسَنٌ) ، لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ : (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ) ، وَلَا يَصِحُّ ، لِكَوْنِهِ شَاذًّا أَوْ مُعَلَّلًا .

غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ الْمُعْتَمَدَ مِنْهُمْ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ عِلَّةً ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْحُكْمُ لَهُ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ ، وَاللهُ أَعْلَمُ) .

وقال النووي([39]) : (وقولهم : حديث حسن الإسناد أو صحيحه ، دون قولهم : حديث صحيح أو حسن ؛ لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد دون المتن لشذوذ أو علة ، فإن اقتصر على ذلك حافظ معتمد فالظاهر صحة المتن وحسنه) .

وقال ابن القيم([40]) : (قد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحته ، فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور منها : صحة سنده ، وانتفاء علته ، وعدم شذوذه ونكارته ، وأن لا يكون روايه قد خالف الثقات أو شذ عنهم) .

وقال ابن كثير([41]) : (والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على المتن ، إذ قد يكون شاذاً أو معللاً ) .

 ([1])ينظر : المحكم (3/197) ، والمخصص (1/233) ، ومختار الصحاح (1/167) ، ولسان العرب (13/114) .

 ([2]) ينظر : معالم السنن (1/11) ، وعلل الجامع (9/457) ، وفتح المغيث (1/66) ، والموقظة ص (28) ، وعلوم الحديث ص (27) ، ونزهة النظر ص (92) .

 ([3])رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (8449) .

 ([4])تقريب التهذيب (1/720) .

 ([5])مقدمة ابن الصلاح ص (20) .

 ([6])رواه ابن حبان في صحيحه رقم الحديث (2945) ، والإمام أحمد في المسند رقم الحديث (2104) .

 ([7])تقريب التهذيب رقم (2764) .

 ([8])شرح السنة (13/45) .

 ([9])إرواء الغليل (3/363) .

 ([10])الباعث الحثيث (1/129) .

 ([11])القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد ص (38) .

 ([12])فتح المغيث (1/71) .

 ([13])مجموع الفتاوى (18/26) .

 ([14])ينظر :  سنن الكبرى للبيهقي (2/481) ، والكامل (4/254) ، وميزان الاعتدال (2/225) .

 ([15])ينظر :  الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/193) .

 ([16])مقدمة الجرح والتعديل ص (27) .

 ([17])تهذيب الكمال (29/482) رقم الترجمة (6452) .

 ([18])الموقظة ص (4) .

 ([19])سنن الترمذي (13/53) .

 ([20])ينظر :  الباعث الحثيث (1/139) ، واليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر (1/398) ، وتوضيح الأفكار ص (236) ، وفتح المغيث (1/164) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (110) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (113) ، والموقظة ص (8) ، ومرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/205) .

 ([21])نزهة النظر ص (79)  .

 ([22])وسبق أنه تعقب أن الترمذي قال عن أحاديث صحيحة ولا غبار عليها : (حسن صحيح) كحديث : ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ … )) . والحديث في صحيح البخاري . فكيف يكون قوله (حسن صحيح) دون الصحيح ؟!.

 ([23])رواه أبو داود في الصلاة/بَاب كَيْفَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ رقم الحديث (713) .

 ([24])ينظر : تاريخ يحيى بن مَعين، رواية الدُّوري (النص: 44) .

 ([25])ينظر : تاريخ يحيى بن مُعين، رواية الدوري (النص: 1890) .

 ([26])المجروحين (2/273)  ترجمة: مُحمد بن حُجر .

 ([27])رواه ابن ماجه في ما جاء في الجنائز/بَاب مَا جَاءَ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ رقم الحديث (1431) .

 ([28])مصباح الزجاجة (2/21) .

 ([29])السلسلة الضعيفة رقم (1004) .

 ([30])السلسلة الضعيفة (3/317) .

 ([31])الفروسية ص (73) .

 ([32])ينظر : تدريب الراوي ص (39) .

 ([33])نصب الراية (2/217) .

 ([34])تدريب الراوي ص (178) .

 ([35])الحافظ ابن حجر .

 ([36])الباعث الحثيث (1/290) .

 ([37])يعني ابن الصلاح .

 ([38])مقدمة ابن الصلاح ص (113) .

 ([39])التقريب للنووي (1/161) .

 ([40])الفروسية ص (246) .

 ([41])الباعث الحثيث (1/139) .

الحديث الصحيح

الحديث الصحيح .

المبحث الأول : تعريف الحديث الصحيح :

الصحيح لغة([1]) :  الصُّحُّ والصِّحَّةُ والصَّحاحُ خلافُ السُّقْمِ وذهابُ المرض ، وقد صَحَّ فلان من علته واسْتَصَحَّ ، صَحِيحُ الأَديم وصَحاحُ الأَديم بمعنى أَي غير مقطوع ، وهو أَيضاً البراءَة من كل عيب وريب .

إذا الصحيح هو السليم من المرض والعلة ، وغير المقطوع ، والبراءة من كل عيب وريب . هذه المعاني هي التي يصلح أن تذكر في بحثنا هنا وهي التي تناسب المعنى الاصطلاحي الآتي .

الصحيح لذاته اصطلاحا([2]) : ما اتصل إسناده بنقل العدل التام الضبط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة .

شرح التعريف :

قولنا : (ما) : اسم موصول بمعنى الذي .

وقولنا : (اتصل إسناده) : هذا هو الشرط الأول ، وهو اتصال السند ، وخرج به كل إسناد لم يتصل ، فخرج به المنقطع ، والمعضل ، والمعلق ، والمرسل ، وسيأتي تفصيلها .

والإسناد : هو الطريق الموصل للمتن ، أو سلسلة الرواة الذين يذكرهم المحدث ابتداءً بشيخه وانتهاءً بمن يسند إليه الخبر ، والمتن غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام .

وقولنا : (بنقل العدل) : العدالة هي حسن الإسلام ، مع السلامة من الفسق وخوارم المروءة ، فالعدالة ملكة تحث صاحبها على التقوى ، وتحجزه عن المعاصي والكذب وما يخل بالمروءة .

وخرج به من علم عدم عدالته كالكذاب ، والفاسق ، ونحوهما .

وخرج به من لم تعرف عدالته ويشمل :

أولا : مجهول العين وهو الذي لا يدرى من هو ولم يوثقه أحد ، ولم يعرف ذكره إلا من رواية واحد عنه ، وقد يكون ذلك الراوي عنه مجروحاً أو مجهولاً مثله .

ثانياً : مجهول الحال ، وهو الذي عرف برواية أكثر من ثقة عنه ، ولم يوثقه أحد . وهو المستور .

وقولنا : (التام الضبط) : أي كامل الضبط ، في حَالَتي التحمل وهو تلقي الحديث ، والأداء أي أداء الحديث وتبليغه ، من غير حصول قصور في  ضبطه .

فخرج المغفل كثير الخطأ ، بأن لا يميز  الصواب من غيره ، فيرفع الموقوف ، ويصل المرسل ، ويُصَحِّف الرواة وهو لا  يشعر .

وخرج به من خف ضبطه : وهو ما يسمى ضبطاً مما هو المعتبر في الحسن لذاته ، فخرج به الحديث الحسن ، كما سيأتي .

والضبط ينقسم إلى قسمين ، ضبط صدر ، وضبط كتاب .

الأول : ضبط صدر : وهو الذي يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره من حفظه متى شاء .

وشرطه :

  • أن يروي من استحضاره كما تلقى الحديث .
  • أن لا يغير المعنى إذا روى الحديث بالمعنى .

الثاني : ضبط كتاب : وهو صون كتابه الذي يحدث منه عن تطرق الخلل له من حين سمع فيه وقابله إلى أن يؤدي منه .

وشرطه :

  • أن يكون الذي يروي منه مصححاً يعني مطابقاً لما تلقاه فإنه في مجلس سماع الشيخ ، فلا بد أن يكون كتابه مطابقاً لما سمعه من الشيخ .
  • أن يحفظ كتابه من التبديل والتغيير .
  • أن يحدث من كتابه إذا كان ضبطه ضبط كتاب فقط ولا يحفظ حفظ صدر .

وقولنا : (عن مثله إلى منتهاه) : يعني أن اتصال السند والعدالة وتمام الضبط لابد أن تكون من أول السند إلى منتهاه .

وقولنا : (من غير شذوذ) : وهو ما رواه المقبول مخالفاً من هو أولى منه ، ويكون الشذوذ في السند أو المتن أو فيهما كما سيأتي تفصيله .

وقولنا : (ولا علة قادحة) : يعني ومن غير علة قادحة ، والعلة هي شيء خفي يقدح في السند أو المتن مع أن الظاهر السلامة منه ، ولا يطلع عليها في الغالب إلا الجهابذة في هذا الفن ، وقيدنا العلة بالقادحة لأن من العلل ما لا يكون قادحا في صحة الحديث ، كالاختلاف في ثمن البعير الذي باعه جابر –رضي الله عنه- للنبي ﷺ ، وسيأتي تفصيل ذلك كله إن شاء الله تعالى .

فيؤخذ من تعريف الحديث أن شروط الحديث الصحيح هي :

أولا : اتصال السند .

ثانياً : العدالة .

ثالثاً : تمام الضبط .

رابعاً : عدم الشذوذ .

خامساً : عدم العلة .

مثال الحديث الذي اجتمعت فيه الشروط السابقة في التعريف :

قال الإمام البخاري –رحمه الله تعالى- : حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -ﷺ يَقُولُ : (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))([3]) .

المبحث الثاني : أنواع الحديث الصحيح :

يتنوع الحديث الصحيح إلى نوعين :

النوع الأول : الحديث الصحيح لذاته ، وسبق تعريفه والمثال عليه .

النوع الثاني : الحديث الصحيح لغيره ، وهو ما قصر عن الحديث الصحيح لذاته إلا أنه وجد ما يرتقي به إلى الحديث الصحيح ككثرة الطرق ، أو المتابعات أو الشواهد ونحوها .

– فقد يكون الحديث إسناده حسناً وسيأتي بيانه ، وجاء طريق آخر سواء كان حسناً أو ضعيفاً ضعفاً يسيرا فإنه يرتقي الحديث بمجموع ذلك إلى الحديث الصحيح لغيره .

مثاله :

قال الإمام الترمذي حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ ))([4]) .

وهذا إسناد حسن ، لأجل الحسن بن عرفة ، قال عنه الحافظ بن حجر([5]) : (الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي أبو علي البغدادي صدوق) . وعبد الرحمن بن محمد ، قال عنه الحافظ بن حجر([6]) : (عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن زِيَاد الْمحَاربي أَبُو مُحَمَّد الْكُوفِي ، وَثَّقَهُ ابن معِين وَالنَّسَائِيّ وَالْبَزَّار وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم : صَدُوق إِذا حدث عَن الثِّقَات ، ويروي عَن المجهولين أَحَادِيث مُنكرَة فتفسد حَدِيثه ، وَقَالَ عُثْمَان الدَّارمِيّ : لَيْسَ بِذَاكَ ، وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد عَن أَبِيه : بلغنَا أَنه كَانَ يُدَلس ، وَلَا نعلمهُ سمع من معمر ، وَقَالَ الْبَاجِيّ : صَدُوق يهم . قلت : لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى حديثين مُتَابعَة) . وحسن إسناد الترمذي هذا الحافظ ابن حجر في الفتح([7]) .

والحديث صحيح لما رواه الترمذي قال : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((عُمْرُ أُمَّتِي مِنْ سِتِّينَ سَنَةً إِلَى سَبْعِينَ سَنَةً ))([8]) .

قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .

وهذا إسناد حسن رجاله ثقات ، غير محمد بن ربيعة قال عنه الحافظ ابن حجر([9]) : (محمد بن ربيعة الكلابي الكوفي بن عم وكيع صدوق من التاسعة مات بعد التسعين) .

فالحديث صحيح لغيره بمجموع هذين الطريقين عن أبي هريرة –رضي الله عنه- .

– وقد يكون الحديث إسناده ضعيفاً ضعفاً يسيرا ، وجاء من طرق أخرى بأسانيد فيها ضعف ، فينظر فيها الباحث فيغلب على ظنه أو يقطع بصحة هذا الحديث لكثرة طرقه .

مثاله :

قال الإمام أبو داود : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ))([10]) .

وهذا إسناد ضعيف لأجل يعقوب بن سلمة وأبيه ، قال الحافظ  ابن حجر([11]) : (يعقوب الليثي المدني مجهول الحال)  ، وقال عن والده([12]) : (سلمة الليثي مولاهم المدني لين الحديث ) .

والحديث وإن كان إسناده ضعيفاً إلا أنه حديث صحيح لكثرة شواهده منها : حديث أبي سعيد الخدري ، وسعيد بن زيد ، وسهل بن سعد ، وعائشة ، وأبي سبرة ، وأم سبرة ، وعلي ، وأنس –رضي الله عنهم أجمعين- . تنظر هذه الشواهد والكلام على أسانيدها في تلخيص الحبير (1/250) . وقال الألباني في صحيح أبي داود (1/168) : (حديث صحيح ، وقواه المنذري ، والحافظ العسقلاني ، وحسنه ابن الصلاح ، وقال الحافظ ابن كثير : إنه حديث حسن أو صحيح ، وقال ابن أبي شيبة : إنه ثبت ) . وقال في إرواء الغليل  (1/122) : (وقال الحافظ العراقي في محجة القرب في فضل العرب  ( ص 27 – 28 ) : هذا حديث حسن  ) .

تنبيه :

قد تكون كثرة طرق الحديث الذي يكون إسناده ضعيفاً تزيد من ضعف الحديث إذا كانت شديدة الضعف لفسق الراوي أو كذبه أو بها عللا تزيد الإسناد الأول وَهْناً على وهن ، وذلك يعرف عنده أهل هذا الفن ، وسيأتي تفصيل شيء من ذلك إن شاء الله تعالى .

قال الشيخ أحمد شاكر([13]) : (إذا كان ضعف الحديث لسوء حفظ الراوي أو نحو ذلك فإنه يرقى إلى درجة الحسن أو الصحة بتعدد طرقه إن كانت كذلك ، وأما إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب ، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ، فانه لا يرقى إلى الحسن بل يزداد ضعفاً إلى ضعف ، إذ أن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحديث لا يرويه غيرهم يرجح عند الباحث المحقق التهمة ويؤيد ضعف رواياتهم ، و بذلك يتبين خطأ المؤلف هنا -يعني السيوطي- وخطؤه في كثير من كتبه في الحكم على أحاديث ضعاف بالترقي إلى الحسن مع هذه العلة القوية ) .

ومن أمثلة ذلك :

ما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ : ((كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ ، فَقُدِّمَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَرْخٌ مَشْوِيٌّ ، فَقَالَ : «اللَّهُمُ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرِ» قَالَ : فَقُلْتُ : اللَّهُمُ اجْعَلْهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، فَقُلْتُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى حَاجَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ ، فَقُلْتُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى حَاجَةٍ ثُمَّ جَاءَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : «افْتَحْ» فَدَخَلَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : «مَا حَبَسَكَ عَلَيَّ»؟ فَقَالَ : إِنَّ هَذِهِ آخِرَ ثَلَاثِ كَرَّاتٍ يَرُدَّنِي أَنَسٌ يَزْعُمُ إِنَّكَ عَلَى حَاجَةٍ ، فَقَالَ : «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، سَمِعْتُ دُعَاءَكَ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُحِبُّ قَوْمَهُ» )) ([14]) .

حديث أنس هذا له ستة عشر طريقاً ذكرها ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/228-237) وذكر علة كل طريق ، والصحيح أنها خمسة عشر طريقاً كما ذكر ذلك الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة رقم (6575) ، والحديث منكر ، لا يصح سندا ولا متنا ، قال ابن الجوزي بعد ذكر جميع الطرق وعللها([15]) : (وقد ذكره ابن مردويه من نحو عشرين طريقا كلها مظلم ، وفيها مطعن فلم أر الإطالة بذلك أنبأنا محمد بن ناصر قال : أنبأنا محمد بن طاهر المقدسي قال كل طرقه باطلة معلولة ، وصنف الحاكم أبو عبد الله في طرقه جزء ضخما وكان قد أدخله في المستدرك على الصحيحين ، فبلغ الدارقطني فقال : يستدرك عليها حديث الطائر ، فبلغ الحاكم فأخرجه من الكتاب ، وكان يتهم بالتعصب بالرافضة ، وكان يقول : هو حديث صحيح ولم يخرج في الصحيح . وقال ابن طاهر : حديث الطائر موضوع إنما يجيء من سقاط أهل الكوفة عن المشاهير) .

وأما متنه فمنكر من وجوه :

الأول : أنه قال : ((اللَّهُمُ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ)) بصيغة أفعل للتفضيل وهذا يدل على أن علي –رضي الله عنه- أحب خلق الله إليه حتى من النبي ﷺ وهذا ظاهر البطلان .

الثاني : أن أنس –رضي الله عنه- كذب في قوله : (( إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى حَاجَةٍ )) وهو ﷺ لم يكن كذلك ، وهذا يكفي رد هذا الحديث فالصحابة كلهم عدول –رضي الله عنهم أجمعين – .

الثالث : وهو أشنع من الثاني أن النبي ﷺ أقر أنس –رضي الله عنه- على الكذب حيث إنه لم ينكر عليه ، وهذا باطل قطعاً .

وهذا لا شك أنه مسقط للحديث والتشيع في الحديث ظاهر وخاصة أن في رواته من هو كذلك ، وأيضا المتتبع لأسانيده يجد سرقه بعض الوضاعين – من الشيعة والضعفاء والمجهولين -، قد ركبوا عليه أسانيد كثيرة ، وهو لا يزداد بها إلا ضعفاً .

قال العقيلي([16]) : (ليس لهذا من حديث ثابت أصل … هذا الباب الرواية فيها لين وضعف لا نعلم فيه شيء ثابت ، وهكذا قال محمد بن إسماعيل البخاري ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية([17]) : (فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح ولا صححه أئمة الحديث ولكن هو مما رواه بعض الناس كما رووا أمثاله في فضل غير علي ، بل قد روي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة وصنف في ذلك مصنفات وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا و لا هذا .

الثاني : أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل قال أبو موسى المديني : قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة كالحاكم النيسابوري وأبي نعيم وابن مردويه . وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال : لا يصح …).

وأطال رحمه الله تعالى في بيان ضعفه ورد متنه .

وقال ابن كثير([18]) : (وقد روي أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري ، وصححه الحاكم ولكن إسناده مظلم وفيه ضعفاء .

وروي من حديث حبشي بن جنادة ولا يصح أيضا ، ومن حديث يعلى بن مره والإسناد إليه مظلم ، ومن حديث أبي رافع نحوه وليس بصحيح .

وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة منهم أبو بكر بن مردويه ، والحافظ أبو طاهر محمد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبد الله الذهبي ، ورأيت فيه مجلدا في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر بن جرير الطبري المفسر صاحب التاريخ ، ثم وقفت على مجلد كبير في رده وتضعيفه سندا ومتنا للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلم .

وبالجملة ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه والله أعلم) .

فالتقوية بكثرة الطرق ليست قاعدة مطردة بل لها ضوابط كما سبق ، قال الشيخ الألباني([19]) : (تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة ليست قاعدة مطردة – كما هو مشروح في علم المصطلح -، فكم من حديث كثرت طرقه ، ومع ذلك ضعفه العلماء كحديث : “من حفظ على أمتي أربعين حديثاً …” وغيره . ولذلك قال الحافظ الزيلعي في كتابه القيم “نصب الراية لأحاديث الهداية” (1/358 -360 ) : “وأحاديث الجهر – وإن كثرت رواتها ، لكنها – كلها ضعيفة ، وكم من حديث كثرت رواته ، وتعددت طرقه ، وهو حديث ضعيف ، كحديث الطير”.

ومن هذا القبيل حديث قصة الغرانيق ، ولي فيها رسالة نافعة مطبوعة .

ولهذا لم نر الحفاظ المتقدمين أعملوا هذه القاعدة هنا ، بل صرحوا بضعف الحديث([20])  -كما تقدم عن الإمام البخاري والعقيلي والبزار ، وأبي يعلى الخليلي – ، بل إن هذا نقل رده عن جميع أهل الحديث  -كما سبق – ) .

المبحث الثالث : العمل بالحديث الصحيح :

أجمع العلماء على وجوب العمل بالحديث الصحيح ، وهو حجة في الأحكام والعقائد ، دون تفريق بينهما ، ولا عبرة بخلاف من خالف في ذلك فإن خلافه يعد شذوذا([21]) ، وممن نقل الإجماع الخطيب البغدادي([22]) ، وابن حزم([23]) ، وأبو الحسين البصري([24]) ، وأبو يعلى([25]) ، وأبو الوليد الباجي([26]) ، وإمام الحرمين([27]) ، والغزالي([28]) ، وابن الحاجب([29]) ، وأبو الخطاب([30]) ، والسمرقندي([31]) ، وشمس الدين الأصفهاني([32]) ، وابن برهان([33]) ، وابن السمعاني([34]) ، وابن قدامة([35]) ، وغيرهم كثير .

قال الإمام الشافعي -رحمهم الله تعالى- ([36]) : (ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه ، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبَّته ، جاز لي) .

وقال ابن عبد البر([37]) : (ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول الله ﷺ أو أجمعت عليه الأمة ، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه) .

وأدلة وجوب قبول خبر الواحد الصحيح والعمل به كثيرة جدا ، ولو أردنا أن نستقصيها لخرجنا بمجلدات ، وأكثر من تكلم عليها فيما قرأت الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتابه الرسالة([38]) ، والإمام البخاري في صحيحه في كتاب أخبار الآحاد ، وغيرهما ، وقد أطلت هذا المبحث في كتابي التنقيحات في شرح تسهيل الطرقات لنظم الورقات في مبحث الآحاد فراجعه غير مأمور .

المبحث الرابع : أول من جمع الحديث الصحيح :

قال ابن كثير([39]) : (أول من اعتنى بجمع الصحيح أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، وتلاه صاحبه وتلميذه أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري . فهما أصح كتب الحديث ) .

فأول من اعتنى بجمع الصحيح المجرد ، هو الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري -رحمه الله تعالى- (ولد سنة 194 هـ وتوفي سنة 256 هـ) في كتاب أسماه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ﷺ وسنته وأيامه) .

وسبب تأليفه لكتابه الجامع ما ذكره الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى-([40]) فإنه قال : (فَقَلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وعثمان بن أبي شيبة ، وغيرهم من النبلاء ، ومنهم من صنف على الأبواب ، وعلى المسانيد معا كأبي بكر بن أبي شيبة ، فلما رأي البخاري -رضي الله عنه- هذه التصانيف ورواها ، وانتشق رياها ، واستجلى محياها ، وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح ، والتحسين ، والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال : لِغَثِّه سمين فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين ، وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه … قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري : كنا عند إسحاق بن راهويه فقال : لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله ﷺ . قال : فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع الجامع الصحيح . وروينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس قال سمعت البخاري يقول : رأيت النبي ﷺ وكأنني واقف بين يديه ، وبيدي مروحة أذب بها عنه ، فسألت بعض المعبرين فقال لي : أنت تذب عنه الكذب ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح … قال البخاري : ما كتبت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين ) .

ثم تلاه تلميذه الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري ، (ولد سنة 204 هـ وتوفي سنة 261 هـ)  في كتاب أسماه (المسند الصحيح) .

المسألة الأولى : شرط الشيخين البخاري ومسلم في صحيحيهما :

سبق أن شروط الحديث الصحيح خمسة وهي اتصال السند ، والعدالة ، وتمام الضبط ، وعدم الشذوذ ، وعدم العلة ، وذكر كثير من العلماء أن الإمام البخاري اشترط أن يكون الراوي الذي يروي عن شيخه ثبت له اللقاء ولو مرة واحدة بشيخه ، وأما الإمام مسلم لا يشترط ثبوت اللقاء حتى يحكم بالاتصال بل يثبت عنده الاتصال بالمعاصرة ، وأن لا يكون الراوي ممن ترد روايته بالتدليس ، وأن لا يوجد دليل أو قرينة تدل على انتفاء اللقاء .

وهذا البحث في الحديث الذي قال فيه الراوي (عن) ونحوها ولم يصرح بالتحديث ولم يكن مدلسا ، كما سيأتي تفصيل ذلك في الحديث المدلس والمعنعن إن شاء الله تعالى .

ولا شك أن ما ذكر من أنه شرط للبخاري في صحيحه يزيد من قوة الاتصال وصحة الحديث ، وأيضا صحيح البخاري يرجح على صحيح مسلم من وجوه ، قال ابن كثير([41]) : (والبخاري أرجح ، لأنه اشترط في إخراجه الحديث -في كتابه هذا- أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه ، ولم يشترط مسلم الثاني ، بل اكتفى بمجرد المعاصرة ) .

وقال الحافظ ابن حجر([42]) : (فالصفاتُ التي تدور عليها الصحةُ في كتابِ البُخَارِيِّ أتمُّ منها في كتابِ مسلمٍ وأشدّ ، وشَرْطُهُ فيها أقوى وأسدّ .

أما رُجْحانه من حيثُ الاتصال : فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لِقَاءُ مَنْ روى عنه، ولو مرةً ، واكتفى مسلمٌ بمطْلَقِ المعاصرة …

وأما رُجْحانُه مِنْ حيثُ العدالةُ والضبطُ : فلأنّ الرجالَ الذين تُكُلِّمَ فيهم مِن رجالِ مسلمٍ أكثرُ عدداً من الرجال الذين تُكُلِّمَ فيهم مِنْ رجالِ البُخَارِيّ ، مع أن البخاريَّ لم يُكْثِرْ من إخراج حديثهم ، بل غالبُهم من شيوخه الذين أَخذ عنهم ، ومارس حديثهم ، بخلافِ مسلمٍ في الأمرين.

وأما رُجحانُه من حيثُ عدمُ الشذوذِ والإعلالِ : فلأن ما انْتُقِدَ على البُخَارِيّ من الأحاديث أقلُّ عدداً مما انْتَقِدَ على مسلمٍ ، هذا مع اتفاق العلماء على أن البخاريَّ كانَ أجلَّ مِنْ مُسْلم في العلوم ، وأعرفَ بصناعةِ الحديث منه ، وأن مسلماً تلميذه وخِرِّيجُهُ ولم يَزَلْ يستفيدُ منه ويَتَّبع آثارَه ، حتى لقد قال الدارقطنيُّ : لولا البخاريُّ لما راحَ مسلمٌ ولا جاء ) .

إلا أن ما ينسب  للإمام البخاري من أنه اشترط العلم بثبوت اللقيّ مع المعاصرة في صحيحه ، وكذلك نسب إلى علي بن المديني([43]) ، فهذه النسبة فيها نظر ، لأن الظاهر من صنيع الإمام البخاري أنه كغيره من الأئمة في عدم اشتراط ذلك ، فإنه لا يختلف اثنان في أن الإمام البخاري لم يصِّرح بالشرط المنسوب إليه لا في صحيحه ولا خارج صحيحه ، وما كان كذلك لا يصح أن ينسب إليه أنه يشترط ذلك سواء كان شرط صحة أو كمال ، فالإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كبقية العلماء في أن العلم بثبوت اللقيّ ليس بشرط ، واثبات أنه يشترط العلم بثبوت اللقيّ يحتاج إلى دليل إلا أن الإمام البخاري يغلب عليه التحري في كتابه الجامع الصحيح ، ومما يدل على ذلك ما يأتي :

أولا : أن الإمام البخاري لم يصرح بالشرط المنسوب إليه ، ولو كان شرطا عنده لصرح به ، أو لعلمه تلامذته ، يؤيده :

ثانياً : قال الإمام مسلم([44]) : (وَزَعَمَ الْقَائِلُ الَّذِي افْتَتَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِهِ ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ سُوءِ رَوِيَّتِهِ ، أَنَّ كُلَّ إِسْنَادٍ لِحَدِيثٍ فِيهِ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ ، وَقَدِ أحَاطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدْ كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَى الرَّاوِي عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَشَافَهَهُ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ مِنْهُ سَمَاعًا ، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمَا الْتَقَيَا قَطُّ ، أَوْ تَشَافَهَا بِحَدِيثٍ ، أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عِنْدَهُ بِكُلِّ خَبَرٍ جَاءَ هَذَا الْمَجِيءَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا مِنْ دَهْرِهِمَا مَرَّةً فَصَاعِدًا ، أَوْ تَشَافَهَا بِالْحَدِيثِ بَيْنَهُمَا ، أَوْ يَرِدَ خَبَرٌ فِيهِ بَيَانُ اجْتِمَاعِهِمَا وَتَلَاقِيهِمَا مَرَّةً مِنْ دَهْرِهِمَا فَمَا فَوْقَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ ، وَلَمْ تَأْتِ رِوَايَةٌ تُخْبِرُ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ عَنْ صَاحِبِهِ قَدْ لَقِيَهُ مَرَّةً ، وَسَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِهِ الْخَبَرَ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا حُجَّةٌ ، وَكَانَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ سَمَاعُهُ مِنْهُ لِشَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ فِي رِوَايَةٍ مِثْلِ مَا وَرَدَ … وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْحَمُكَ اللهُ فِي الطَّعْنِ فِي الْأَسَانِيدِ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ ، مُسْتَحْدَثٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ ، وَلَا مُسَاعِدَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الشَّائِعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَاتِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ ثِقَةٍ رَوَى عَنْ مِثْلِهِ حَدِيثًا ، وَجَائِزٌ مُمْكِنٌ لَهُ لِقَاؤُهُ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا كَانَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا وَلَا تَشَافَهَا بِكَلَامٍ فَالرِّوَايَةُ ثَابِتَةٌ ، وَالْحُجَّةُ بِهَا لَازِمَةٌ ، إِلَّا أَنَّ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذَا الرَّاوِي لَمْ يَلْقَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ، أَوْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا ، فَأَمَّا وَالْأَمْرُ مُبْهَمٌ عَلَى الْإِمْكَانِ الَّذِي فَسَّرْنَا ، فَالرِّوَايَةُ عَلَى السَّمَاعِ أَبَدًا حَتَّى تَكُونَ الدَّلَالَةُ الَّتِي بَيَّنَّا ، فَيُقَالُ لِمُخْتَرِعِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي وَصَفْنَا مَقَالَتَهُ ، أَوْ لِلذَّابِّ عَنْهُ : قَدْ أَعْطَيْتَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِكَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنِ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ حُجَّةٌ يَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ ، ثُمَّ أَدْخَلْتَ فِيهِ الشَّرْطَ بَعْدُ ، فَقُلْتَ : حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُمَا قَدْ كَانَا الْتَقَيَا مَرَّةً فَصَاعِدًا ، أَوْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا ، فَهَلْ تَجِدُ هَذَا الشَّرْطَ الَّذِي اشْتَرَطْتَهُ عَنْ أَحَدٍ يَلْزَمُ قَوْلُهُ ؟ وَإِلَّا فَهَلُمَّ دَلِيلًا عَلَى مَا زَعَمْتَ ، فَإِنِ ادَّعَى قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ بِمَا زَعَمَ مِنْ إِدْخَالِ الشَّرِيطَةِ فِي تَثْبِيتِ الْخَبَرِ ، طُولِبَ بِهِ ، وَلَنْ يَجِدَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ إِلَى إِيجَادِهِ سَبِيلًا) .

فقول الإمام مسلم هذا والإجماع الذي نقله يدل دلالة واضحة أن اللقاء ليس بشرط في الحديث المعنعن من غير المدلس ، ويبعد أن يكون الإمام البخاري يشترط هذا الشرط مع نقل مسلم للإجماع ، ومسلم تلميذ البخاري فلا يتصور هذا التجهيل والقول الشديد الشنيع في شيخه ، ولا يتصور أن الإمام البخاري يشترط هذا الشرط ولا يعلم به تلميذه الإمام مسلم ، فالإمام مسلم يشترط في صحة الحديث المعنعن المعاصرة ، وأن لا يكون الراوي ممن ترد روايته بالتدليس ، وأن لا يوجد دليل أو قرينة تدل على انتفاء اللقاء .

ثالثاً : أنه وجدت أحاديث في صحيح البخاري تدل على عدم اشتراط العلم بثبوت اللقاء ، نذكر منها حديثا واحد :

قال الإمام البخاري حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ ، سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))([45]) .

فسماع ولقاء أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان –رضي الله عنه- غير ثابت ومع ذلك اكتفى الإمام البخاري بالمعاصرة لعدم وجود  دليل أو قرينة تدل على انتفاء اللقاء ، قال ابن أبي حاتم الرازي : (قَالَ أَبِي : أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ لَيْسَ تَثْبُتْ رِوَايَتُهُ عَنْ عَلِيٍّ ، فَقِيلَ لَهُ : سَمِعَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ؟ قَالَ : قَدْ رَوَى عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ سَمَاعًا)([46]) . وقال أبو حاتم الرازي : (أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَثْرَمُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ : وَذَكَرَ شُعْبَةَ لَمْ يَسْمَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ مِنْ عُثْمَانَ وَلَكِنَّهُ سَمِعَ مِنْ عَلِيٍّ)([47]) .

وحاول الحافظ ابن حجر الدفاع عن هذا لكن أقر في النهاية بالمعاصر قال -رحمه الله تعالى-([48]) : (ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة ، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج ، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان ، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان -رضي الله عنه- ولا سيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره ، فكان هذا أولى من قول من قال : إنه لم يسمع منه) .

فهنا لم يأت بدليل على العلم بثبوت اللقاء وإنما اكتفى بالمعاصرة ، وأما مسألة القراءة التي ذكرها الحافظ من أنه قرأ القرآن على عثمان –رضي الله عنه- تحتاج إلى إثبات ولهذا لم يقطع الحافظ بها لعلمه بعدم ثبوتها وإنما اكتفى بقوله : اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان . والله أعلم .

رابعاً : قال الترمذي([49]) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا سلمة بن رجاء ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي واقد الليثي ، قال : ((قدم النبي ﷺ المدينة وهم يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم فقال : ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة )) . سألت محمدا([50]) عن هذا الحديث فقلت له : أترى هذا الحديث محفوظا ؟ قال : نعم . قلت له : عطاء بن يسار أدرك أبا واقد ؟ فقال : ينبغي أن يكون أدركه ، عطاء بن يسار قديم .

فاكتفى الإمام البخاري هنا بالمعاصرة ولم يشترط العلم بثبوت اللقاء .

المسألة الثانية : ما المراد من قول العلماء –رحمهم الله تعالى- عند تخريج الحديث خارج الصحيحين : على شرط البخاري ومسلم أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم ؟

الراجح من أقوال العلماء بأن المراد به رجال السند مع باقي شروط الحديث الصحيح ، وهو اختيار الحافظ ابن حجر([51]) ، وبهذا قال ابن الصلاح([52]) والنووي([53]) ، وابن دقيق العيد والذهبي([54]) ، فإذا قيل في حديث بأنه على شرط الشيخين فالمراد به أن رجال الحديث رجال البخاري ومسلم ، وإذا قيل بأنه على شرط البخاري فرجال الإسناد رجال البخاري ، أو فيهم واحد من رجال البخاري فقط ، والباقون متفق عليهما ، وإذا قيل بأنه على شرط مسلم فرجال الحديث رجال مسلم ، أو فيهم واحد من رجال مسلم فقط ، والباقون متفق عليهما([55]) ،  إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه ليس كل من أخرج عنه البخاري أو مسلم يحكم عليه بكونه على شرطه مطلقاً ، وإنما يحكم عليه بكونه على شرطه بما يأتي([56]) مع باقي شروط الحديث الصحيح :

أولا : إذا أخرجا عنه في الأصول لا في المتابعات والشواهد ، فمن خرجا له في غير الأصول ، فليس على شرط الصحيح .

ثانياً : أنهما يخرجان حديث الراوي عن بعض شيوخه ، ولا يخرجانه عن شيخ معين مع ثقة ذلك الشيخ ؛ لكون الراوي عنه ضعيفاً فيه ، وذلك كسفيان بن حسين خرجا له ما لم يكن من حديثه عن الزهري ؛ لأنه كان ضعيفاً فيه .

ثالثاً : يخرجان للشيخ في بعض حديثه ضعف ، فينتقيان منه ما هو محفوظ دون سائره ، كتخريجهما لإسماعيل بن أبي أويس وشبهه .

رابعاً : يخرجان من روايات الثقات الموصوفين بالتدليس ما ثبت أنهم لم يدلسوا فيه ، أو الذين اختلطوا في أواخر أعمارهم ، ما ثبت أنه ليس مما ضر به الاختلاط .

وهذا مما أغفله المستدركون على الصحيحين ما لم يخرجاه ، وأبرزهم الحاكم في كتابه المستدرك .

وعليه فالأفضل نطلق على الحديث الذي رجال إسناده رجال الشيخين : إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين بدل قولنا : على شرط الشيخين ، وكذا نقول على الحديث الذي رجاله رجال البخاري : إسناده صحيح ورجاله رجال البخاري ، وكذا مسلم ، إلا إذا كان إسناد الحديث كسلسلة إسناد الشيخين فنقول : حديث على شرط الشيخين ، أو كسلسلة إسناد البخاري فنقول : على شرط البخاري ،  أو كسلسلة إسناد مسلم فنقول : على شرط مسلم . والله أعلم .

المسألة الثالثة : لم يستوعب البخاري ومسلم في صحيحيهما جميع الأحاديث الصحيحة :

لم يستوعب الصحيحان جميع الأحاديث الصحيحة ،  فقد قال البخاري : (مَا أدخلت فِي كتاب «الْجَامِع» إلَّا مَا صحَّ ، وَتركت من الصِّحَاح لحَال الطول)([57]) ، وسأل أَبُو بَكْرٍ الإمام مسلم عن حديث فَقَالَ : (هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ فَقَالَ : لِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَا هُنَا ؟ قَالَ : لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْتُهُ هَا هُنَا إِنَّمَا وَضَعْتُ هَا هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ)([58]) .

وفسر ابن الصلاح قوله : ( ما أجمعوا عليه ) بأمرين ، قال الإمام النووي([59]) : (قال الشيخ وجوابه من وجهين : أحدهما : أن مراده أنه لم يضع فيه إلا ما وجد عنده فيه شروط الصحيح المجمع عليه وإن لم يظهر اجتماعها في بعض الأحاديث عند بعضهم . والثاني : أنه أراد أنه لم يضع فيه ما اختلفت الثقات فيه في نفس الحديث متنا أو إسنادا ولم يرد ما كان اختلافهم إنما هو في توثيق بعض رواته وهذا هو الظاهر من كلامه ) .

المبحث الخامس : مراتب الصحيح بالنظر لرواية البخاري ومسلم :

اعلم أن الحديث الصحيح من حيث الترجيح والقوة على الترتيب الآتي :

الأول : صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعا .

الثاني : صحيح انفرد به البخاري عن مسلم .

الثالث : صحيح انفرد به مسلم عن البخاري .

الرابع : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه .

الخامس : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه .

السادس : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه .

السابع : صحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما .

 ([1]) ينظر : تهذيب اللغة (3/404) ، والمحكم (2/494) ، ولسان العرب (7/287) ، والقاموس المحيط ص (291) .

 ([2]) ينظر : نزهة النظر ص (67) ، وفتح المغيث ص (7) ، والتقيد والإيضاح ص (24) ، وتدريب الراوي (1/39) ، وإرشاد الفحول (1/172) ، والموقظة ص (1) .

 ([3]) رواه البخاري في بدء الوحي/باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ رقم الحديث (1) .

 ([4]) رواه الترمذي في الدعوات عن رسول الله/بَاب فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ رقم الحديث (3473)  .

 ([5]) تقريب التهذيب رقم (1255) .

 ([6]) فتح الباري (1/418) .

 ([7]) فتح الباري (11/240) .

 ([8]) رواه الترمذي في الزهد عن رسول الله/بَاب مَا جَاءَ فِي فَنَاءِ أَعْمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ رقم الحديث (2253)  .

 ([9]) تقريب التهذيب رقم (5877)  .

[10])) رواه أبو داود في الطهارة /بَاب فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الْوُضُوءِ رقم الحديث (92) . وقد رواه أحمد في المسند رقم الحديث (9418) ، والترمذي في العلل الكبير (1/111) ، والطبراني في الأوسط رقم (8076) ، والدارقطني (1/79) ، والحاكم (1/146) ، والبيهقي (1/43) ، والبغوي في شرح السنة رقم (209) .

 ([11]) تقريب التهذيب رقم (7818) .

 ([12]) تقريب التهذيب رقم (2518) .

 ([13]) شرح ألفية السيوطي ص (14) .

 ([14]) رواه الحاكم في المستدرك (3/141) رقم (4650) ، والنسائي في الكبرى (5/107) رقم (8398) ، والترمذي في سننه (5/636) رقم الحديث (372) ، والطبراني في المعجم الأوسط (2/207) ، والمعجم الكبير (1/235) رقم (730) ، والبزار في مسنده (14/80) ، وغيرهم .

 ([15]) العلل المتناهية (1/236) .

 ([16]) الضعفاء الكبير (1/46) .

 ([17]) منهاج السنة (7/263) .

 ([18]) البداية والنهاية (7/390) .

 ([19]) السلسلة الضعيفة (14/181) .

 ([20]) يعني حديث أنس –رضي الله عنه- المتقدم .

 ([21])ينظر : تقويم الأدلة ص (170) ، وتيسير التحرير (3/82) وعَدَّ قول المخالف شاذاً ، والفائق في أصول الفقه (3/398) ، ونفائس الأصول (3/554) ، والمستصفى (2/189) ، ولباب المحصول في علم الأصول (1/348) ، والإحكام للآمدي (2/51) ، والمحصول (4/353) ، وشرح غاية السول ص (215) ، وشرح اللمع (2/309) ، والوصول إلى الأصول (2/163) ، وتحفة المسؤول (2/348) ، والفصول في أصول الفقه ص (75) ، والبرهان (1/388) ، والآيات البينات (3/290) ، والغيث الهامع (2/493) ، وتشنيف المسامع (2/961) ، ونهاية السول للإسنوي (2/685) ، وأصول السرخسي (1/21) ، وشرح الكوكب المنير (2/361) ، والعُدة (3/859) ، ومختصر الصواعق ص (502) ، والتبصرة ص (303) ،  ونهاية الوصول للهندي (7/2812) ، وشرح مختصر الروضة (2/118) ، والمسودة (1/476) ، والمعتمد (2/573) ، وشرح الورقات لابن الفركاح ص (228) ، وأصول مذهب الإمام أحمد ص (287) ، ومعالم أصول الفقه ص (146) ، وإرشاد الفحول ص (93) ، وروضة الناظر (1/370) ، والتحقيقات في شرح الورقات ص (471) ، والتحبير شرح التحرير (4/1832) ، والمهذب في علم أصول الفقه (2/689) ، وإتحاف ذوي البصائر (3/151) ، ومذكرة الشنقيطي ص (187) ، وخبر الواحد وحجيته ص (221) ، وخبر الآحاد وأثره في اختلاف الفقهاء ص (50) ، وخبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته (2/53) ، وحكم الاحتجاج بخبر الواحد إذا عمل الراوي بخلافه ص (35) ، والرسالة الإمام الشافعي ص (401) .

 ([22])الكفاية ص (76) .

 ([23])  الإحكام (1/110) .

 ([24])المعتمد (2/591) .

 ([25])العدة (3/865) .

 ([26])  أحكام الفصول ص (334).

 ([27])  البرهان (1/389) .

 ([28])المستصفى (2/189) .

 ([29])رفع الحاجب (2/334)  .

 ([30])التمهيد (3/54) .

 ([31])ميزان الأصول ص (451) .

 ([32])شرح المنهاج (2/557)  .

 ([33])الوصول (2/168) .

 ([34])القواطع ص (656) .

 ([35])روضة الناظر (1/370) .

 ([36])الرسالة ص (457) .

 ([37])جامع بيان العلم وفضله (2/96) .

 ([38])ص (401 – 471) .

 ([39])الباعث الحثيث  (1/102) .

 ([40])مقدمة فتح الباري ص (8) .

 ([41])الباعث الحثيث  (1/102) .

 ([42])نزهة النظر ص (208) .

  ([43])أول من نسب هذا الشرط إلى البخاري وعلي بن المديني هو القاضي عياض المتوفى (544هـ) في كتابه إكمال المعلم ، ولم يذكر دليلا على ذلك .

  ([44])صحيح مسلم (1/28) .

  ([45])رواه البخاري فضائل القرآن/بَابٌ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ رقم الحديث (5027) .

  ([46])المراسيل ص (107) .

  ([47])المراسيل ص (107) .

  ([48])المراسيل ص (107) .

  ([49])العلل الكبير (2/39) رقم (267) .

  ([50])يعني الإمام البخاري .

 ([51])ينظر : نزهة النظر ص (89) .

 ([52])ينظر : علوم الحديث ص (18) ، وصيانة صحيح مسلم ص (99) .

 ([53])ينظر : شرح مسلم (1/26) .

 ([54])ينظر : التقييد والإيضاح ص (30) ، والنكت لابن حجر (1/319) .

 ([55])وبعضهم يقول : إن معنى على شرط الشيخين ، أي : أن هذا الحديث قد توفرت فيه الشروط التي يشترطها الشيخان في صحيحيهما ، وإن لم يكن رجاله رجالهما ، وهذا ليس صحيحاً ، وقيل غير ذلك . ينظر : فتح المغيث (1/48) ، ومعرفة علم الحديث للحاكم ص (62) ، والمدخل له ص (87) ، وشروط الأئمة الستة لابن طاهر ص (10) ، وشروط الأئمة الخمسة لابن طاهر ص (43) .

 ([56])ينظر ما سيأتي : تحرير علوم الحديث (3/163) .

 ([57])ينظر : البدر المنير (1/297) ، تغليق التعليق (5/420) ، تدريب الراوي (1/98) .

 ([58])صحيح مسلم (2/371) .

 ([59])شرح مسلم (1/16) .

مباديء علم الحديث

علم مصطلح الحديث

إن كلّ علم يريد الإنسان أن يتعلمه عليه أن يعرف مبادئه العشرة المجموعة في قول الناظم:

إن مبادئ كل علم عشــــرة *** الحد والموضوع ثم الثــمرة

ونسبته وفضله والواضــــع*** الاسم الاستمداد حكم الشــارع

مسائل والبعض بالبعض اكتـفى*** ومن درى الجميع حاز الشـرفا

اعلم أن علم الحديث ينقسم إلى قسمين :

القسم الأول : علم الحديث دراية .

وسأتكلم عن مبادئه العشرة .

القسم الثاني : علم الحديث رواية .

وسأتكلم عن مبادئه العشرة .

القسم الأول : علم الحديث دراية :

فلنشرع في مبادئه العشرة :

المبدأ الأول : الحد : علم الحديث دراية :

علم الحديث دراية ، هو علم مصطلح الحديث ، وهو المقصود بالشرح والبحث ، فهو مركب من كلمتين مضاف ومضاف إليه ، فالمضاف المصطلح ، والمضاف إليه الحديث ، والمضاف وهو المصطلح يخدم المضاف إليه وهو الحديث .

تعريفه :

معرفة القواعد التي يُعرف بها حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد وما يتبع ذلك من كيفية التحمل والأداء والضبط .

شرح التعريف :

قولنا : (معرفة القواعد) المعرفة تشمل القطع والظن ، فمعرفة القواعد قد يكون يقينياً وقد يكون ظنيًّا .

وقولنا : (القواعد) جمع قاعدة ، والمراد بها هنا الطرق والأسس التي وضعها علماء الحديث لمعرفة  قبول الحديث أو رده .

وقولنا : (يُعرف بها حال الراوي والمروي) يعني يعرف بهذه القواعد التي وضعها علماء الحديث حال الراوي في السند ، وحال المروي وهو المتن .

وقولنا : (من حيث القبول والرد) يعني هذه القواعد التي وضعها علماء الحديث لمعرفة الإسناد والمتن من حيث قبول الراوي إذا كان عدلا ، ورده إن كان غير ذلك ، وقبول المروي إن كان صحيحاً أو حسناً ، ورده إن كان دون ذلك .

وقولنا :  (وما يتبع ذلك من كيفية التحمل) يتبع القبول والرد للراوي أو المروي من كيفية التحمل ، يعني تحمل الراوي للحديث ، وسن التحمل ، وروايته عن الشيخ بالقراءة عليه ، أو السماع منه ، والإجازة ونحو ذلك .

وقولنا : ( والأداء) أي كيفية أداء الحديث ، هل أداه من حفظه أو كتابه ، ونحو ذلك .

وقولنا : (والضبط) أي ضبط الراوي للمروي ، وهو على قسمين : ضبط صدر ، وضبط كتاب . كلّ ذلك سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .

المبدأ الثاني : موضوعه :

موضوعه الراوي والمروي ، أو قل : السند والمتن من حيث القبول والرد .

وكان موضوعه الراوي والمروي لأنه يبحث عن العوارض الذاتية للراوي والمروي ، مثل : الحديث الصحيح والحسن يستدل بهما ، والحديث الضعيف لا يستدل به ، الراوي الضعيف يضعّف به المروي ، ونحو ذلك .

المبدأ الثالث : ثمرته :

فائدة هذا العلم تميز الحديث الصحيح من الضعيف ، والمقبول من المردود ، فيعمل بالأول ويستدل به ، ولا يعمل بالثاني ، أو قل : فائدته حفظ سنة النبي ﷺ من أن يدخل فيها ما ليس منها ، فيعمل بما صح منها ويترك ما خالف ذلك .

المبدأ الرابع : نسبته :

نسبة علم الحديث إلى العلوم الأخرى ، والعلاقة بينهما تباين حيث إن هذا علم له أبواب مختلفة عن علم الأصول ، وعن علم الفقه ، والعلوم الشرعية الأخرى ، ومن حيث إن العالم لا يستغني عنه فهو جزء من العلوم الشرعية .

وهذا العلم يخدم حديث النبي ﷺ من حيث قبوله ورده ، فهو من علوم الوسائل .

المبدأ الخامس : فضله :

فضل هذا العلم عظيم لأن حفظ حديث سيد المرسلين ﷺ حفظ للدين ، فهو علم حري بالعناية ، وسلامة الأحكام المستنبطة متوقفة على ثبوت أدلتها من الأحاديث المرفوعة ، وأقوال الصحابة الموقوفة .

قال الحافظ ابن رجب([1]) : (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها ، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك ، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً ، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً ، وفي ذلك كفاية لمن عقل ، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل) .

وقال([2]) : ( ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحه من سقيمه ، وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل ، فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله ،  ويلتبس حقه بباطل ولا يثق بما عنده من ذلك ) .

وقال الخطيب البغدادي([3]) : (طاعة الله في طاعة رسوله ﷺ ، وطاعة رسوله ﷺ في إتباع سننه إذ هي النور البهي ، والأمر الجلي ، والحجة الواضحة ، والمحجة اللائحة ، من تمسك بها اهتدى ، ومن عدل عنها ضل وغوى ، ولما كان ثابت السنن والآثار وصحاح الأحاديث المنقولة والأخبار ملجأ المسلمين في الأحوال ، ومركز المؤمنين في الأعمال إذ لا قوام للإسلام إلا باستعمالها ، ولا ثبات للإيمان إلا بانتحالها ، وجب الاجتهاد في علم أصولها ، ولزم الحث على ما عاد بعمارة سبيلها) .

المبدأ السادس : واضع علم مصطلح الحديث :

أول من صنف في هذا العلم كفن مستقل ، هو القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاّد الرَامَهُرْمُزي المتوفى سنة 360 هـ  ، في كتاب أسماه (المحدّث الفاصل بين الراوي والواعي).

قال الكتاني([4]) : (كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للقاضي أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهُرْمُزي ، قال الذهبي : لم أظفر بتاريخ موته , وأظنهُ بقي إلى حدود الخمسين وثلاثمائة ، وذكر أبو القاسم بن منده في كتاب (الوفيات) له : أنه عاش إلى قرب الستين وثلاثمائة بمدينة (رام هُرْمُز) , وهو أول كتاب ألف في علوم الحديث في ما يغلب على الظن ، وإن كان يوجد قبله مصنفات مفردة في أشياء من فنونه لكن هو أجمع ما جمع من ذلك في زمانه، وإن كان لم يستوعب ، ثم كتاب (علوم الحديث) لأبي عبد الله الحاكم ، لكنه لم يهذب ولم يرتب ، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني ، فعمل على كتابه (مستخرجا) وأبقى أشياء للمتعقب ، ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي ، فصنف في قوانين الرواية وأصولها كتابا سماه ( الكفاية ) وفي آدابها كتابا سماه ( الجامع لآداب الشيخ والسامع ) وكل منهما غاية في بابه … ) .

المبدأ السابع : الاسم :

اسمه علم مصطلح الحديث ، أو علوم الحديث أو علم أصول الحديث ، أو علم الحديث دراية .

المبدأ الثامن : الاستمداد :

يستمد  هذا العلم من كلام المحدثين واصطلاحاتهم ، إما في كتب مستقلة ، أو أثناء كلامهم على الحديث ، أو في مقدمة الكتب ، أو أواخرها ، ونحو ذلك ، فهو مستمد من كلام الأئمة من أهل الحديث .

المبدأ التاسع : حكم تعلمه :

حكم تعلمه فرض كفاية ، لأنه لا يمكن أن يمحص كلام رسول الله ﷺ إلا بهذا العلم ، فتعلمه عبادة ، ففيه الفوز بالدارين إذا صلحت النية ، وحسن القصد .

المبدأ العاشر : مسائله :

المقصود بمسائله الجزئيات التي يتكون منها هذا العلم ، وهي أنواع الحديث ، وكل نوع تحته تفاصيل ، فمسائله تتعلق بالإسناد من حيث الاتصال والانقطاع والتدليس وما شابه ذلك ، وتتعلق بالمتن من حيث القلب والشذوذ وهكذا .

القسم الثاني : علم الحديث رواية .

فلنشرع في مبادئه العشرة :

المبدأ الأول : الحد : علم الحديث رواية :

تعريف علم الحديث رواية في الاصطلاح : معرفة ما ينقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة .

شرح التعريف :

قولنا : (معرفة) : المعرفة تشمل القطع والظن ، فمعرفة ما ينقل عن النبي ﷺ قد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا .

وقولنا : (ما) : موصولة بمعنى الذي .

وقولنا : (ما ينقل عن النبي ﷺ) : خرج به ما نقل عن غيره من الصحابة والتابعين ومن دونهم .

وقولنا : (من) : بيانية .

وقولنا : (قول) : يشمل الأمر والنهي الصادرين عنه ﷺ .

مثال الأمر : عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ : ((أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَحِيمًا رَفِيقًا ، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ : ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ – وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا – وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ))([5]) .

مثال النهي : عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِي يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ ، وَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَمْ أَفْعَلْ هَذَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ  يَقُولُ : (( لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ ))([6]) .

وقولنا : (أو فعل) : يشمل شيئين :

الأول : فعل إيجاد : وهو ما حكي من فعل النبي ﷺ .

وهو على أربعة أحوال :

الأولى : أفعال جبلية ، مثل تناول الطعام والشراب ، وقضاء الحاجة ، والمشي ، والجلوس ، والنوم ، والتداوي من المرض ، ونحوها .

وأصل هذه الأشياء ضروري للإنسان من حيث هو إنسان ، لأنه سيصاب بالضرر لو امتنع منها بالكلية ، وعليه فهو يفعلها تحت ضغط الضرورة ، وبذلك يكون فعله لها خارجاً عن التكليف ، ولا قدوة بما لا تكليف فيه ، فيكون مباحاً .

واعلم أن الفعل الجبلي الاختياري مهما كان نوعه فإنه يدل على الإباحة فقط ، إلا إذا اقترن به قول أو قرينة تدل على أنه للاستحباب  أو الوجوب .

الثانية : أفعال على سبيل العادة ، ويقصد به ما فعله النبي ﷺ جرياً على عادة قومه ومألوفهم .

مثاله : أنه ﷺ لبس القميص والجبّة والعمامة ، وأطال شعره ، واستعمل القِرب الجلدية في حفظ الماء ، وكان يكتحل ، ويستعمل الطيب والعطور ، ونحوها .

وحكم هذه الأمور العادية كنظائرها من الأفعال الجبلية ، والأصل فيها جميعاً أنها تدل على الإباحة لا غير ، إلا أن يرد قول يأمر بها أو يرغب فيها ، فتكون حينئذٍ شرعية ، مثل لبس البياض من الثياب والكحل بالإثمد  ، أو يظهر ارتباطها بالشرع بقرينة غير قولية ، مثل توجيه الميت في القبر إلى القبلة ، فإن ارتباط ذلك بالشرع لا خفاء فيه ، حيث إن التوجه إلى القبلة متعلق بالشرع .

الثالثة : أفعال خاصة به ﷺ ، إذا قام الدليل على أن هذا الفعل خاص به ﷺ ، لأنّ الأصل في أفعال النبي ﷺ التي فعلها على سبيل القربة التأسي فيها به ﷺ وعدم الخصوصية ، مثال الأفعال الخاصة ﷺ نكاحه ﷺ بأكثر من أربع نسوة ، فقد دل الدليل على تحريم الزيادة على أربع في النكاح .

الرابعة : أفعال تشريعية بيانية ، وهي التي يقصد بها البيان والتشريع ، مثل ما جاء عنه ﷺ في الطهارة ، والصلاة ، والصيام ، والحج ، ونحو ذلك .

الأول : فعل ترك : وهو ما حكي من ترك النبي ﷺ للشيء .

وهو على نوعين باعتبار نقل الصحابة –رضي الله عنهم- له([7]) :

النوع الأول : التصريح بأن النبي ﷺ ترك كذا وكذا ولم يفعله ، كتصريح الصحابة بترك الأذان لصلاة العيدين ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- قَالَ : ((شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ … ))([8]) ، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- : ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ شَكَّ يَحْيَى ))([9]) .

النوع الثاني : عدم نقل الصحابة للفعل الذي لو فعله ﷺ لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله للأمة ، لأنه مما تدعوا الدواعي لنقله ، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبتة ولا حدث به في مجمع أبدًا عُلم أنه لم يكن ولم يقع .

مثل تركه ﷺ التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة ، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهو يؤمنون على دعائه ، بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات .

وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أن يترك النبي ﷺ الفعل لعدم وجود المقتضي له ، وذلك كتركه قتال مانعي الزكاة ، فهذا الترك لا يكون سنة ، بل إذا قام المقتضي ووجد كان فعل ما تركه ﷺ مشروعًا غير مخالف لسنته ، كقتال أبي بكر – رضي الله عنه – لمانعي الزكاة ، بل إن هذا العمل يكون من سنته لأنه عمل بمقتضى سنته ﷺ .

الثاني : أن يترك النبي ﷺ الفعل مع وجود المقتضي له بسبب قيام مانع ، كتركه ﷺ فيما بعد قيام رمضان جماعة بسبب خشيته أن يُكتب على أمته ؛ فهذا الترك لا يكون سنة ، بل إذا زال المانع بموته ﷺ كان فعل ما تركه ﷺ مشروعًا غير مخالف لسنته كما فعل عمر – رضي الله عنه – في جمعه للناس على إمام واحد في صلاة التراويح ، بل إن هذا العمل من سنته ﷺ لأنه عمل بمقتضاها .

الثالث : أن يترك النبي ﷺ الفعل مع وجود المقتضي له وانتفاء الموانع فيكون تركه ﷺ والحالة كذلك سنة ، كتركه ﷺ الأذان لصلاة العيدين ، والدعاء الجماعي بعد الصلوات الخمس .

وهذا القسم من سنته ﷺ وهو السنة التركية أصل عظيم وقاعدة جليلة ، به تحفظ أحكام الشريعة ويوصد به باب الابتداع في الدين .

وقولنا : (أو تقرير) : هو كفّ النبي ﷺ عن إنكار قول أو فعل لمسلم قاله أو فعله بين يديه -أعني بين يدي النبي ﷺ- أو وقع في عصره وعلم به ﷺ فسكت عنه .

مثاله ما ثبت عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ : (( أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ ))([10]) ، و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- قَالَ : (( كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ ))([11]) .

وقولنا : (أو صفة) :  يشمل الصفة الخَلْقية –بفتح الخاء- مثل ما ثبت عن كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ –رضي الله عنه- يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ قَالَ : (( فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ ))([12]) .

ويشمل صفته الخُلقية –بضم الخاء- مثل ما ثبت عن ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قال : ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))([13]) .

المبدأ الثاني : موضوع علم الحديث رواية :

موضوع علم الحديث رواية هو النبي ﷺ من حيث أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وصفاته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها .

فهو علم يشتمل على ضبط الحديث ونقله وروايته وتحرير ألفاظه ، ومن كتب هذا النوع الصحيحان ، والسنن الأربعة ، وكذلك المسانيد ، والمعاجم ، والأجزاء الحديثية .

المبدأ الثالث : ثمرته :

فائدة هذا العلم معرفة وضبط حديث النبي ﷺ ، وتحرير ألفاظه ، وبيان كيفية الاقتداء به ﷺ ، ومعرفة أفعاله وأحواله للاقتداء به والفوز بالنجاة والسعادة في الدارين ، قال تعالى : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله  كَثِيرًا    ﴾ الأحزاب: ٢١.

المبدأ الرابع : نسبته :

نسبة علم الحديث رواية إلى العلوم الأخرى نسبة تكامل وتوافق ، فهو علم تستنبط منه الأحكام كالقرآن ، وهو مبين لإجماله ، وإن جزءاً كبيراً من الفقه إنما هو ثمرة للحديث ؛ و من هنا كان علم الحديث رواية من أشرف العلوم و أجلها ، بل هو أجلها على الإطلاق بعد العلم بالقرآن الكريم الذي هو أصل الدين ومنبع الطريق المستقيم ، فالحديث مصدر من مصادر التشريع الإسلامي كالقرآن ، بعضه يستقل بالتشريع ، وبعضه الآخر شارح لكتاب الله تعالى مبين لما جاء فيه ، قال تعالى : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ سورة النحل: ٤٤ ، فهو دليل من أدلة الشرع ، جميع العلوم الشرعية بحاجة إليه غير منفكة عنه .

المبدأ الخامس : فضله :

فضله عظيم وشأنه جليل ، فهو العلم الذي يتلقى منه الشرع وتبنى عليه الأحكام كالقرآن ، فالسنة وحي من الله تعالى قال تعالى : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ سورة النجم: ٣ – ٤ ، ولهذا ألزم الله تعالى باتباعها والأخذ بها ، قال تعالى : ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا ﴾ سورة الأحزاب: ٣٦ ، وقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ سورة النساء: ٥٩ ، وقال تعالى : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾  سورة النور: ٦٣، وقال تعالى : ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة الحشر: ٧ ، وقال تعالى : ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ سورة آل عمران: ٣١ .

وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ … ))([14]) .

قال الشوكاني([15]) : (قال الأوزاعي : الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب . وقال ابن عبد البر : إنها تقضي عليه وتبين المراد منه . وقال يحيى بن أبي كثير : السنة قاضية على الكتاب.

والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام) .

المبدأ السادس : واضع علم الحديث :

نشأ علم الحديث رواية في عهد النبي ﷺ ، فقد كان الصحابة يكتبون الحديث في عهده ﷺ ، فعن أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ ))([16]) ، وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصيِ –رضي الله عنه- قَالَ : (( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ ، أَفَأَكْتُبُهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ ، قُلْتُ : فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ؟ قَالَ: نَعَمْ ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا حَقًّا ))([17]) ، وقال النبي ﷺ : ((قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِة ))([18]) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قال : (( مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ))([19]) .

قال النووي([20]) : (وكان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث ، ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها . والله اعلم) .

قال الحافظ ابن حجر([21]) : (السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا ، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم ، بل على استحبابه بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم) .

المبدأ السابع : الاسم :

اسمه علم الحديث ، وعلم الحديث رواية ، والسنة .

المبدأ الثامن : الاستمداد :

يستمد  هذا العلم من كلام المعصوم محمد ﷺ .

المبدأ التاسع : حكم تعلمه :

حكم تعلمه فرض كفاية ، وفرض عين على العالم في المسألة التي سيجتهد فيها .

المبدأ العاشر : مسائله :

المقصود بمسائله الجزئيات التي يتكون منها هذا العلم ، وهي أنواع السنة ، وهي القولية ، والفعلية ، والتقريرية ، والصفات الخَلقية والخُلقية للنبي ﷺ . وسبق بيانها .

[1])) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص (150) .

[2])) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص (148) .

[3])) الكفاية ص (3) .

[4])) الرسالة المستطرفة ص (142) .

[5])) رواه البخاري في الأذان/باب الأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً ، وَالإِقَامَةِ رقم الحديث (631) .

[6])) رواه البخاري في الأطعمة/ باب الأَكْلِ فِي إِنَاءٍ مُفَضَّضٍ رقم الحديث (5426) .

[7])) ينظر ما سيأتي : شرح الكوكب المنير (2/165)  ، ومجموع الفتاوى (26/172) ، واقتضاء الصراط المستقيم (2/591 – 597) ، وإعلام الموقعين (2/389 – 391) ، ومعالم أصول الفقه ص (129) .

([8]) رواه مسلم في صلاة العيدين رقم الحديث (1467) .

([9]) رواه أبو داود في الصلاة / بَاب تَرْكِ الْأَذَانِ فِي الْعِيدِ رقم الحديث (968) . وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (4/308) : (حديث صحيح، رجاله رجال البخاري ) .

 ([10])رواه البخاري في العلم/باب متى يصح سماع الصغير رقم الحديث (76) ، ومسلم في الصلاة/باب سترة المصلي رقم الحديث (504) .

 ([11]) رواه البخاري في أبواب الصلاة في الثياب/باب السجود على الثوب في شدة الحر رقم الحديث (378) .

 ([12])رواه البخاري في المناقب/باب صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ رقم الحديث (3556) ، ومسلم في التوبة/باب حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رقم الحديث (7192) .

([13]) أخرجه البخاري في الصوم /باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَكُونُ فِي رَمَضَانَ رقم الحديث (1902) ، ومسلم في الفضائل /باب كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ رقم الحديث (2308) .

 ([14]) رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (17174) . بإسناد صحيح . وصحح إسناده الشيخ الألباني في الحديث حجة بنفسه ص (32) .

 ([15]) إرشاد الفحول (1/97) .

 ([16])رواه البخاري في اللقطة/باب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ رقم الحديث (2434) ، ومسلم في الحج/باب تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا … رقم الحديث (3371) .

 ([17]) رواه الإمام أحمد في المسند رقم الحديث (7020) . حديث صحيح .

 ([18]) حديث صحيح بمجموع طرقه روي من حديث أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن العباس  -رضي الله عنهم أجمعين- . ينظر تخريجه في السلسلة الصحيحة رقم (2026) .

 ([19])رواه البخاري في العلم/باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ رقم الحديث (113) .

 ([20]) شرح مسلم (1/245) .

 ([21]) فتح الباري (1/204) .