المرسل الخفي

النوع الثاني من أنواع السقط الخفي : المرسل الخفي :

لا زال الكلام على الحديث الضعيف ولا زال الكلام على المسلك الأول وهو انقطاع السند وانتهينا من القسم الأول وهو السقط الظاهر ثم شرعنا في القسم الثاني وهو السقط الخفي وانتهينا من النوع الأول وهو الحديث المدلس ونشرع الآن في النوع الثاني وهو المرسل الخفي :

المسألة الأولى : تعريفه :

المرسل الخفي : هو أن يروي الراوي عمَّن عاصره ولم يلقه موهماً أنه سمعه منه([1]) .

مثاله :

قال الإمام أحمد : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ ، وَإِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ قَالَ : أَخْبَرَنَا الدَّسْتُوَائِيُّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ قَالَ : أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ ))([2]) .

هذا الحديث إسناده ضعيف([3]) لأن يحيى بن أبي كثير عاصر أنساً -رضي الله عنه- لكن لم يسمع منه شيئاً ، فالحديث مرسل وهو من الإرسال الخفي ، قال الحافظ ابن حجر([4]) : (يحيى بن أبي كثير الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل ) وقال([5]) : (روى عن أنس وقد رآه … وقال أبو حاتم : يحيى إمام لا يحدث إلا عن ثقة وروى عن أنس مرسلا وقد رأى أنسا يصلي في المسجد الحرام رؤية ولم يسمع منه … قال عمرو بن علي : مات سنة تسع وعشرين ومائة وقال غيره : مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة ) .

فروايته عن أنس –رضي الله عنه- بالعنعنة من قبيل الإرسال الخفي وإن كان بعضهم يرها من قبيل التدليس لأن يحيى بن أبي كثير وصف بالتدليس لكن على التعريف المختار للإرسال الخفي  تكون روايته عن أنس –رضي الله عنه- من المرسل الخفي أما لو روى عن غيره بالعنعنة ممن عاصره وسمع منه فهو من باب التدليس ، كما سيأتي تفصيله في المسألة الثالثة . والله أعلم .

المسألة الثانية : الفرق بين المرسل الخفي والمرسل الظاهر :

سبق أن المرسل الظاهر هو ما أضافه التابعي إلى النبي ﷺ مما سمعه من غيره ، أما المرسل الخفي فهو هو أن يروي الراوي عمَّن عاصره ولم يلقه موهماً أنه سمعه منه ، فالفرق بينها فيما يأتي :

أولا : أن المرسل الظاهر فيه عدم المعاصرة والإدراك بين المرسل والمرسل عنه ظاهرة فاللقاء مستحيل بينهما بخلاف المرسل الخفي ، فإن المعاصرة موجودة بينهما ، واللقاء بينهما ممكن ومن هنا جاء الخفاء ، لكن بعد البحث يتبين أنه عاصره دون لقاء .

ثانياً : أن المرسل الظاهر ما أضافه التابعي إلى النبي ﷺ ، أما المرسل الخفي فهو ما أضافه الراوي إلى من عاصره فهو يشمل ما أضيف إلى النبي ﷺ أو دونه .

ثالثاً : أن المرسل الظاهر هو ما أضافه التابعي ، أما المرسل الخفي فيشمل ما أضافه التابعي أو غيره عن من عاصره فيكون الانقطاع في أي موضع من السند بين راويين متعاصرين لم يلتقيا .

المسألة الثالثة : الفرق بين المرسل الخفي وتدليس الإسناد :

المرسل الخفي فيه شبه بالتدليس لخفاء السقط في كل منهما مع الإيهام بالسماع ، إلا أن هناك فرقا بينهما ، وهو أن تدليس الإسناد أن يروي الراوي عمّن عاصره وسمع منه ما لم  يسمع منه موهماً أنه سمعه منه ، فالتدليس فيه لُقيا وسماع ، ولكن هذه الرواية لم يسمعها من شيخه ، أما المرسل الخفي ففيه معاصرة لكن ليس فيه لُقيا ولا سماع مطلقاً ، كما سبق في رواية يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- فإن يحيى بن أبي كثير عاصر أنساً -رضي الله عنه- لكن لم يسمع منه شيئاً .

المسألة الرابعة : ما يعرف به المرسل الخفي :

سبق أن المرسل الخفي فيه معاصرة مع عدم ملاقاة ، وذلك يعرف بما يأتي :

أولا : أن يخبر الراوي المُرسِل أنه عاصر فلان لكنه لم يلقه ، أو يخبر أنه لم يلق فلاناً .

ثانياً : أن يجزم بذلك أمام مطلع ، فيجزم أن فلانا لم يلق فلانا ، مع وجود المعاصرة بينهما .

 

  ([1])ينظر : شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (423) ، شرح ألفية السيوطي الأثيوبي (1/184) ، النكت على ابن الصلاح لابن حجر (2/623) ، والتقييد والإيضاح ص (249) ، الباعث الحثيث (1/175) ، وكفاية الحفظة ص (230) ، فتح الباقي ص (142) ، فتح المغيث (4/70) ، وتدريب الراوي (2/205) .

  ([2])رواه الإمام أحمد في المسند (19/215) رقم الحديث (12177) .

  ([3])هذا الإسناد ضعيف إلا أن الحديث صحيح ثابت فقد رواه أبو داود قال : حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ جَاءَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ ، فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ ﷺ : (( أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ )) وهذا سند صحيح .

  ([4])تقريب التهذيب رقم الترجمة (7632)  .

  ([5])تهذيب التهذيب (11/235) رقم الترجمة (440) .

الحديث المدلس

القسم الثاني : السقط الخفي :

مازال الكلام على المسلك الأول من مسالك ضعف الحديث وهو انقطاع السند ، وتكلمت على القسم الأول وهو السقط الظاهر ، وبينت أنواعه ، وسأتكلم هنا على القسم الثاني وهو السقط الخفي .

المسألة الأولى : تعريفه :

هو السقط الذي لا يدركه إلا الأئمة الحذاق المطلعون على طرق الحديث ، وعلل الأسانيد([1]) .

المسألة الثانية : أنواعه :

يتنوع السقط الخفي إلى نوعين :

النوع الأول : المدلس([2]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

المُدَلَّس لغة([3]) : اسم مفعول مشتق من الدَلَس  وهو الظُّلْمَة  ، كالدُّلْسَةِ ، بالضّمّ . وفلان لا يُدالِسُ ولا يُوالِسُ أَي لا يُخادِعُ ولا يَغْدُِرُ والمُدالَسَة المُخادَعَة ، وفلان لا يُدالِسُك ولا يخادِعُك ولا يُخْفِي عليك الشيء فكأَنه يأْتيك به في الظلام ، والتَّدْلِيسُ في البيع كِتْمانُ عيب السِّلْعَة .

المدلس اصطلاحا : لم أجد تعريفا جامعا مانعا لكل أقسام التدليس ، ولعل أقربها هو : إخفاء عيب في الإسناد أو في الصيغة الإسنادية ، أو قل : ما أخفي عيبه على وجه يوهم أنه لا عيب فيه([4]) .

فائدة :

المدلس غير الكذاب ، لأن المدلس قد يكون ثقة كما سيأتي لكنه يدلس ، وحديثه يقبل إذا صرح بالتحديث كما سيأتي بخلاف الكذاب ، بل قد يقبل تدليسه حتى مع العنعنة إذا كان لم يوصف بذلك إلا نادرا كيحيى بن سعيد الأنصاري ، ونحو ذلك مما يذكر في طبقات المدلسين ، فالمدلس قد يدلس عن ثقة وقد يدلس عن ضعيف أو كذاب يريد علو الإسناد أو غيره .

المسألة الثانية : أقسام التدليس :

ينقسم التدليس إلى ستة أقسام :

القسم الأول : تدليس الإسناد([5]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

هو أن يروي المحدث عمن لقيه ما لم يسمع منه موهماً أنه سمع منه ، كأن يقول : (قال فلان ، أو عن فلان ، أو أن فلانا قال أو فعل كذا ) ونحو هذا .

وعليه لتصور معنى تدليس الإسناد لا بد من معرفة حال الراوي عمن يروي عنه :

الأولى : السماع .

الثانية : اللقاء .

الثالثة : المعاصرة .

الرابعة : عدم المعاصرة ، ومن باب أولى عدم اللقاء والسماع .

وعليه فالصور كما يأتي :

الصورة الأولى : أن يروي المحدث عمن سمع منه حديثا لم يسمعه منه بصيغة موهمة للسماع فهذا تدليس بلا خلاف .

الصورة الثانية : أن يروي المحدث عمن لقيه حديثا لم يسمعه منه بصيغة موهمة للسماع وهذا تدليس كذلك .

الصورة الثالثة : أن يروي المحدث عمن عاصره  فقط بصيغة موهمة للسماع ، وهذا على رأي ابن الصلاح تدليس ، والصواب أنه مرسل خفي لا تدليس كما سيأتي في النوع الثاني من أنواع السقط الخفي .

قال الحافظ ابن حجر([6]) : (وممن قال باشتراطِ اللقاء في التدليس الإمامُ الشافعي ، وأبو بكر البزار ، وكلامُ الخطيب في الكفاية يقتضيه ، وهو المُعْتَمَدُ) .

الصورة الرابعة : أن يروي المحدث عمن لم يعاصره بصيغة موهمة للسماع ، وعد هذا بعضهم تدليساً والصحيح أنه انقطاع ظاهر وليس تدليساً .

مثال تدليس الإسناد :

عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ : الزُّهْرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : حَدَّثَكُمُ الزُّهْرِيُّ؟ فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : الزُّهْرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : سَمِعْتَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ؟ فَقَالَ : لَا ، لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ، وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ([7]) .

فسفيان ابن عيينة قد دلس في الإسناد الأول طلبا لعلو الإسناد كما يظهر من الإسناد الثاني ، قال الحافظ ابن حجر([8]) : (سفيان بن عيينة الهلالي الكوفي ثم المكي الإمام المشهور ، فقيه الحجاز في زمانه كان يدلس لكن لا يدلس إلا عن ثقة  ) .

مثال آخر : قال الإمام أحمد([9]) : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما- : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ )) .

هذا الحديث إسناده ضعيف ، فإن حبيب بن ثابت مدلس ، وقد عنعنه ، وفيه عِلة أخرى وهي الشذوذ – فالمتن منكر- ، فقد روى غير واحد عن ابن عباس أنها أربع ركعات وأربع سجدات .

قال الحافظ ابن حجر([10]) : (حبيب بن أبي ثابت الكوفي ، تابعي مشهور ، يكثر التدليس ، وصفه بذلك ابن خزيمة ، والدارقطني ، وغيرهما ، ونقل أبو بكر بن عياش عن الأعمش عنه أنه كان يقول : لو أن رجلا حدثني عنك ما باليت أن رويته عنك يعني وأسقطته من الوسط) .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس الإسناد :

تدليس الإسناد لا يقبل معه الحديث حتى يصرح المُدَلِس – إذا كان ثقة أو صدوقاً -بالتحديث بينه وبين من روى عنه ، إلا إذا كان لا يدلس إلا عن الثقة أو كان الراوي عنه كفانا تدليسه كما سيأتي تفصيله في حكم التدليس وطبقات المدلسين .

القسم الثاني : تدليس التسوية([11]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

هو أن يروي المدلس حديثاً سمعه من شيخه ، وشيخه سمع الحديث عن رجل ضعيف أو مجهول أو مجروح عن شيخ ثقة ، وشيخ المدلس سمع من الرجل الضعيف وعن الشيخ الثقة كليهما أو عاصرهما ، لكنه لم يسمع هذا الحديث الذي رواه المدلس عن الشيخ الثقة إنما بواسطة هذا الرجل الضعيف ، فيعمد المدلس إلى إسقاط الرجل الضعيف ويرويه مباشرة عن شيخه عن الشيخ الثقة ، فيظهر الحديث على أنه صحيح .

وهذا التدليس قد يكون في شيخ شيخ المدلس ، وقد يكون في الطبقة الأعلى فيعمد المدلس إلى إسقاط الضعيف حتى في الطبقة العليا إذا كان الساقط بين شيخين أدرك أحدهما الآخر أو سمع منه ، وهكذا في بقية الطبقات ، ولهذا لا بد مع هذا النوع من التدليس أن يصرح بالتحديث في جميع طبقات السند بعد المدلس ، بمعنى أنه لا بد أن يصرح المدلس بالتحديث بينه وبين شيخه ، وبين شيخه وشيخ شيخه ، وهكذا في بقية طبقات السند .

وسمي هذا النوع من التدليس تدليس التسوية ؛ لأن المدلس يسقط المجروح من الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله كلهم ثقات .

وكان بعض المحدثين يسميه (تجويداً) لأن المدلس يبقي جيد رواته ويحذف المجروح ، قال السخاوي([12]) : (وبالتسوية سماه أبو الحسن من القطان فمن بعده فقال : سواه فلان  . وأما القدماء فسموه تجويدا حيث قالوا : جوده فلان ) .

مثاله :

المثال الأول : روى ابن عساكر([13]) : من طريق أبي بكر عبد الله بن خيثمة بن سليمان الأطرابلسي حدثني أبوعبد الملك أحمد بن جرير بن عبدوس بصور نا موسى بن أيوب النصيبي نا الوليد بن مسلم نا بكير بن معروف الأزدي عن أبان وقتادة عن أبي أمامة الباهلي قال : قال النبي ﷺ : (( أبعدُ الخلق من اللهِ رَجُلَانِ ، رجلٌ يجالسُ الأمراءَ فما قالوا من جُوْرٍ صَدَّقَهُم عليه ، ومُعَلِّمُ الصِّبيانِ لا يُواسي بينهم ولا يُراقب اللهَ في اليَتِيم ))([14]) .

هذا الحديث في إسناده الوليد بن مسلم وقد صرح بالتحديث بينه وبين شيخه بكير ولم يصرح بالتحديث بين شيخه بكير وبين شيخه أبان بل رواه بينهما بالعنعنة ، فإسناد الحديث ضعيف ، والحديث منكر ، وفيه علل أخرى ، لكن الذي يهمنا هنا هو تدليس الوليد بن مسلم .

المثال الثاني : قال السراج([15]) : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللهِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ ، ثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ : ثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ : حَدَّثَني عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبيِّ ﷺ قالَ : (( لَمَّا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عليه السلامُ ؛ خُيِّرَ بِبَنِيهِ ، فَجَعَلَ يَرَى فَضَائِلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَرَآى نُوراً سَاطِعاً فِي أَسْفَلِهِمْ فَقَالَ : يَا رَبِّ ! مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا ابْنُكَ أَحْمَدُ ، هُوَ أَوَّلٌ ، وَهو آخَرٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ شَافِعٍ )) .

هذا الحديث إسناد رجاله ثقات غير مبارك بن فضالة فإنه صدوق وكان يدلس تدليس التسوية ، وقد صرح بالتحديث بينه وبين شيخه عبيد الله بن عمر ولم يصرح بالتحديث في بقية السند فالإسناد ضعيف .

المسألة الثانية : ممن كان يدلس تدليس التسوية :

عرف بعض الرواة بتدليس التسوية فممن عرف بذلك :

أولا : الوليد بن مسلم . قال الحافظ بن حجر ([16]) : (الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية من الثامنة مات آخر سنة أربع أو أول سنة خمس وتسعين ) .

وقال الذهبي([17]) : (وكان الوليد مَعَ حفظه وثقته قبيح التدليس ، يحملُ عَنْ أُناسٍ كذّابين وتلقى عَنِ ابن جُرَيج وغيره ، ثمّ يُسْقِط الَّذِي سمع منه ويقول : عَنِ ابن جُرَيج .

قَالَ أبو مُسْهِر : كَانَ الوليد يأخذ مِن ابن أَبِي السَّفَر حديث الأوزاعيّ ، وكان ابن أَبِي السفر كذّابًا ، وهو يَقُولُ فيها : قَالَ الأوزاعيّ .

قَالَ صالح جَزرة : سَمِعْتُ الهيثم بْن خارجة يَقُولُ : قلت للوليد : قد أفسدتَ حديث الأوزاعيّ . قَالَ : وكيف؟ قلت : تروي عَنِ الأوزاعي عَنْ نافع ، وعن الأوزاعيّ عَنِ الزُّهْرِيّ ، وَعَنْهُ : عَنْ يحيى، وغيرك يُدخل بين الأوزاعيّ ونافع عَبْد الله بْن عامر الأسلميّ، وبينه وبين الزُّهْرِيّ قرة وغيره ، فما يحملك عَلَى هذا ؟ قَالَ : أُنْبلُ الأوزاعيّ أن يروي عَنْ مثل هَؤلاءِ . قلت : فإذا روى الأوزاعيّ عَنْ هَؤلاءِ الضُّعفاء مناكير ، فأسقطتهم أنتَ وصيّرتها مِن رواية الأوزاعيّ عَنِ الثقات ضعف الأوزاعيّ . فلم يلتفت إلى قولي ) .

ثانياً : مبارك بن فضالة . قال الحافظ بن حجر ([18]) : (مبارك بن فضالة بفتح الفاء وتخفيف المعجمة أبو فضالة البصري صدوق يدلس ويسوي من السادسة مات سنة ست وستين على الصحيح) .

وقال الذهبي([19]) : ( قال أبو داود شديد التدليس فإذا قال حدثنا فهو ثبت … وقال ابن معين قدري وقال أحمد أيضا : يقول في غير حديث عن الحسن حدثنا عمران بن حصين وأصحاب الحسن لا يقولون ذلك . وقال أبو زرعة يدلس كثيرا فإذا قال حدثنا فهو ثقة … ) .

ثالثاً : محمد بن مصفى . قال الحافظ بن حجر([20]) : (محمد بن مصفى بن بهلول الحمصي القرشي صدوق له أوهام وكان يدلس من العاشرة مات سنة ست وأربعين ) . وقال([21])  : ( وقد تقدم في ترجمة صفوان بن صالح قول أبي زرعة الدمشقي أن محمد بن مصفى كان ممن يدلس تدليس التسوية )([22]) .

رابعاً : صفوان بن صالح بن صفوان . قال الحافظ بن حجر([23]) : ( صفوان بن صالح بن صفوان الثقفي مولاهم أبو عبد الملك الدمشقي ثقة ، وكان يدلس تدليس التسوية قاله أبو زرعة الدمشقي . من العاشرة مات سنة ثمان أو سبع أو تسع وثلاثين وله سبعون سنة ) .

خامساً : بقية بن الوليد . عرف واشتهر بتدليس الشويخ  ، قال الحافظ بن حجر([24]) : ( بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو يحمد بضم التحتانية وسكون المهملة وكسر الميم صدوق كثير التدليس عن الضعفاء من الثامنة مات سنة سبع وتسعين وله سبع وثمانون) .

وقد اتهمه بعض العلماء بتدليس التسوية ، واكتفى أكثرهم بتدليسه للشيوخ ، قال الشيخ الألباني([25]) : (إن بقية بن الوليد قد اتهم بالتدليس في هذا الحديث تدليس التسوية ؛ فقد قال ابن أبي حاتم في العلل أيضاً ( 2 / 154 ) : سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه عن بقية قال : حدثني أبو وهب الأسدي قال : حدثنا نافع عن ابن عمر [ عن النبي ﷺ قال ] : (( لا تحمدوا إسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة رأيه )) . قال أبي : [هذا الحديث له علة قل من يفهمه ] : رواه عبيد الله بن عَمرو عن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ . وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب ، وهو أسدي ، فكأن بقية كنى عبيد الله بن عمرو ونسبه إلى بني أسد ؛ لكيلا يفطن له ، حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدى له ، وكان بقية من أفعل الناس لهذا .

وأما ما قال إسحاق في روايته عن بقية عن أبي وهب : ” حدثنا نافع ” ؛ فهو وهم ، غير أن وجهه عندي أن إسحاق لعله حفظ عن بقية هذا الحديث ، ولم يفطن لما عمل بقية من تركه إسحاق من الوسط وتكنيته عبيد الله بن عمرو ، فلم يتفقد لفظة بقية في قوله : ” حدثنا نافع ” أو : ” عن نافع ” .

قلت : يتلخص من كلامه أمران :

1 – أن بقية كان يدلس الشيوخ والأسماء .

2 – اتهامه بأنه كان يدلس تدليس التسوية ، كالوليد بن مسلم .

أما الأول ؛ فهو من المسالم به ؛ فقد ذكر ذلك عنه كثير ممن ترجم له من الأئمة ، القدامى منهم والمحدَثين ؛ لكن في شيوخه ، وليس في شيوخهم ، منهم الحافظ يعقوب الفسوي ؛ فقال في ” المعرفة والتاريخ ” ( 2 / 424 ) : (وبقية يقارب إسماعيل والوليد في حديث الشاميين ، وهو ثقة إذا حدث عن ثقة ، فحديثه يقوم مقام الحجة ، يذكر بحفظ ، إلا أنه يشتهي المُلَح والطرائف من الحديث ، ويروي عن شيوخ فيهم ضعف ، وكان يشتهي الحديث ، فيكني الضعيف المعروف بالاسم ، ويسمي المعروف بالكنية باسمه . وسمعت إسحاق بن راهويه قال : قال ابن المبارك : أعياني بقية ! كان يكني الأسامي ، ويسمي الكنى ، قال : حدثني أبو سعيد الوحاظي ، فإذا هو عبد القدوس) .

وقد قال أهل العلم : بقية إذا لم يُسَمِ الذي يروي عنه وكناه ؛ فلا يسوى حديثه شيئا . ورواه عنه الخطيب في تاريخ بغداد ( 7 / 124 ) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ( 10 / 208 – 209 ، 212 – 213 ) ، وتجد عندهما روايات أخرى في ذلك عن ابن معين وغيره .

وأما الآخر – وهو اتهامه بأنه كان يدلس تدليس التسوية – ؛ فما أعتقد أن ذلك صح عنه ، وذلك لأمور :

أولاً : أن استدلال أبي حاتم برواية إسحاق بن راهويه عن بقية – إن كانت محفوظة – لا تنهض بذلك ؛ لأن فيها تصريح أبي وهب – شيخ بقية – بالتحديث عن نافع ، وكذلك صرح بقية بالتحديث عن أبي وهب ، فهي رواية مسلسلة بالتحديث ، فأين التدليس المدَّعى ؟ ! والمدلس إذا أسقط من الإسناد راوياً – سواء كان شيخه أو شيخ شيخه – ؛ رواه بصيغة توهم السماع ؛ كأن يقيل : قال فلان ، أو : عن فلان ، ونحوه . فلو قال مكان ذلك : سمعت ، أو : حدثني ، أو نحو ذلك مما هو صريح في الاتصال ؛ كان كذباً ، وسقطت به عدالته ، وبقية صدوقاً اتفاقاً ، وقد قال أبو زمعة : (ما لبقية عيب إلا كثرة روايته عن المجهولين ، فأما الصدق فلا يؤتى من الصدق ، وإذا حدث عن الثقات فهو ثقة ) ؛ كما رواه عنه ابن أبي حاتم ( 1 / 1 / 435 ) ، وتقدم نحوه عن يعقوب الفسوي .

ولذلك ؛ اضطر أبو حاتم إلى توهيم الإمام إسحاق بن راهويه في الإسناد : حدثنا نافع ؛ لتصوره الانقطاع بين أبي وهب ونافع ؛ الناتج من إسقاط بقية لابن أبي فروة من بينهما ! وإذا جاز مثل هذا التوهيم منه ، أفلا يجوز لغيره أن يقول :

لعل الإسقاط المذكور كان من أبي حاتم مجرد دعوى ؛ فإن بقية قد ذكر ابن أبي فروة في إسناد الحديث كما تقدم في رواية موسى بن سليمان ، على ما فيها من الكلام الذي سبق بيانه ؟ ! وعلى افتراض سقوطه في رواية ابن راهويه عن بقية ؛ فليس هناك دليل على أنه كان مقصوداً من بقية ، فيمكن أن يكون وهما منه كما تقدم مثله في أول هذا التخريج من منصور بن صقير ، وذلك لا يبرر اتهامه بتدليس التسوية كما لا يخفى على الناقد البصير بهذا الفن الشريف ، بل ويمكن أن يكون الإسقاط المدعى من غير بقية ؛ فقد أشار إلى ذلك الحافظ في النكت على ابن الصلاح ، فقال ( 2 / 622 ) :  تنبيه آخر : ( ذكر شيخنا ممن عرف بالتسوية جماعة ، وفاته أن ابن حبان قال في ترجمة بقية : إن أصحابه كانوا يسوون حديثه .

قلت : ذكر ذلك ابن حبان في الضعفاء ( 1 / 200 – 201 ) بعد أن صرح بأن بقية كان مدلساً يسقط الضعفاء من شيوخه بينه وبين شيوخهم الثقات ، فقال : فرأيته ثقةً مأموناً ، ولكنه كان مدلساً ؛ سمع من عبيد الله بن عمرو وشعبة ومالك أحاديث يسيرة مستقيمة ، ثم سمع عن أقوام متروكين عن عبيد الله بن عمر وشعبة ومالك ؛ مثل المجامع بن عمرو ، والسري بن عبد الحميد ، وعمر بن موسى المَيتمي وأشباههم ، وأقوام لا يعرفون إلا بالكنى ، فروى عن أولئك الثقات الذين رآهم بالتدليس ما سمع من هؤلاء الضعفاء ، وكان يقول : قال عبيد الله بن عمر عن نافع ، وقال مالك عن نافع ، فحملوا عن بقية عن عبيد الله ، وبقية عن مالك ، وأسقط الواهي بينهما ، فالتزق الموضوع ببقية ، وتخلص الواضع من الوسط .

وإنما امتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه ، فالتزق ذلك كله به ).

قلت : هذا كله كلام ابن حبان -رحمه الله- ، وهو صريح في تبرئته من تدليس التسوية ، وأن ذلك كان من بعض تلاميذه . ولعل هذا هو سبب إعراض كل من ترجم عن رميه بهذا النوع من التدليس ، وبخاصة المتأخرين منهم الذين أحاطوا بكل ما قيل فيه من مدح وقدح من الأئمة المتقدمين ، واقتصروا على وصفه بتدليس شيوخه فقط ، فقال الذهبي في كتابه الكاشف : (وثقه الجمهور فيما سمعه من الثقات)  ، وقال النسائي : (إذا قال : ( ثنا ) و : ( نا ) ؛ فهوثقة ) . وهذا الحافظ ابن حجر ؛ لما أورده في طبقات المدلسين ؛ لم يزد على قوله : (وكان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين ، وصفه الأئمة بذلك ) . أورده في المرتبة الرابعة  ، وهي التي يورد فيه : من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل ؛ كبقية بن الوليد . كما قال في مقدمة الرسالة .

قلت : فلم يرمه لا هو ولا الذهبي بتدليس التسوية ، وقوله فيما تقدم نقله عنه في النكت : ” ذكر شيخنا ” إنما يعني به الحافظ العراقي ؛ فإنه لما ذكر في كتابه التقييد والإيضاح ( ص 78 – الحلبية ) تدليس التسوية ، ضرب على ذلك مثالاً هذا الحديث نقلا عن ( العلل ) لابن أبي حاتم ، وكان نقله عنه باختصار تبعه عليه السيوطي في ( التدريب ) ( 1 / 224 – 225 ) ، ذلك ؛ أنهما لم ينقلا عنه قوله المتقدم : ( وأما ما قال إسحاق في روايته . . . ) إلخ . وبناء على ذلك تصرفا فيما نقلاه عنه ، فقالا : ( عن نافع ) بدل : ( حدثنا نافع ) ، وهو تصرف غير مرضي ؛ لأنه خلاف ما وقع في رواية ابن راهوية عند أبي حاتم ولا يجوز تغييره إلا بالبيان كما فعل أبو حاتم في تمام كلامه ، فاختصارهما إياه من الاختصار المخل كما هو ظاهر ، ويكفي العاقل دليلا على ذلك أن هذا التحقيق الذي أجريناه على كلامه ما كان بإمكاننا ذلك لو لم نقف عليه في ( العلل ) واعتمدنا فقط على ما نقلاه عنه !

ولذلك ؛ انطلى الأمر على بعض الطلاب في العصر الحاضر وأخذوا يعللون بعض أحاديث بقية التي صرح فيها بالتحديث عن شيخه بتدليس التسوية ! كحديث : (( وكاء السَّه العينان ، فَمَنْ نام ؛ فَلْيَتَوَضَّأْ )) وهو مخرج في ( صحيح أبي داود ) ( 198 ) ، وأوردته في ( صحيح الجامع ) ( 4025 ) ، فلم يعجب بعضهم اغترارا بأن فيه تدليس التسوية ! ونحوه تعليق بعضهم على ترجمة بقية في ( سير أعلام النبلاء ) بقوله ( 8 / 458 ) : ( بل قد وصفوه بأخبث أنواع التدليس ، وهو تدليس التسوية ، وهو أن يحذف من سنده غير شيخه . . . ) . واستند في ذلك على (التدريب) ، وقد خفي عليه ما ذكرته من التحقيق . زد على ذلك أن من علماء التخريج لم يجرء على إعلال حديث بقية بتدليس التسوية فيما علمت ، وإنما يعللونه بعنعنته عن شيخه ، فإذا صرح بالتحديث عنه صححوه ، فهو دليل عملي منهم على عدم الاعتداد بقول من اتهمه بتدليس التسوية ، ولا نذهب بعيدا في ضرب الأمثلة . فهذا هو الإمام مسلم قد ذكر في مقدمة (صحيحه) ( ص 14 ، 20 ) بقية بالتدليس . ثم روى في ( النكاح ) من (صحيحه) ( 4 / 152 ) بسنده عن بقية : حدثنا الزبيدي عن نافع عن ابن عمر مرفوعا : (( من دُعي إلى عرس أو نحوه ؛ فَلْيُجِبْ )) ولما أخرجه الذهبي في ( السير ) ( 8 / 467 ) من طريق أبي عوانة الحافظ بسنده عن جمع قالوا : حدثنا بقية : حدثنا الزبيدي به ؛ قال المعلق المشار إليه آنفا : ( إسناده صحيح ؛ فقد صرح بقية بالتحديث ) ! ! وقد فاته إخراج مسلم إياه ! كما غفل عن اتهامه بتدليس التسوية كما تقدم نقل عنه ؛ فإن شيخ بقية ( الزبيدي ) لم يصرح بالتحديث ! !.

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس التسوية :

تدليس التسوية لا يقبل معه الحديث حتى يصرح المُدَلِس – إذا كان ثقة أو صدوقاً -بالتحديث بينه وبين شيخه ، وبين شيخه وشيخ شيخه ، وهكذا بقية الإسناد ، لأنه إذا أسقط ضعيفاً بين شيخه وشيخ شيخه لا يبعد أن يفعل ذلك في بقية السند ، ولهذا قال السيوطي شرحاً كلام النووي([26]) : ( (وربما لم يسقط شيخه أو أسقط غيره) أي شيخ شيخه أو أعلى منه لكونه (ضعيفا) وشيخه ثقة (أو صغيرا) وأتى فيه بلفظ محتمل عن الثقة الثاني (تحسينا للحديث) وهذا من زوائد المصنف على ابن الصلاح وهو قسم آخر من التدليس يسمى تدليس التسوية ) .

وقال الخطيب([27]) : (وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلا يكون ضعيفا في الرواية أو صغير السن ويحسن الحديث بذلك ) .

وقال السخاوي([28]) : (وشرها أي أنواع أي أنواع التدليس حتى ما ذكر ابن الصلاح أنه شرة أخو أي صاحب التسويه الذي أشار إليه الخطيب بقوله : وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه لكنه يسقط ممن بعد في الإسناد رجلا يكون ضعيفا في الروايه أي صغير السن الحديث بذلك . وتبعه النووي في ذلك في القسم الأول من تقريبه وجماعه  ) .

وقال الشيخ الألباني([29]) : (فيشترط في المدلس تدليس التسوية أن يصرح بالتحديث بين كل رواة الإسناد ، فتنبه لهذا ؛ فإنه مهم جداً ، فإني كنت من الغافلين عنه سنين تبعاً لبعض من سلف من الجارحين والمخرجين ، والله يغفر لنا ولهم ) .

القسم الثالث : تدليس الشيوخ([30]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

هو أن يروي المدلس عن شيخ حديثاً سمعه منه ، فيسميه ، أو يكنيه ، أو ينسبه ، أو يصفه ، بما لايعرف به ، كي لا يعرف .

مثاله :

المثال الأول : قال الإمام أحمد([31]) حَدَّثَنَا مَرْوَانُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَكِّيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ : (( الْعُسَيْلَةُ هِيَ الْجِمَاعُ)) .

هذا الحديث إسناده ضعيف ، لأجل جهالة أبي عبد الملك المكي ، فمروان الراوي عنه هو ابن معاوية ، قد دلس في هذا الإسناد تدليس الشيوخ ولم يصرح باسم أو كنية من أخبره بهذا الحديث التي يعرف بها عند العلماء بل ذكره بكنية غير معروفه عندهم تعمية لأمره ، قال الحافظ ابن حجر([32]) : (مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري أبو عبد الله الكوفي نزيل مكة ودمشق ثقة حافظ وكان يدلس أسماء الشيوخ ) . وقال أبو حاتم : (تكثر روايته عن الشيوخ المجهولين)([33]) . وقال المزي([34]) : (وَقَال عَبد الله بن علي بن المديني عَن أبيه : ثقة فيما روى عن المعروفين ، وضعفه فيما روى عن المجهولين . وَقَال علي بن الحسين بن الجنيد عن ابن نمير : كان يلتقط الشيوخ من السكك . وَقَال العجلي : ثقة ثبت ، ما حدث عن المعروفين فصحيح ، وما حدث عن المجهولين ففيه ما فيه وليس بشيءٍ ) .

المثال الثاني : قال الإمام أحمد([35]) حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ زُفَرَ عَنْ هَاشِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ –رضي الله عنهما- قَالَ : ((مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ ، لَمْ يَقْبَلِ اللهُ لَهُ صَلَاةً مَادَامَ عَلَيْهِ ، قَالَ : ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : صُمَّتَا إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ )) .

هذا الحديث إسناده ضعيف جدا ، لأجل عثمان بن زفر فهو مجهول الحال ، وهشام مجهول العين ، والراوي عن عثمان هو بقية بن الوليد وهو مدلس تدليس الشيوخ ، وقد رواه عن عثمان بالعنعنة ولم يصرح بالتحديث ، قال الحافظ بن حجر([36]) : (بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو يحمد بضم التحتانية وسكون المهملة وكسر الميم صدوق كثير التدليس عن الضعفاء من الثامنة مات سنة سبع وتسعين وله سبع وثمانون) . وقد اتهم بتدليس التسوية ، وسبق بحث هذا في تدليس التسوية .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس الشيوخ :

تدليس الشيوخ لا يقبل معه الحديث حتى لو صرح المدلس بالتحديث بينه وبين من روى عنه كما في المثال الأول ، فلا بد في قبول حديث المدلس تدليس الشيوخ أن يصرح المدلس باسم أو كنية الرواي الذي يروي عنه بحيث يصرح باسمه أو كنيته التي اشتهر بها عند العلماء ، ولا يأتي باسمٍ أو كنية مجهولة عند المحدثين .

تنبيه :

يلحق بتدليس الشيوخ تدليس البلدان ، قال الحافظ ابن حجر([37]) : (ويلتحق بقسم تدليس الشيوخ تدليس البلاد ، كما إذا قال المصري : حدثني فلان بالأندلس . وأراد موضعا بالقرافة . أو قال : بزقاق حلب . وأراد موضعا بالقاهرة . أو قال البغدادي : حدثني فلان بما وراء النهر . وأراد نهر دجلة . أو قال : بالرقة . وأراد بستانا على شاطئ دجلة . أو قال الدمشقي : حدثني بالكرك . وأراد كرك نوح وهو بالقرب من دمشق . ولذلك أمثلة كثيرة ) .

القسم الرابع : تدليس العطف([38]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

هو أن يروي الراوي عن شيخين من شيوخه حديثاً ، وهذان الشيخان سمعاه من شيخ اشتركا فيه ، ويكون الراوي عنهما قد سمع ذلك من أحدهما دون الآخر ، فيصرح عن الأول بالسماع ويعطف الثاني عليه ، فيقول : حدثنا فلان وفلان قالا : حدثنا فلان ، فيوهم أنه حدث عن الأول والثاني بالسماع – أيضا – ، وإنما حدث بالسماع عن الأول ثم نوى القطع فقال : وفلان أي : حدث فلان ، فإذا قال : حدثنا فلان وفلان ، فهو لا يريد الواو العاطفة ، بل يريد الواو الاستئنافية ، فيخبر عن فلان الثاني بخبر يضمره ، يقول : حدثني فلان ، صحيح أن الثاني حدثه ، لكنه ليس هذا الحديث الذي دلس فيه وأوهم أنه سمعه منه .

مثاله :

ذكر الحاكم أن جماعة من أصحاب هشيم([39]) اجتمعوا يوما على أن لا يأخذوا منه التدليس ، ففطن لذلك ، فكان يقول في كل حديث يذكره : حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ، فلما فرغ قال لهم : هل دلست لكم اليوم ؟ فقالوا : لا . فقال : لم أسمع من مغيرة حرفاً مما ذكرته ، إنما قلت : حدثني حصين ومغيرة غير مسموع لي([40]) .

يعني أنه لم يسمع من مغيرة وإنما عطفه على حصين موهما السماع ، وكان يضمر في نفسه كلاما بعد واو العطف ثم يقول : حصين .

إلا أن هذه الرواية التي ذكرها الحاكم لم يسندها فهي لا تصح ، ولم أقف على مثال صحيح على تدليس العطف .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس العطف :

تدليس العطف لا يقبل معه الحديث حتى يصرح المدلس بالتحديث بينه وبين من روى عنه بالعطف .

تنبيه :

وليس من هذا القسم ما لو روى الراوي الخبر عن اثنين أحدهما ثقة والآخر ضعيف ، واقتصر على ذكر الثقة وحذف الضعيف ، فإن هذا لا يدخل معنا في أقسام التدليس ، مثل ما لو أن البخاري روى خبراً من طريق مالك وابن لهيعة ، وهو قد سمع الحديث الذي سيحدث به عنهما ، لكنه حذف ابن لهيعة ، واقتصر على رواية هذا الحديث عن مالك ، فإن هذا ليس تدليساً ؛ لأنه ليس بحاجة إلى ذكر الضعيف ، يكفيه ذكر الثقة الذي سمع عنه الحديث .

القسم الخامس : تدليس القطع ، ويسمى تدليس الحذف([41]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

وهو أن يسكت الراوي بين صيغ الأداء ناوياً بذلك القطع أو الحذف ثم يذكر الراوي موهما أنه سمعه عنه بمعنى أن يسقط الراوي اسم الشيخ الذي سمع الحديث منه مباشرة مقتصراً على ذكر أداة الرواية ، أو أن هو أن يسقط المدلس أداة الرواية مقتصرا على اسم الشيخ موهما أنه سمعه منه .

مثال أن يسقط المدلس من حدثه به ويبقي الأداة :

قال الحافظ ابن حجر([42]) : (وفاتهم أيضاً فرع آخر وهو تدليس القطع ، مثاله : ما رويناه في «الكامل» لأبي أحمد بن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول : ثنا ثم يسكت ينوي القطع ثم يقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها-) .

فهنا صيغة التحديث موجودة وهو أن عمر بن عبيد قال : حدثنا ، لكنه سكت بعد هذه الصيغة ناويا القطع بينها وبين الراوي الذي سيذكره ، ثم قال : هشام بن عروة ، موهما أنه سمع الحديث من هشام والواقع ليس كذلك .

مثال أن يسقط المدلس أداة الرواية مقتصرا على اسم الشيخ :

قال ابن الصلاح([43]) : ( مَا رُوِّينَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، فَقَالَ : الزُّهْرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : حَدَّثَكُمُ الزُّهْرِيُّ؟ فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ : الزُّهْرِيُّ ، فَقِيلَ لَهُ : سَمِعْتَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ؟ فَقَالَ : لَا ، لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ، وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ) .

فهنا سفيان بن عيينة لم يذكر أداة الرواية بينه وبين شيخه الزهري ، فلم يقل عن الزهري أو قال الزهري ونحو ذلك ، فأسقط بينه وبين شيخه اثنين ، فعبد الرزاق تلميذ سفيان ، فلما لم يسمع سفيان هذا الحديث من شيخه الزهري مباشر فلا بد له أن يرويه عن تلميذه عبد الرزاق وبهذا سيصبح السند نازلا ، فكأن سفيان لثقته بتلميذه عبد الرزاق وشيخه معمر ، لم يجد حرجا بإسقاطهما ورواية الحديث مباشرة عن شيخه الزهري الذي لم يسمع منه هذا الحديث مباشرة ، لأنه متأكد أنه صحيح إلى الزهري .

وسبق أن سفيان بن عيينة لا يدلس إلا عن ثقة فمثل تدليسه يحتمل ويقبل ، لأنه لا يسقط إلا راوياً ثقة .

وممن كان يدلس تدليس القطع كذلك :

عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي ، قال الحافظ ابن حجر([44]) : (عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي أبو جعفر البصري مولى ثقيف … قال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي ذكره فأثنى عليه خيرا وقال : كان يدلس . وقال ابن معين : كان يدلس ، وما كان به بأس حسن الهيئة وأصله واسطي نزل البصرة لم أكتب عنه شيئا . وقال ابن سعد : كان ثقة ، وكان يدلس تدليسا شديدا ، يقول : سمعت وحدثنا ثم يسكت فيقول : هشام بن عروة والأعمش ، وقال كان رجلا صالحا ، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس ، وأما غير ذلك فلا ، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا . وقال أبو حاتم : محله الصدق ولولا تدليسه لحكمنا له إذا جاء بزيادة غير أنا نخاف أن يكون أخذه عن غير ثقة . وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به ) .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس القطع :

تدليس العطف لا يقبل معه الحديث حتى يصرح المدلس بالتحديث بينه وبين من روى عنه ، ويثبت أنه لم يسكت ناويا القطع بينه وبين شيخه ، وذلك يعرف بقبول الحفاظ لحديثه هذا بعينه ، أو تصحيحهم لهذا الحديث ، ونحو ذلك ، هذا مع تصريحه بالتحديث ، إلا إذا كان هذا المدلس لا يدلس إلا عن الثقات فإنه يقبل حديثه([45]) .

القسم السادس : تدليس صيغ الأداء([46]) :

المسألة الأولى : تعريفه :

وَهُوَ ما يقع من الْمُحَدِّثِيْنَ من التعبير بالتحديث أَوْ الإخبار عَنْ الإجازة([47]) موهماً للسماع ، وَلَمْ يَكُنْ تحمله لِذَلِكَ المروي عَنْ طريق السَّمَاع .

فهذا التدليس يظهر فيه الراوي ما تحمله بالإجازة ، بصيغة الأداء مثل أخبرني أو حدثني موهماً أنه سمعه من المجيز ، أو أنه كتب بهذا الحديث إليه ، وهو لم يسمع منه إلا عبارة الإجازة فقط ، أو كتب إليه بالإجازة فقط ، ونحو ذلك .

وبعض أهل العلم لم يعد هذا تدليساً ، قال العلائي([48]) : ( فأما تدليس الإجازة والمناولة والوجادة بإطلاق أخبرنا فلم يعده أئمة الفن في هذا الباب ، كما قيل في رواية أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب ، ورواية مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه ، وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري وشبه ذلك بل هو إما محكوم عليه بالانقطاع أو يعد متصلا ، ومن هذا القبيل ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي عن الحافظ أبي الحسن الدارقطني أنه كان يقول فيما لم يسمع من البغوي : قُرئ على أبي القاسم البغوي حدثكم فلان ويسوق السند إلى آخره ، بخلاف ما هو سماعه فإنه يقول فيه : قُرئ على أبي القاسم وأنا أسمع أو أخبرنا أبو القاسم البغوي قراءة ونحو ذلك ، فأما أن يكون له من البغوي إجازة شاملة بمروياته كلِّها فيكون ذلك متصلا له أو لا يكون كذلك فيكون وجادة ، وهو قد تحقق صحة ذلك عنه على أن التدليس في المتأخرين بعد سنة ثلاثمائة يقل جدا قال الحاكم : لا أعرف في المتأخرين من يذكر به إلا أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي . والله أعلم ) .

والذي يظهر – والله أعلم- أن هذا الفعل يعد تدليساً فبالنظر إلى الصيغة التي حدث بها الراوي فقد دلس فيها ، فقوله حدثني أو أخبرني يدل على المشافهة وليس الأمر كذلك .

المسألة الثانية : حكم الحديث المدلس تدليس صيغ الأداء :

الحديث المدلس تدليس صيغ الأداء ينظر فيه إلى الراوي الذي فعل ذلك ، فإذا كان الراوي موصوفاً بهذا النوع من التدليس ، فينبغي النظر إلى هذا المدلس الذي فعل هذا النوع من التدليس وكلام العلماء النقاد عليه ، وهل يقبل فعله هذا عندهم أو لا ، وكذلك فينبغي النظر إلى هذه الإجازة التي يروي بها الراوي عن المجيز هل أجازه بشي معين من كتبه أو أجاز له أن يروي مسموعاته ونحو ذلك مما سيأتي في تفصيل الإجازة ؛ فلا يقبل هذا الحديث الذي فيه تدليس صيغ الأداء ولا يرد بل لا بد في النظر والبحث في اتصال الإسناد ونحوه والمتن هل فيه شذوذ أو نكارة أو غرابة ونحو ذلك .

فمثلا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ، صاحب التصانيف قال عنه الحافظ ابن حجر([49]) : (أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الحافظ أبو نعيم صاحب التصانيف الكثيرة الشائعة ، منها حلية الأولياء ، ومعرفة الصحابة ، والمستخرجين على الصحيحين كانت له إجازة من أناس أدركهم ولم يلقهم فكان يروى عنهم بصيغة أخبرنا ولا يبين كونها إجازة ، لكنه كان إذا حدث عن من سمع منه يقول : حدثنا ، سواء كان ذلك قراءة أو سماعا ، وهو اصطلاح له تبعه عليه بعضهم وفيه نوع تدليس بالنسبة لمن لا يعرف ذلك . قال الخطيب : رأيت لأبي نعيم أشياء يتساهل فيها منها أنه يطلق في الإجازة أخبرنا ولا يبين . قال الذهبي : هذا مذهب رآه أو نعيم وهو ضرب من التدليس وقد فعله غيره) .

وقد ذكره الحافظ في الطبقة الأولى من المدلسين التي يقبل معها تدليسه ، وذكر غيره في هذه الطبقة ممن عرفوا بتدليس صيغ الأداء .

مسائل مكملة للحديث المدلس :

المسألة الأولى : حكم التدليس :

قد ذم بعض العلماء التدليس وحذروا منه ، ووصفوه بأبشع العبارات ، فَقَدْ ورد عن شعبة –رحمه الله تعالى- أنه قَالَ : (التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ)([50]) ، وجاء نحوه عن حماد بن زيد وعوف الأعرابي([51]) ، وَقَالَ شعبة : (لأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ)([52]) ، ونحو ذلك من العبارات التي ورد فيها التشنيع على التدليس وإنكاره ، والمبالغة في الزجر عنه والتنفير منه ومن فاعله([53]) .

ومنهم من تسامح فيه ، فقد قَالَ أبو بكر البزار : (التدليس ليس بكذب وإنما هو تحسين لظاهر الإسناد )([54]) .

والصحيح أنه ليس بكذب يقدح به في عدالة الرَّاوِي ويرد به جميع حديثه ، وإنما هُوَ ضَرْبٌ من الإيهام ، وهو الذي عليه الجمهور ، وهو صنيعهم ، فشعبة من أشد الناس نكارة للتدليس وأهله ، ومع ذلك فقد روى عن جماعة من شيوخه المعروفين بالتدليس ، كأبي إسحاق السبيعي والأعمش من أئمة زمانه ، فلو كان التدليس عنده كذباً ما روى عنهم  مطلقاً ، وهَذَا ما نصّ عليه الإمام الشَّافِعِيّ -رحمه الله- فإنه قَالَ([55]) : (ومن عرفناه دلّس مرة فَقَدْ أبان لنا عورته في روايته ، وليست تِلْكَ العورة بالكذب فنرد بِهَا حديثه ، ولا النصيحة في الصدق ، فنقبل مِنْهُ ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق) .

وأما حكم الحديث المدلس ، فقد اختلف العلماء فيه على مذاهب([56]) :

المذهب الأول : أن خبر المدلس لا يقبل مطلقاً ، لأن المدلس أوهم بشيء لا أصل له وهو أن الحديث متصل وأسقط أو ترك تسمية من لعله غير مرضي عند العلماء وليس ثقة ، ولأنّ التدليس عندهم هو جرح بنفسه تسقط بِهِ عدالة من عُرِف بِهِ ، وهذا المذهب نقل عن جماعة من أهل الحديث والفقه .

المذهب الثاني : قبول خبر المدلس مطلقاً ، فالتدليس عندهم ضرب من الإرسال ، فمن قبل المرسل وقال به فإنه من باب أولى عندهم قبول خبر المدلس لأن إعراض الثقة عن ذكر الرَّاوِي في الإسناد تعديلٌ لَهُ ، فإن من مقتضيات ثقته أن يصرح باسم من روى عَنْهُ إذا لم يكن ثقة لكن لما أسقطه من الإسناد إذا هو ثقة عنده ، وهذا مذهب جمهور من قبل المراسيل .

المذهب الثالث : التفصيل ، فإن روى المدلس بصيغة مبينة للسماع أو التحديث([57]) ، فيقبل حديثه ، وإن روى بصيغة محتملة للسماع كالعنعنة ونحوها فلا يقبل . وهذا الَّذِيْ عَلَيْهِ جمهور أَهْل الْحَدِيْث ، وهو قول الإمام الشافعي ، والْخَطِيْب البغدادي ، وابن الصَّلاَحِ وغيرهم .

المذهب الرابع : إذا عرف من حال المدلس أنه لا يدلس إلا عن الثقات ، فخبره مقبول كيفما كانت صيغة التحديث ، وإن كَانَ يدلس عن غَيْر الثقات رد حديثه حَتَّى يصرح بالسماع ، قال ابن عبد البر([58]) : (وَقَالُوا : لَا يُقْبَلُ تَدْلِيسُ الْأَعْمَشِ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ أَحَالَ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ ، يَعْنُونَ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ ، إِذَا سَأَلْتَهُ عَمَّنْ هَذَا ؟ قَالَ : عَنْ مُوسَى بْنِ طَرِيفٍ وَعَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ وَالْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ . قَالُوا : يُقْبَلُ تَدْلِيسُ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ أَحَالَ عَلَى ابْنِ جُرَيْحٍ وَمَعْمَرٍ وَنَظَائِرِهِمَا) .

حكاه هذا المذهب الْخَطِيْبُ عن بعض أهل العلم ، ونقله ابن حجر في النكت عن البزار وأبي الفتح الأزدي وغيرهما .

والراجح من هذه المذاهب أن رواية المدلس لا ترد مطلقاً ولا تقبل مطلقا ، فقد تقبل إذا صرح بالتحديث والسماع كما قال أصحاب المذهب الثالث ، وقد لا تقبل حتى لو صرح بالتحديث كتدليس الشيوخ ونحوه كما سبق في أقسام التدليس ، وقد يقبل خبر المدلس إذا كان لا يدلس إلا عن ثقة كما قال أصحاب المذهب الرابع إلا أنه على تفصيل سيأتي في المسألة الثالثة ، ولهذا ذكرت لك أقسام التدليس الستة وحكم كل قسم هذا هو الراجح في حكم التدليس هو بيان حكم كل قسم لوحده . والله أعلم .

المسألة الثانية : المدلس إذا كان لا يدلس إلا عن ثقة فهل يقبل مطلقاً ؟

سبق في المذهب الرابع أن المدلس إذا كان لا يدلس إلا عن ثقة فإنه يقبل حديثه عندهم لكن ينبغي أن يرعى الآتي في قبول روايته :

أولا : إذا كان المدلس لا يدلس إلا عن ثقة عنده وهو مجهول عند غيره فإنه ينبغي أن لا يقبل تدليسه والحالة هذه لأنه قد يكون ثقة عنده ضعيف عند غيره ، وهو كما لو قال حدثني الثقة ، فالراوي مبهم لا يقبل معه الحديث حتى يسميه ، فالمدلس أحيانا إنما يدلس لأجل أن شيخه ثقة عنده ضعيف عند غيره كما سيأتي في الأسباب الحاملة على التدليس .

ثانياً : إذا كان المدلس لا يدلس إلا عن ثقة عنده وعند غيره ، وهذا يعرف بأقوال العلماء الذين تتبعوا أحاديث هذا المدلس التي ذكرها بغير صيغة التحديث أو السماع فوجدوه أنه لا يدلس إلا عن الثقات فقط ، فهذا يقبل حديثه مع العنعنة مطلقا .

ولهذا ينبغي في قبول المدلس الذي قيل عنه أنه لا يدلس إلا عن ثقة أن ينظر في حكم العلماء على حديثه وهل قبلوه مطلقاً أوردوه في أحوال ، قال ابن حبان([59]) : (وأما المدلسون الذين هم ثقات وعدول فإنا لا نحتج بأخبارهم إلا ما بينوا السماع فيما رووا ، مثل الثوري والأعمش وأبي إسحاق وأضرابهم من الأئمة المتقين ، وأهل الورع في الدين لأنا متى قبلنا خبر مدلس لم يبين السماع فيه وإن كان ثقة لزمنا قبول المقاطيع والمراسيل كلّها لأنه لا يدري لعل هذا المدلس دلس هذا الخبر عن ضعيف يَهِي الخبر بذكره إذا عرف اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنه ما دلس قط إلا عن ثقة ، فإذا كان كذلك قبلت روايته ، وإن لم يبين السماع ، وهذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده ، فإنه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا وجد الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه ، والحكم في قبول روايته لهذه العلة وإن لم يبين السماع فيها كالحكم في رواية ابن عباس إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع منه) .

وسيأتي تفصيل شيء من ذلك في طبقات المدلسين في المسألة السادسة إن شاء الله تعالى وسنبين من يقبل تدليسه ومن لا يقبل .

المسألة الثالثة : إذا صرح الثقة بأنه كفانا تدليس المدلس في الحديث أو صرح المدلس نفسه أنه لا يدلس في حديثه عن فلان فهل يقبل ذلك؟

صرح بعض الرواة عن المدلسين أنه إذا حدث عن المدلس الفلاني فإن حديثه يقبل حتى مع عنعنة المدلس لأنه تتبع حديثه ، وكذلك ثبت عن بعض المدلسين أنه لا يدلس عن فلان ، فمن ذلك :

أولا : شعبة عن الأعمش أو عن أبي إسحاق السبعي أو عن قتادة .

فإذا روى شعبة عن هؤلاء ورووا بالعنعنة فإنه تقبل روايتهم مع أنهم عرفوا بالتدليس ، وذلك لما ثبت عن شعبة أنه قال : (كفيتكم تدليس ثلاثة : الأعمش ، وأبي إسحاق، وقتادة)([60]) ، قال الحافظ ابن حجر([61]) : (فهذه قاعدة جيّدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة أنها جاءت من طريق شعبة دلّت على السماع ، ولو كانت معنعنة) .

ثانياً : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن عطاء بن أبي رباح أو ابن أبي مُلَيكة .

عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عرف بالتدليس ، ولا يقبل حديثه إلا إذا صرح بالتحديث ، قال الدارقطني : (تجنب تدليسه فإنه وحش التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح )([62]) . إلا أنه إذا روى عن عطاء بن أبي رباح أو ابن أبي مُلَيكة فإنه لا يدلس عنهما ، ويقبل حديثه حتى مع عدم التصريح بالتحديث أو السماع .

أما عنعنته عن عطاء ، فلما ثبت عن ابن جريج أنه قال : (إذا قلت : قال عطاء فأنا سمعته منه ، وإن لم أقل : سمعت)([63]) . قال الشيخ الألباني([64]) : (فهذا نص منه أن عدم تصريحه بالسماع من عطاء ليس معناه أنه قد دلسه عنه ، ولكن هل ذلك خاص بقوله : (قال عطاء) أم لا فرق بينه وبين ما لو قال : (عن عطاء) كما في هذا الحديث وغيره ؟ الذي يظهر لي الثاني وعلى هذا فكل روايات ابن جريج عن عطاء محمولة على السماع . إلا ما تبين تدليسه فيه . والله أعلم). وقال أيضاً([65]) : (وهذه فائدة هامة جدا تدلنا على أن عنعنة ابن جريج عن عطاء في حكم السماع) . وقال كذلك([66]) : (وهذه فائدة عزيزة فاحفظها فإني كنت في غفلة منها زمنا طويلا ثم تنبهت لها فالحمد لله على توفيقه . وبها تبين السر في إخراج الشيخين لحديث ابن جريج عن عطاء معنعنا) .

ومن المتقرر في علم مصطلح الحديث أنَّ (قال) لها حكم (عن) .

وكذلك فيما يرويه ابن جريج عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي ملكية ، فقد قال عمرو بن علي الفلاس ، سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : (أحاديث ابن جريج عن ابن أبي ملكية كلها صحاح ) ، وجعل يحدثني بها ، ويقول : (حدثنا ابن جريج ، قال : حدثني ابن أبي ملكية) ، فقال في واحد منها : (عن ابن أبي مليكة) ، فقلت : قل حدثي ، قال : ( كلها صحاح)([67]) .

ثالثاً :  حفص بن غياث عن سليمان بن مهران الأعمش .

قال الحافظ ابن حجر([68]) : (حَفْص بن غياث بن طلق بن مُعَاوِيَة النَّخعِيّ أَبُو عَمْرو القَاضِي الْكُوفِي من الْأَئِمَّة الْأَثْبَات ، أَجمعُوا على توثيقه والاحتجاج بِهِ إِلَّا أَنه فِي الآخر سَاءَ حفظه ، فَمن سمع من كِتَابه أصح مِمَّن سمع من حفظه ، قَالَ أَبُو زرْعَة وَقَالَ ابن الْمَدِينِيّ : كَانَ يحيى بن سعيد الْقطَّان يَقُول : حَفْص أوثق أَصْحَاب الْأَعْمَش . قَالَ : فَكنت أنكر ذَلِك ، فَلَمَّا قدمت الْكُوفَة بآخرة أخرج إِلَيّ ابْنه عمر كتاب أَبِيه عَن الْأَعْمَش ، فَجعلت أترحم على الْقطَّان . قلت : اعْتمد البُخَارِيّ على حَفْص هَذَا فِي حَدِيث الْأَعْمَش لِأَنَّهُ كَانَ يُمَيّز بَين مَا صرح بِهِ الْأَعْمَش بِالسَّمَاعِ وَبَين مَا دلسه ، نبه على ذَلِك أَبُو الْفضل بن طَاهِر ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ) .

روى الخطيب بسنده([69]) إلى ابن عمار قَالَ : (كَانَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ … قَالَ : وَقُلْتُ لَهُ : مَا لَكُمْ حَدِيثُكُمْ عَنِ الأَعْمَشِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ فُلانٍ عَنْ فُلانٍ لَيْسَ فِيهِ حَدَّثَنَا ، وَلا سَمِعْتُ قَالَ : فَقَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَمَّارٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، يَقُولُ : ” لَيَأْتِيَنَّ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يُقِيمُونَهُ إِقَامَةَ الْقِدْحِ ، لا يَدَعُونَ مِنْهُ أَلِفًا وَلا وَاوًا ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ ” ، قَالَ : وَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ مِثْلَهُ قَالَ : وَكَانَ عامة حَدِيث الأعمش عند حفص بْن غياث على الخبر وَالسماع).

المسألة الرابعة : مراسيل الصحابة ليست من التدليس :

سبق بيان مراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- وسبق حكمها وذكرت هذه المسألة لأن بعضهم نسب للصحابي الجليل أبي هريرة –رضي الله عنه- التدليس ، وزعم أن شعبة يقول بذلك ، وهذه الزعم باطل سندا ، منكر وقبيح لفظا ، وإليك البيان :

أولا : قال ابن عدي([70]) : حَدَّثَنَا الحسن بن عثمان التستري ، أَخْبَرنا سلمة بن شبيب ، قال : سَمِعتُ يزيد بن هارون ، قَالَ : سَمِعْتُ شُعْبَة يقول : (أبو هريرة كان يدلس) .

وهذه الرواية ساقط مكذوبة لا تصح عن شعبة ، وعلتها التستري الكذاب فقد قال عنه ابن عدي([71]) : ( الحسن بن عثمان بن زياد بن حكيم أبو سعيد التستري كان عندي يضع ويسرق حديث الناس ، سألت عبدان الأهوازي عنه فقال : هو كذاب ) .

ثانياً : أنه لا يصح أن ينسب إلى الصحابة –رضي الله عنهم- التدليس بحال ، لأن التدليس جرح بالراوي قطعاً ولهذا لا تقبل رواته مطلقاً ولا ترد كما سبق التفصيل ، فكيف يصح أن يقال ذلك في الصحابة –رضي الله عنهم- المزكون من رب العالمين ، وسبق أن العلماء –رحمهم الله تعالى- أجمعوا على قبول مراسيلهم ، قال السرخسي([72]) : (ولا خلاف بين العلماء في مراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- أنها حجة ، لأنهم صحبوا رسول الله ﷺ ، فما يروونه عن رسول الله عليه السلام مطلقا يحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم ، وهم كانوا أهل الصدق والعدالة ).

وقال ابن قدامة([73]) : (مراسيل أصحاب النبي ﷺ مقبولة عند الجمهور وشذ قوم فقالوا : لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره ، أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي ، وإلا فلا ، لأنه قد يروي عمن لم تثبت لنا صحبته .

وهذا ليس بصحيح ، فإن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من أصاغر الصحابة مع إكثارهم ، وأكثر روايتهم عن النبي ﷺ مراسيل ) .

وقد صح عن البراء بن عازب –رضي الله عنه- فإنه قال : (مَا كُلُّ الْحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الإِبِلِ)([74]) .

وروى قتادة السدوسي عن أنس بن مالك قصةً ، فقال له رجلٌ : سمعت هذا من أنس؟ قال : نعم . قال رجل لأنس : أَسَمِعه من رسول الله ﷺ ؟ قال : نعم ، وحدثني من لم يكذب ، والله ما كنّا نكذب ولا ندري ما الكذب([75]) .

فهذا يرد أن يوصف أحدهم بالتدليس ، فالتدليس قصد به رد رواية الموصوفين بالتدليس خشية أن يكون الساقط الذي لم يذكره المدلس مجروحاً ، وهو أظهر سلامة الإسناد في روايته ، وهذا غير موجود في مراسيل الصحابة قطعا ، فلا وجه لذكر مراسيلهم في صور التدليس مطلقا ، وأيضاً التدليس هو أمرٌ حادث بعد الصحابة –رضي الله عنهم- لم يعرفه أحد منهم ، فكيف بعد ذلك يصح أن توصف مراسيلهم بالتدليس ؟!!

المسألة الخامسة: الأسباب الحاملة على التدليس([76]) :

هناك أسباب كثيرة تحمل المدلس على التدليس منها :

أولا : ضعف شيخ المُدَلِّس أو كونه غير ثقة عند العلماء إلا أنه ثقة عند المدلس فيعمد إلى حذفه حتى لا يرد حديثه .

ثانياً : صغر سن الشيخ المُدَلَّس عن سن المُدَلِّس فيأنف أن يروي عن شيخ أصغر منه سناً أو هو من تلاميذه فيعمد إلى حذفه .

ثالثاً : لأن المُدَلِّس قد شاركه في الرواية عن شيخه من هم دونه في السن أو العلم ، فلهذا يعمد المدلِّس في تدليس هذا الشيخ .

رابعاً : كثرة الرواية عن هذا الشيخ ، فيعمد الراوي إلى تغير اسم أو كنية هذا الشيخ  دفعاً للتكرار وتوهيما أنه يروي عن أكثر من شيخ والحقيقة أنه واحد .

خامساً : فَوَات شيء من الحديث عن شيخ سمع منه الكثير فيعمد إلى أنه يرويه عنه هذا الحديث الذي لم يسمعه منه حتى لا يكون قد فاته شيء من الحديث لم يروه عن هذا الشيخ .

هذه بعض الأسباب الحاملة على التدليس ، وله أهداف وغايات ذكرها بعض أهل العلم كتحسين الحديث ، وإيهام كثرة الشوخ ، وإيهام علو الإسناد ، وإيهام كثرة الرحلة ، والاختصار في الصيغة ونحو ذلك من المقاصد .

المسألة السادسة : طبقات المدلسين :

اعلم أن المدلسين ليسوا على طبقة واحدة فهم على طبقات فقد قسمها العلماء إلى خمس طبقات فمنهم من يقبل تدليسه ومنهم من لا يقبل حتى يصرح بالتحديث أو ما يدل على عدم التدليس كما مر تفصيله في حكم التدليس ، وطبقات المدلسين هي :

قال العلائي([77]) : (ثم ليعلم بعد ذلك أن هؤلاء كلهم ليسوا على حد واحد بحيث إنه يتوقف في كل ما قال فيه واحد منهم عن ولم يصرح بالسماع ، بل هم على طبقات :

أولها : من لم يوصف بذلك إلا نادرا جدا بحيث إنه لا ينبغي أن يعد فيهم كيحيى بن سعيد الأنصاري ، وهشام بن عروة ، وموسى بن عقبة .

وثانيها : من احتمل الأئمة تدليسه وخرجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع ، وذلك إما لإمامته أو لقلة تدليسه في جنب ما روى ، أو لأنه لا يدلس إلا عن ثقة ، وذلك كالزهري وسليمان الأعمش ، وإبراهيم النخعي ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وسليمان التيمي ، وحميد الطويل والحكم بن عتبة ، ويحيى بن أبي كثير ، وابن جريج ، والثوري ، وابن عيينة ، وشريك ، وهشيم …

وثالثها : من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا بهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ، وقبلهم آخرون مطلقا كالطبقة التي قبلها لأحد الأسباب المتقدمة كالحسن([78]) ، وقتادة ، وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي ، وأبي سفيان طلحة بن نافع ، وعبد الملك بن عمير .

وخامسها : من قد ضعف بأمر آخر غير التدليس فرد حديثهم به لا وجه له إذ لو صرح بالتحديث لم يكن محتجا به كأبي جناب الكلبي ، وأبي سعد البقال ونحوهما فليعلم ذلك ) .

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه طبقات المدلسين هذه الطبقات وذكر تحت كل طبقة عددا من الموصوفين بالتدليس ، كذلك ذكر في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح([79]) طبقات المدلسين والموصوفين به .

وسبق في بيان حكم المدلسين وكيفية التعامل مع كل نوع من أنواع التدليس فلا يجوز الاعتماد على طبقات المدلسين فقط في قبول الحديث أو رده بل ينبغي النظر كذلك إلى نوع التدليس ، وكلام العلماء على هذا المدلس ، وحكمهم على هذا الحديث الذي دلس إسناده .

 

  ([1])ينظر  : نزهة النظر ص (61) ، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (414) ، واليواقيت والدرر للمناوي  (2/7) ، والنكت على نزهة النظر ص (112) .

  ([2])ينظر  : توضيح الأفكار (1/346) ، التبصرة والتذكر (1/179) ، الشذا الفياح في علوم ابن الصلاح (1/173) ، فتح الباقي شرح ألفية العراقي ص (164) ، اليواقيت والدرر (2/10) ، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (416) ، نزهة النظر ص (160) ، الباعث الحثيث (1/172) ، فتح المغيث شرح ألفية الحديث (1/313) ، تدريب الراوي (1/256) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (165) والإرشاد (1/205) ، والتقريب ص (63) ، والاقتراح ص (217) ، والمنهل الروي ص (72) ، والخلاصة ص (74) ، والموقظة ص (47) ، ومقدمة طبقات المدلسين ص (13) ، وظفر الأماني ص (373) .

  ([3])ينظر  : المصباح المنير ص (76) ، ومختار الصحاح ص (209) ، والقاموس المحيط ص (703) ، وتاج العروس (16/84) ، ومعجم مقاييس اللغة (2/340) ، وتهذيب اللغة (12/362) ، والمحكم (8/452) ، لسان العرب (4/387) .

  ([4])ينظر  :  اليواقيت والدرر (2/10)  ، والخلاصة للطيبي ص (74) ، وظفر الأماني اللكنوي ص (373) ، وشرح ديباج المذهب ص (46) ، وجوهر الأصول ص (49) .

  ([5])ينظر  : فتح الباقي ص (164) ، والباعث الحثيث (1/172) ، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (420) ، وتدريب الراوي (1/256) ، فتح المغيث (1/313) ، اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر (2/15) ، وتوضيح الأفكار (1/350) ، التبصرة والتذكرة (1/179) ، والشذا الفياح (1/173) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (165) ، والاقتراح لابن دقيق العيد ص (217) ، والموقظة ص (47) ، والتوضيح الأبهر للسخاوي ص (46) ، والتقييد والإيضاح للعراقي ص (78) ، إرشاد طلاب الحقائق (1/205) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح (2/614) ، أصول الحديث ص (363) .

  ([6])نزهة النظر ص (115) .

  ([7])رواه في المسند رقم الحديث (1975) .

  ([8])طبقات المدلسين ص (50) ذكره في المرتبة الثانية .

  ([9])ينظر : معرفة علوم الحديث للحاكم ص (130) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (166) .

  ([10])طبقات المدلسين ص (59) ذكره في المرتبة الثالثة .

  ([11])ينظر  : التقييد الإيضاح ص (78) ، والنكت على ابن الصلاح (2/616) ، تدريب الراوي (1/257) ، وفتح المغيث (1/338) ، والشذا الفياح (1/174) ، وتوضيح الأفكار (1/372) ، شرح شرح نخبة الفكر ص (422) ، شرح ألفية العراقي (1/190) .

  ([12])فتح المغيث (1/338) .

  ([13])تاريخ دمشق (28/18) . ينظر السلسلة الضعيفة رقم (6158) .

  ([14])لا يواسى بينهم : لا يسوى بينهم ، فيعلم ابن الغنى ومن يعطيه مالاً أكثر ما لا يعلم ابن الفقير ، أو اليتيم.

  ([15])حديث السرج (3/236) رقم (2628) ، والبيهقي في دلائل النبوة (6/107) . ينظر السلسلة الضعيفة رقم (6482) .

  ([16])تقريب التهذيب (1/485) رقم (7456) .

  ([17])تاريخ الإسلام (4/1240) .

  ([18])تقريب التهذيب (1/519) رقم (6464) .

  ([19])ميزان الاعتدال (6/15) .

  ([20])تقريب التهذيب (1/507) رقم (6304) .

  ([21])تهذيب التهذيب (9/406) رقم (744) .

  ([22])تنبيه : الشيخ الألباني –رحمه الله تعالى- صنيعه في السلسلة الصحيحة حديث رقم (2308) يدل على أن محمد بن مصفى يدلس تدليس الإسناد فقط ، وأما في كتابه تخريج أحاديث مشكلة الفقر ص (54) فكأنه ارتضى قول أبي زرعة في أن محمد بن مصفى يدلس تدليس التسوية فإنه قال – على إسناد رواه الطبراني عن محمد بن مصفى حدثنا العباس بن إسماعيل الهاشم حدثنا الحكم بن عطية عن عاصم الأحول عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ – : (إسناده حسن لولا العنعنة بين الحكم وعاصم من جهة ، وبين عاصم وأنس من جهة أخرى ، فيخشى أن يكون ابن مصفى واسطة ما في أحد الموضعين ) .

  ([23])تقريب التهذيب (1/276) رقم (2934) .

  ([24])تقريب التهذيب (1/126) رقم (734) .

  ([25])السلسلة الضعيفة (12/105) .

  ([26])تدريب الراوي (1/257) .

  ([27])الكفاية ص (402) .

  ([28])فتح المغيث (1/338) .

  ([29])السلسلة الضعيفة (13/1082) .

  ([30])ينظر : الكفاية ص (373) ، والإقتراح ص (218) ، فتح الباقي ص (168) ، الباعث الحثيث (1/176) ، شرح شرح نخبة الفكر ص (421) ، الموقظة ص (48) ، التوضيح الأبهر ص (46) ، اليواقيت والدرر (2/15) ، شرح ألفية العرقي للأنصاري (1/179) ، توضيح الأفكار (1/370) ، الشذا الفياح (1/173) ، وفتح المغيث (1/331) ، إرشاد طلاب الحقائق (1/207) ، النكت على كتاب ابن الصلاح (2/615) ، تدريب الراوي (1/216) ، التقييد والإيضاح ص (80) ، مقدمة ابن الصلاح ص (167) ، وأصول الحديث ص (365) .

  ([31])في المسند رقم الحديث (24331) .

  ([32])تقريب التهذيب (1/526) رقم (6575) .

  ([33])الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/272) .

  ([34])تهذيب الكمال (27/409) .

  ([35])في المسند رقم الحديث (5732) .

  ([36])تقريب التهذيب (1/126) رقم (734) .

  ([37])النكت على كتاب ابن الصلاح (1/651) .

  ([38])ينظر :  النكت على كتاب ابن الصلاح (2/617) ، وتعريف أهل التقديس ص (16) ، وفتح المغيث (1/ 202) ، وتدريب الرَّاوِي (1/ 226) ، طبقات المدلسين لابن حجر ص (25) ، والباعث الحثيث ص (55) ، وتوضيح الأفكار (1/375) .

  ([39])معرفة علوم الحديث ص (164) .

  ([40])قال الحافظ في تهذيب التهذيب (11/53) : (هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي خازم الواسطي وقال العجلي : هشيم واسطي ثقة وكان يدلس وقال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث ثبتا يدلس كثيرا فما قال في حديثه : أنا فهو حجة ، وما لم يقل فليس بشيء ..) . وقال في تقريب التهذيب : (1/574) : (هشيم بالتصغير بن بشير بوزن عظيم بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي خازم بمعجمتين الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي) .

  ([41])ينظر : النكت على كتاب ابن الصلاح (2/617) ، وتدريب الرَّاوِي (1/224) ، وتوضيح الأفكار (1/376) ، شرح ألفية السيوطي للشيخ الأثيوبي (1/164) .

  ([42])النكت على كتاب ابن الصلاح (2/617) .

  ([43])مقدمة ابن الصلاح ص (166) .

  ([44])تهذيب التهذيب (7/427) .

  ([45])ينظر : النكت على كتاب ابن الصلاح (2/624) .

  ([46])ينظر : طبقات المدلسين لابن حجر ص (26)  .

  ([47])سيأتي بحث الإجازة إن شاء الله تعالى .

  ([48])ينظر : جامع التحصيل في أحكام المراسيل (1/114) .

  ([49])طبقات المدلسين ص(28) .

  ([50])أخرجه ابن عدي في الكامل (1/107) ، والخطيب في الكفاية ص (508) . وإسناده صحيح .

  ([51])أخرجه ابن عدي في الكامل (1/106-107) وإسناد حسن عن حماد ، وصحيح عن عوْف .

  ([52])أخرجه ابن حبان في المجروحين (1/ 92) ، وإسناده صحيح .

  ([53])للازدياد ينظر الكفاية للخطيب  (1/355) ، والكامل في الضعفاء (1/33) .

  ([54])ينظر : النكت على مقدمة ابن الصلاح  لا بن بهادر (2/18) .

  ([55])الرسالة ص (379) فقرة رقم (1033) و(1034) .

  ([56])ينظر : الرسالة ص (379) فقرة رقم (1035) ، البحر المحيط (6/207) ،تدريب الراوي (1/262) ، والتمهيد لابن عبد البر (1/31) ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/161) ، والنكت على ابن الصلاح (2/624) ، والكفاية ص (399) ، شرح ألفية السيوطي أحمد شاكر ص (33) ، والتقييد والإيضاح ص (80) ، مقدمة ابن الصلاح ص (171) .

  ([57])والصيغة التي يندفع بها التدليس هي : (سمعت) و (حدثني) و (حدثنا) و (أخبرني) و (أخبرنا) و (أنبأني) و (أنبأنا) و (قال لي) و (قال لنا) و (ذكر لي) و (ذكر لنا) , ونحو ذلك .

  ([58])التمهيد (1/30-31) .

  ([59])صحيح ابن حبان (1/161) .

  ([60])رواه البيهقي عن شعبة معلقا في معرفة السنن والآثار (1/86) ، ووصلة الحافظ محمد بن طاهر المقدسي في كتابه مسألة التسمية ص (47) بسند رجاله ثقات . والعمل على هذا عند العلماء فإنهم يقبلون رواية شعبة عن هؤلاء حتى لو رووا الحديث بالعنعنة قال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي قبل ذكر هذه الرواية عن شعبة في كتابه مسألة التسمية ص (46) : (واعلم أن هؤلاء الأئمة الذين قدمت ذكرهم من قواعد الصحيح إلا أن الشيخين لم يخرجا هذا الحديث من روايتهم عن قتادة وإنما اعتمدوا على طريق شعبة وعلى طريق الأوزاعي والسبب أن قتادة كان يدلس ولم يكن أحد يمكنه أن يسأله عما سمع مما لم يسمع إلا شعبة وله في ذلك حكايات يعرفها أهل النقل)  .

  ([61])طبقات المدلسين ص (59) .

  ([62])ينظر : سؤالات الحاكم ص (174) ، والنكت على مقدمة ابن الصلاح (2/72) .

  ([63])رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه ص (356) بسند صحيح .

  ([64])إرواء الغليل (3/ 97) .

  ([65])إرواء الغليل (4/ 44) .

  ([66])إرواء الغليل (5/ 202) .

  ([67])أخرجه ابن أبي حاتم في التقدمة ص (241) وسنده صحيح .

  ([68])فتح الباري المقدمة ص (418) .

  ([69])تاريخ بغداد (968) .

  ([70])الكامل في ضعفاء الرجال (1/151) .

  ([71])الكامل في ضعفاء الرجال (3/207) .

  ([72])أصول السرخسي (1/359) .

  ([73])روضة الناظر (2/425) .

  ([74])رواه الإمام أحمد في المسند برقم (18493) .

  ([75])أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ ، قال في تحرير علوم الحديث (2/949) : إسناده حسن .

  ([76])ينظر : الكفاية ص (403) ، وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/264) ، وتوضيح الأفكار(1/368) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (171) .

  ([77])جامع التحصيل في أحكام المراسيل ص (113) .

  ([78])الحسن بن ذكوان فقد ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين ص (60) .

  ([79])(2/636) .

 

الحديث المنقطع

النوع الرابع : الحديث المنقطع :

المسألة الأولى : تعريفه :

المنقطع لغة([1]) : المُنْقَطِعُ ضد المُتَصِل ، والقَطْعُ إِبانةُ بعض أَجزاء الجِرْمِ من بعضٍ فَصْلاً ، قَطَعَه يَقْطَعُه قَطْعاً وقَطِيعةً وقُطوعاً .

والمنقطع اصطلاحا([2]) : سقوط راوٍ أو أكثر أثناء السند لكن ليس على التوالي .

مثاله :

قال الترمذي([3]) : (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَمَّرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ ، عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ ، عَنْ عَبْدِ الجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: ((اسْتُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَدَرَأَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الحَدَّ ، وَأَقَامَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مَهْرًا )) .

هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ .

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ : عَبْدُ الجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَلاَ أَدْرَكَهُ ، يُقَالُ : إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِأَشْهُرٍ .

وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَغَيْرِهِمْ : أَنْ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَكْرَهَةِ حَدٌّ ) .

مثال آخر :

قال الحاكم([4]) : (حدثنا أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه ثنا محمد بن سليمان الحضرمي حدثنا محمد بن سهل ثنا عبد الرزاق قال : ذكر الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيع عن حذيفة قال : قال رسول الله ﷺ : ((إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم وإن وليتموها علياً فهاد مهدي يقيمكم على طريق مستقيم )) .

هذا إسناد لا يتأمله متأمل إلا علم اتصاله وسنده ، فإن الحضرمي ومحمد بن سهل بن عسكر ثقتان ، وسماع عبد الرزاق من سفيان الثوري واشتهاره به معروف ، وكذلك سماع الثوري من أبي إسحاق ، واشتهاره به معروف ، وفيه انقطاع في موضعين ، فإن عبد الرزاق لم يسمعه من الثوري ، والثوري لم يسمعه من أبي إسحاق .

أخبرنا أبو عمرو بن السماك ثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي حدثنا محمد بن أبي السري ثنا عبد الرزاق أخبرني النعمان بن أبي شيبة الجندي عن سفيان الثوري عن إسحاق فذكر نحو ز .

حدثنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة ثنا الحسن بن علويه القطان حدثني عبد السلام بن صالح ثنا عبد الله بن نمير ثنا سفيان الثوري ثنا شريك عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثيع عن حذيفة قال : ذكروا الإمارة والخلافة عن النبي ﷺ . فذكر الحديث بنحوه .

قال الحاكم : وكل من تأمل ما ذكرناه من المنقطع علم وتيقن أن هذا العلم من الدقيق الذي لا يستدركه إلا الموفق والطالب المتعلم ) .

المسألة الثانية : إطلاقات المنقطع :

عرفت أن المنقطع هو سقوط راوٍ أو أكثر أثناء السند لكن ليس على التوالي ، وهذا اشتهر عند المتأخرين ، لكن قد يطلق المنقطع على المقطوع([5]) ، ويطلق على كل ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان الانقطاع ، سواء كان في أو السند أو وسطه أو آخره وسواء كان سقط منه راو أو أكثر على التوالي أو ليس كذلك فيشمل المرسل والمعضل والمعلق ، ويطلق على إبهام الراوي في السند كأن يقال: (عن رجل) أو (عن شيخ) ، وكقول الراوي : (حدثت عن فلان) و (أخبرت عن فلان) فهو وإن ذكر الراوي ، لكنه أبهمه فأشبه الانقطاع ؛ للتساوي في جهالة الراوي عيناً وحالاً ، فلهذا سمي منقطعا([6]) .

مثال هذه الصورة :

قال الإمام أحمد([7]) :  حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، سَمِعَهُ مِنْ شَيْخٍ ، فَقَالَ مَرَّةً : سَمِعْتُهُ مِنْ رَجُلٍ ، مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَعْرَابِيٍّ ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (( مَنْ قَرَأَ : ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ . فَقَالَ : ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ سورة المرسلات: 50 ، فَلْيَقُلْ : آمَنَّا بِاللهِ ، وَمَنْ قَرَأَ : ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ ، فَلْيَقُلْ : بَلَى ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ : ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ سورة القيامة: 40 ، فَلْيَقُلْ: بَلَى )) .

وهذا الحديث إسناده ضعيف لجهالة الراوي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- ، وهو عند بعض العلماء حديث منقطع .

قال الخطيب([8]) : (والمنقطع مثل المرسل إلا أن هذه العبارة تستعمل غالبا في رواية من دون التابعي عن الصحابة ، مثل : أن يروى مالك بن أنس عن عبد الله بن عمر ، أو سفيان الثوري عن جابر بن عبد الله ، أو شعبة بن الحجاج عن أنس بن مالك ، وما أشبه ذلك .

وقال بعض أهل العلم بالحديث : الحديث المنقطع ما روي عن التابعي ومن دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله ) .

قال النووي : (المنقطع الصحيح الذي ذهب إليه الفقهاء ، والخطيب ، وابن عبد البر وغيرهم من المحدثين أن المنقطع ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان  انقطاعه ، وأكثر ما يستعمل في رواية من دون التابعي عن الصحابي كمالك عن ابن عمر .

وقيل : هو ما اختل منه رجل قبل التابعي محذوفا كان أو مبهما كرجل .

وقيل : هو ما روي عن تابعي أو من دونه قولا له أو فعلا . وهذا غريب ضعيف)([9]) .

المسألة الثالثة : حكم المنقطع :

الحديث المنقطع ضعيف لا يحتج به لتخلف شروط من شوط الصحة وهي الاتصال ، فإذا كان المرسل ضعيفاً فالمنقطع أولى منه لأن الساقط والمجهول في المرسل يحتمل أن يكون صحابياً وهم عدول أو تابعياً وهم أقرب إلى العدالة .

المسألة الرابعة : طرق معرفة المنقطع :

الطرق التي يعرف بها الانقطاع ما يأتي :

الطريق الأول : التنصيص من الراوي أو الناقد على عدم السماع([10]) .

  • قد ينص الراوي نفسه على عدم السماع ، مثاله : قول عمرو بن مرة : قلت لأبي عبيدة (يعني ابن عبد الله بن مسعود) : تذكر من أبيك شيئاً؟ قال : لا([11]) .
  • وقد يكون بتنصيص من روى عنه من الثقات ، مثاله : قال شعبة : قال لي عبد الملك بن ميسرة : الضحاك لم يسمع من ابن عباس ، إنما لقي سعيد بن جبير بالري فسمع منه التفسير([12]) .
  • وقد يكون بتنصيص الناقد العارف بالرجال ، بناء على الاستقراء والنظر ، على عدم الإدراك ، أو اللقاء ، أو السماع ، بقوله مثلاً : (فلان لم يدرك فلاناً ، لم يلق فلاناً ، لم يسمع فلاناً ، عن فلان مرسل ) .

وقد يختلف فيه بين النقاد ، فمن مرجح للسماع ومن مرجح لخلافه ، فيحرر الراجح بأصول الجرح والتعديل .

الطريق الثاني : معرفة التاريخ .

المقصود به تمييز تاريخ وفاة الشيخ ، ومولد التلميذ ، فإن كان التلميذ لم يولد إلا بعد وفاة الشيخ أو قبل وفاته بسنة أو سنتين أو ثلاثة ونحوه  بحيث كان صغير السن لا يَحْتَمل السماع ، فهو انقطاع .

وهذا طريق سلكه النقاد الكبار في معرفة الاتصال والانقطاع في الأسانيد ، واستدلوا به كثيراً .

مثاله : عبد الرحمن بن أبي ليلى ، من كبار التابعين ، وقد روى عن أبي بكر الصديق ، ومات أبو بكر سنة (113) ، وقال ابن أبي ليلى : ولدت لست بقين من خلافة عمر([13]) . فروايته عنه بهذا الاعتبار منقطعة قطعاً .

الطريق الثالث : مجيء الرواية بصيغة تدل على وجود واسطة بين الراوي ومن فوقه .

مثاله : قول الراوي : (حُدثت عن فلان) أو نحوها ، وهذا بين في الانقطاع من أجل البناء للمجهول ، وأمثلته واردة في الأسانيد بنسبة غير قليلة .

الطريق الرابع : أن يقوم دليل على أن رواية فلان عن فلان بواسطة بينهما ، فإذا وجدت دون الواسطة فهي منقطعة .

مثاله : رواية سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مولى النبي ﷺ ، فإنه لا يذكر في شيء من روايته سماعاً من ثوبان ، وغالب ما يرويه من حديث ثوبان يدخل بينه وبينه فيه معدان بن أبي طلحة .

ولذا قال الإمامان أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي : لم يسمع من ثوبان ، بينهما معدان بن أبي طلحة([14]) .

الطريق الخامس : تباعد بلد الراوي عن بلد من يروي عنه :

تباعد بلد الراوي عن بلد من يروي عنه قرينة على الانقطاع بحيث يغلب على نظر الباحث بعد تلاقيهما ، كأن يكون الراوي من بلد المشرق ومن يروي عنه من المغرب ، ولم يرحل هذا إلى المشرق ، ولا الراوي إلى المغرب ، ولم يثبت اجتماعهما في الحج في نفس السنة .

وقد يكون كلاهما من المشرق ، وكل واحد منها في بلد تبعد عن الأخرى بعدا يحتاج إلى سفر طويل ، ولم يرحل الأول إلى بلد الثاني ، ولا الثاني إلى بلد الأول ، ولم يثبت اجتماعهما في الحج في نفس السنة ، فهذه قرينة على الانقطاع .

قال ابن رجب([15]) : (ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رحل إلى بلده ، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه .

ونقل مهنا عن أحمد قال : لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري -رضي الله عنه- ، تميم بالشام ، وزرارة بصري .

وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- : لقد أدركه ، ولا أظنه سمع منه ، ذاك بالشام ، وهذا بالبصرة …

وكذلك رواية من هو في بلد عمن ببلد آخر ، ولم يثبت اجتماعهما ببلد واحد يدل على عدم السماع منه) .

 

  ([1])ينظر : المحكم (1/159) ، ولسان العرب (11/221) ، وتهذيب اللغة (1/187) ، ومصباح المنير ص (194) ، والقاموس المحيط ص (972) .

  ([2])ينظر : تدريب الراوي (1/235) ، والباعث الحثيث (1/162) ، النكت على نزهة النظر ص (112) ، وفتح المغيث (1/276) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (150) ، وشرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (412) ، توضيح الأفكار (1/323) ، ومقدمة ابن الصلاح ص (144) ، والشذا الفياح (1/159) ، واليواقيت والدرر في شرح نخبة الفكر (2/3) .

  ([3])سنن الترمذي (3/107) رقم الحديث (1453) .

  ([4])معرفة علوم الحديث ص (70) .

  ([5])وهو ما رواه دون الصحابي كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .

  ([6])معرفة علوم الحديث ص (27) .

  ([7])المسند (12/353) رقم الحديث (7391) .

  ([8])الكفاية ص (37) .

  ([9])ينظر : تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/235) .

  ([10])ينظر : ألفية السيوطي البيت رقم (181) وشروحها .

  ([11])أخرجه أحمد في العلل رقم (456) ، وابن أبي حاتم في المراسيل ص (256) بإسناد صحيح .

  ([12])أخرجه ابن أبي حاتم في المراسيل ص (95) بإسناد صحيح .

  ([13])أخرجه ابن أبي حاتم في المراسيل ص (126) .

  ([14])ينظر  : المراسيل لابن أبي حاتم ص (55) ، وتهذيب الكمال (10/132) .

  ([15])شرح علل الترمذي (2/36) .

الحديث المعضل

النوع الثالث : الحديث المعضل :

المسألة الأولى : تعريفه :

المعضل لغة([1]) : اسم مَفْعُولٍ من أَعْضَلَهُ بمعنى أَعْيَاه ، وعَضَلَ عليه عَضْلاً : ضَيَّقَ وحالَ بينه وبين مُرادِه . وعَضَّلَ عليه تَعْضِيلاً وعَضَّلَ به الأمرُ : أي اشتدَّ عن ابْن دُرَيْدٍ كَأَعْضَلَ إذا ضاقَتْ عليه الحِيَلُ ، والأمر المُعْضِل ، وهو الشَّديد الذي يُعيِي إصلاحُه وتدارُكُه ، وأصلُ العَضْلِ : المَنْعُ والشِّدّة . وأَعْضَلَه الأمرُ : غَلَبَه .

المعضل اصطلاحا([2]) : ما سقط منه راويان فأكثر على التوالي .

مثاله :

روى الإمام مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا يُطِيقُ ))([3]) .

هذا الحديث معضل لأنه سقط منه راويان متواليان بين مالك وأبي هريرة –رضي الله عنه- وهما : محمد بن عجلان ، وأبوه فقد رواه الحاكم([4]) قال : أخبرنا أبو الطيب محمد بن عبد الله الشعيري حدثنا خمش بن عصام المعدل ثنا حفص بن عبد الله ثنا إبراهيم بن طهمان عن مالك بن أنس عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ([5]).

المسألة الثانية : إطلاق لفظ المعضل :

اعلم أن إطلاق لفظ (المعضل) لم يكن شائعا عند المتقدمين بالمعنى الذي شاع عند المتأخرين وسبق بيانه ، وكان عند غالب المتقدمين لفظ (المعضل) مندرجا تحت الحديث المنقطع أو المرسل بعموم معناهما .

فقد أطلق كثير من المحدثين لفظ (المعضل) على الراوي الذي يروي الحديث الموضوع والمنكر ، وإليك بعض عباراتهم :

قال ابن عدي([6]) : (الحسن بن زيد هذا يروي عن أبيه وعكرمة أحاديث معضلة ) .

وقال([7]) في حصين بن عمر : (عامة أحاديثه معاضيل ينفرد عن كل من يروي عنه) .

وقال العقيلي([8]) : (عُمر بن يَزيد الشَّيباني الرَّفَّاء , شَيخ بَصريٌّ : مَجهول بِالنَّقل ، جاء عن شُعبة بِحَديث مُعضَل ) .

وقال الذهبي([9]) : (ضُبَارَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكٍ … ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ ، وَسَاقَ لَهُ أَحَادِيثَ تُنْكَرُ . وَقَالَ الْجُوزْجَانِيُّ : رَوَى حَدِيثًا مُعْضِلا ) . قال الحافظ ابن حجر([10]) : (وهو متصل الإسناد) .

وقال ابن حبان([11]) في عمر بن محمد بن صهبان الأسلمي : (يروي عن الثقات المعضلات التي إذا سمعها من الحديث صناعته لم يشك أنها معمولة  ) .

وقال([12]) عن المسيب بن شريك التميمي : (ظهر من حديثه المعضلات التي يرويها عن الأثبات ، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل التعجب) .

ولهذا قال الحافظ ابن حجر([13]) : (وجدت التعبير بالمعضل في كلام الجماعة من أئمة الحديث فيما لم يسقط منه شيء البتة .

فمن ذلك : ما قال محمد بن يحيى الذهلي – في الزهريات -: حدثنا أبو صالح الهراني2 ثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ((كان رسول الله ﷺ يعتكف فيمر بالمريض فيسلم عليه ولا يقف)) .

قال الذهلي : (هذا حديث معضل لا وجه له إنما هو فعل عائشة – رضي الله عنها – ليس للنبي ﷺ فيه ذكر ، والوهم فيما نرى من ابن لهيعة) .

ومن ذلك : قال النسائي – في اليوم الليلة – : ثنا يزيد بن سنان نا مكي بن إبراهيم ، عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر – رضي الله تعالى عنه – قال : ((متعتان كانتا على عهد رسول الله ﷺ ..)) الحديث .

قال النسائي : ( هذا حديث معضل لا أعلم من رواه غير مكي ، لا بأس به ، لا أدري من أنبأني به) …

فإذا تقرر هذا فإما أن يكونوا يطلقون المعضل لمعنيين ، أو يكون المُعْضَل الذي عرف به المصنف ، وهو المتعلق بالإسناد بفتح الضاد ، وهذا الذي نقلناه من كلام هؤلاء الأئمة بكسر الضاد و يعنون به المستغلق الشديد . وفي الجملة فالتنبيه على ذلك كان متعينا ) .

تنبيه :

إطلاق لفظ المعضل بالتعريف المتقدم وهو : ما سقط منه راويان فأكثر على التوالي . قد عرف عند العلماء المتقدمين ، قال الحافظ ابن حجر([14]) : (فإن قيل : فمن سلف المصنف([15]) – في نقله – أن هذا النوع يختص بما سقط من إسناده اثنان فصاعدا ؟

قلنا : سلفه في ذلك علي بن المديني ومن تبعه . وقد حكاه الحاكم في علوم الحديث عنهم . فإنهم قالوا : المعضل : أن يسقط بين الرجل وبين النبي ﷺ أكثر من رجل ، والفرق بينه وبين المرسل أن المرسل مختصر التابعين دون غيرهم – والله الموفق – ) .

المسألة الثالثة : حكم الحديث المعضل :

الحديث المعضل ضعيف لا يحتج به لأنه أسوأ حالا من المرسل لتعدد الساقط من إسناده وجهالتهم ، فهو فاقد لشرط من شروط الصحة وهو الاتصال .

المسألة الرابعة : طرق معرفة الإعضال في الإسناد :

يعرف الإعضال في إسناد الحديث بما يأتي :

أولاً: يعرف الإعضال بمعرفة التاريخ فالذي روى الحديث عمن فوقه وكانت طبقة الراوي عن طبقة عنه بعيده ، بحيث إن الناظر في الإسناد يرى أن وفاة الأول متأخرة جدا عن وفاة من روى عنه بحيث يغلب على ظنه أن بينهما راويين على أقل تقدير .

ثانياً : يعرف بدلالة جمع طرق الحديث ، فيجد أن الإسناد الذي معه قد سقط منه أكثر من راوي بدلالة الإسناد الآخر الذي جاء من نفس طريق الراوي ، لكن ثبوت الإعضال بهذا الطريق قليل نادر .

 

  ([1])ينظر : لسان العرب (9/259) ، والصحاح (5/1766) ، ومختار الصحاح ص (438) ، وتهذيب اللغة (1/474) ، ومعجم مقاييس اللغة (4/345) ، والقاموس المحيط ص (1335) ، وتاج العروس (30/1) .

  ([2])ينظر : علوم الحديث لابن الصلاح ص (54) ، مقدمة ابن الصلاح ص (147) ، والتقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح ص (65) ، النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/575) ، وتوضيح الأفكار (1/323) ، وشرح نخبة الفكر القاري ص (409) ، النكت على نزهة النظر ص (112) ، وفتح الباقي بشرح ألفية العراقي ص (150) ، وفتح المغيث (1/279) ، الباعث الحثيث (1/167) ، وتدريب الراوي (1/240) ، والديباج المذهب للجرجاني ص (54) ، والاقتراح لابن دقيق ص (208) ، إرشاد الحقائق للنووي (1/183) .

  ([3])رواه الإمام مالك في الموطأ (2/980) رقم  (1769) .

  ([4])معرفة علوم الحديث ص (80) .

  ([5])الحديث قد رواه الإمام مسلم موصولا عن أبي هريرة –رضي الله عنه- من غير طريق الإمام مالك في الأيمان /باب إِطْعَامِ الْمَمْلُوكِ مِمَّا يَأْكُلُ وَإِلْبَاسِهِ مَمَّا يَلْبَسُ وَلاَ يُكَلِّفُهُ مَا يَغْلِبُهُ رقم الحديث (4406) .

  ([6])الكامل في الضعفاء (2/326) .

  ([7])الكامل في الضعفاء (3/301) .

  ([8])الضعفاء للعقيلي (4/200) .

  ([9])تاريخ الإسلام (3/898) .

  ([10])النكت (2/576) .

  ([11])المجروحين لا بن حبان (2/82) .

  ([12])المجروحين لا بن حبان (3/24) .

  ([13])النكت (2/575) .

  ([14])النكت (2/579) .

  ([15])يعني ابن الصلاح .

الحديث المرسل

النوع الثاني : الحديث المرسل :

المسألة الأولى : تعريفه :

المرسل لغة([1]) : اسم مفعول مشتق من الإرسال وهو : الإطلاق والإهمال . والرَّسَل القَطِيع من كل شيء والجمع أَرسال .

المرسل اصطلاحاً : يختلف تعريف المرسل عند المحدثين عن تعريفه عند الفقهاء والأصوليين ، وإليك بيان ذلك :

عرّف أكثر الأصوليين وبعض المحدثين أن المرسل هو ([2]) : قول من لم يلق النبي ﷺ قال رسول الله ﷺ .

وعرّف أكثر المحدثين وبعض الأصوليين أن المرسل هو([3]) : ما أضافه التابعي إلى النبي ﷺ.

إلا أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- أضاف قيداً فقال في تعريف المرسل([4]) : (ما أضافه التابعي إلى النبي ﷺ مما سمعه من غيره ) .

واحترز الحافظ -رحمه الله تعالى- بهذا القيد ليخرج التابعي الذي سمع النبي ﷺ وهو في حال الكفر ، ثم أسلم بعد وفاة النبي ﷺ ، وحدث عنه بما سمعه منه ، فإن سماعه من النبي ﷺ صحيح متصل وهو داخل في تعريف المرسل ، فيخرج بهذا القيد .

وتعريف المرسل عند المحدثين كما ترى أخص من تعريف الأصوليين .

مثال المرسل :

قال الإمام مالك([5]) أخبرنا أبو حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب : ((أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الغرر ))([6]) ، فإن سعيد بن المسيب من التابعين رفع الحديث إلى النبي ﷺ .

تنبيه :

هناك صورتان لا بد من التنبه لهما تحت تعريف المرسل :

الصورة الأولى : ظاهرها الاتصال وهي في الحقيقة غير متصلة بل هي مرسلة ، وهي رواية من رأى النبي ﷺ ولم يسمع منه شيئاً([7]) ، كالصحابي غير المميز لصغره عند سماعه من النبي ﷺ ، فهو له شرف الصحبة لا حكمها في الرواية ، وحديثه من قبيل المرسل ولا يعد متصلاً فهو بمنزلة رواية كبار التابعين .

مثل : جَعْدة بن هبيرة المخزومي ، ولد في حياة النبي ﷺ وله رؤية ثبت له بها شرف الصحبة .

قال يحيى ابن معين([8]) : ( جعدة بن هبيرة لم يسمع من النبي ﷺ شيئاً ) .

ولهذا اختلف أهل العلم في الحكم عليه ، فذهب بعضهم كالعجلي وغيره إلى أنه تابعي لأنهم نظروا إلى عدم سماعه من النبي ﷺ فحديثه حكمه الإرسال ، وذهب آخرون إلى أنه صحابي ، فحكموا له بالصحبة بسبب الرؤيا .

والتحقيق أنه صحابي على تعريف الصحابي فله شرف الصحبة ، لكن حكم حديثه حكم روايات كبار التابعين لأنه لم يسمع من النبي ﷺ شيئاً([9]) .

الصورة الثانية : ظاهرها الإرسال وهي معضلة ، وهي رواية من له رؤية لبعض الصحابة ، ولم يسمع من أحد منهم شيئاً ، فهذا تثبت له شرف التابعية لا حكمها ، فروايته عن النبي ﷺ معضلة ، فإن الساقط بينه وبين النبي ﷺ اثنان تابعي وصحابي([10]) ، وسقوط الصحابي لا يضر ، لكنه قد يسقط أكثر من تابعي فتكون روايته معضلة لسقوط راويين فأكثر على التوالي ، وأما روايته عن الصحابة منقطعة لأنه لم يسمع منهم ، كروايات إبراهيم النخعي أو الأعمش عن النبي ﷺ([11]).

تنبيه آخر :

اعلم أن المتقدمين كثر عند بعضهم إطلاق المرسل على كل منقطع الإسناد ، مثاله :

قال أبوداود([12]) حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَمُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خَالِدٍ قَالَ يَعْقُوبُ ابْنُ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : ((أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَالَ : يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ )) .

قَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا مُرْسَلٌ خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- .

وهذا منقطع وليس مرسلا على الاصطلاح لأن خالد لم يرسل الحديث إلى النبي ﷺ ، ولهذا يكثر قول العلماء في التراجم : (يرسل الحديث عن فلان) و(كثير الإرسال عن فلان) أي منقطع بينه وبين من أرسل عنه ، ولهذا وجب التنبيه .

المسألة الثانية : حكم الحديث المرسل :

اعلم أن الحديث المرسل على صورتين :

الصورة الأولى : مرسل الصحابي :

مرسل الصحابي على ضربين :

الضرب الأول : الصحابي الذي لم يسمع من النبي ﷺ شيئاً ، كالصحابي الصغير غير المميز عند سماعه ، وسبق أن حديثه لا يعد متصلاً ، وأن حديثه ينزل منزلة كبار التابعين ، وقد عرفت حكمها ، وحكم المرسل([13]) .

الضرب الثاني : الصحابي الذي سمع النبي ﷺ لكن يروي عنه حديثاً لم يسمعه من النبي ﷺ ، وهو مرسل صحابي ، وهذا وقع عند كثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- وأكثره في صغار الصحابة كعبد الله بن العباس ، وأنس بن مالك ، ومن تأخر إسلامه ، و مراسيل الصحابة محتج بها ولا يجوز ردها على الراجح .

قال السرخسي([14]) : (ولا خلاف بين العلماء في مراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- أنها حجة ، لأنهم صحبوا رسول الله ﷺ ، فما يروونه عن رسول الله عليه السلام مطلقا يحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم ، وهم كانوا أهل الصدق والعدالة ) .

وقال النووي([15]) : (مرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفراينى) .

قال الحافظ العراقي([16]) : (إن المحدثين وإن ذكروا مراسيل الصحابة فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها أما الأصوليون فقد اختلفوا فيها فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني إلى أنه لا يحتج بها ، وخالفه عامة أهل الأصول فجزموا بالاحتجاج بها …) .

ولا عبرة بخلاف أبي إسحاق –رحمه الله تعالى- لأن إجماع من قبله حجة عليه ، وقوله يعد شذوذا ، قال ابن قدامة([17]) : (مراسيل أصحاب النبي ﷺ مقبولة عند الجمهور وشذ قوم فقالوا : لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره ، أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي ، وإلا فلا ، لأنه قد يروي عمن لم تثبت لنا صحبته .

وهذا ليس بصحيح ، فإن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من أصاغر الصحابة مع إكثارهم ، وأكثر روايتهم عن النبي ﷺ مراسيل ) .

قال الخطيب البغدادي([18]) : (مراسيل الصحابة كلهم مقبولة لكونهم جميعاً عدولاً مرضيين ، وإن الظاهر فيما أرسله الصحابي ولم يبين السماع فيه أنه سمعه من رسول الله ﷺ أو من صحابي سمعه عن رسول الله ﷺ ، وأما من روى منهم عن غير الصحابة فقد بيّن في رواته ممن سمعه ، وهو أيضاً قليل نادر فلا اعتبار به ، وهذا هو الأشبه بالصواب عندنا …) .

يؤيده ما صح عن البراء بن عازب –رضي الله عنه- فإنه قال : (مَا كُلُّ الْحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الإِبِلِ)([19]) .

وروى قتادة السدوسي عن أنس بن مالك قصةً ، فقال له رجلٌ : سمعت هذا من أنس؟ قال : نعم . قال رجل لأنس : أَسَمِعه من رسول الله ﷺ ؟ قال : نعم ، وحدثني من لم يكذب ، والله ما كنّا نكذب ولا ندري ما الكذب([20]) .

الصورة الثانية : مرسل غير الصحابي :

اختلف العلماء –رحمهم الله تعالى- في قبول والاحتجاج بمراسيل غير الصحابة ، على أقوال ، والراجح عدم قبول الحديث المرسل والاحتجاج به إلا إذا احتفت به القرائن ، وهو مذهب الأئمة([21]) كالأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهو قول أكثر أهل الحديث منهم الإمام مسلم ، والترمذي ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم الرازي ، وابن حبان ، والخطيب ، وابن حزم ، وغيرهم ، وهو قول كثير من الفقهاء والأصوليين .

ورجحت هذا المذهب لأن الراوي الساقط من السند مجهول ، فيحتمل أن يكون ضعيفاً ، فإذا كان رواية المجهول المسمى لا تقبل لجهالته ، فرواية المرسل من باب أولى لأن المروي عنه الساقط من السند مجهول العين والحال .

المسألة الثالثة : شروط قبول المرسل هي :

قال ابن رجب([22]) ملخصا ً شروط الإمام الشافعي في قبول الحديث المرسل([23]) : (ومضمون كلام الشافعي وهو كلام حسن جداً ، ومضمونه أن الحديث المرسل يكون صحيحاً ، ويقبل بشروط منها :

في نفس المُرْسِل وهي ثلاثة :

أحدها : أن لا يعرف له رواية عن غير مقبول الرواية ؛ من مجهول أو مجروح .

وثانيها : أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما أسندوه ، فإن كان ممن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يقبل مرسله .

وثالثها : أن يكون من كبار التابعين ، فإنهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي أو تابعي كبير ، وأما غيرهم من صغار التابعين ومن بعدهم فيتوسعون في الرواية عمن لا تقبل روايته .

وأيضاً فكبار التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة ، وأما من بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة ، وهي الباطلة الموضوعة ، وكثر الكذب حينئذ .

فهذه شرائط من يقبل إرساله .

وأما الخبر الذي يرسله :

فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته وأن له أصلاً ، والعاضد له أشياء :

أحدها – وهو أقواها- : أن يسنده الحفاظ المأمونون من وجه أخر عن النبي ﷺ بمعنى ذلك المُرْسَل ، فيكون دليلاً على صحة المرسل ، وأن الذي أرسل عنه كان ثقة . وهذا هو ظاهر كلام الشافعي …

والثاني : أن يوجد مرسل آخر موافق له ، عن عالم يروي عن غير من يروي عنه المُرْسِل الأول فيكون ذلك دليلاً على تعدد مخرجه ، وأن له أصلاً ، بخلاف ما إذا كان المُرْسِل الثاني لا يروي إلا عمن يروي عنه الأول ، فإن الظاهر أن مخرجهما واحد لا تعدد فيه …

والثالث : أن لا يوجد شيء مرفوع يوافقه ، لا مسند ولا مرسل ، لكن يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة ، فيستدل به على أن للمرسل أصلاً صحيحاً أيضاً ، لأن الظاهر أن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبي ﷺ .

والرابع : أن لا يوجد للمرسل ما يوافقه لا مسند ولا مرسل ولا قول صحابي ، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به ، فإنه يدل على أن له أصلاً ، وأنهم مسندون في قولهم إلى ذلك الأصل([24]) .

فإذا وجدت هذه الشرائط دلت على صحة المرسل وأنه له أصلاً ، وقبل واحتج به . ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة ، فإن المرسل وإن اجتمعت فيه هذه الشرائط فإنه يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذاً عن غير من يحتج به ، ولو عضده حديث متصل صحيح ، لأنه يحتمل أن لا يكون أصل المرسل صحيحاً . وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما واحداً وأن يكون متلقى عن غير مقبول الرواية ، وإن عضده قول صحابي فيحتمل أن الصحابي قال برأيه من غير سماع من النبي ﷺ فلا يكون في ذلك ما يقوي المرسل . ويحتمل أن المرسل لما سمع قول الصحابي ظنه مرفوعاً فغلط ورفعه ، ثم أرسله ولم يسم الصحابي ، فما أكثر ما يغلط في رفع الموقوفات ، وإن عضده موافقة قول عامة الفقهاء فهو كما لو عضده قول الصحابي وأضعف ، فإنه يحتمل أن يكون مستند الفقهاء اجتهاداً منهم ، وأن يكون المرسل غلط ورفع كلام الفقهاء ، لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جداً ) .

وذهب بعض أهل العلم إلى قبول الحديث المرسل بشرط واحد فقط وهو أن يكون المرسل ثقة ودليلهم على ذلك هو أن إرسال الثقة تعديل لمن أرسل عنه ، لأن عدم ذكره له دليل على أنه ثقة لأنه لو كان غير ذلك لبين .

جوابه :

الجواب الأول : هذه غير صحيح ، لأن المُرْسِل ربما لم يذكر الساقط لعدم علمه به أصلا ، والواقع العملي يشهد بذلك ، فكم من المُرْسِلين الذين كانوا يرون عن كل أحد .

الجواب الثاني : ليس كل ثقة له التمييز بين النقلة ، فقد لا يكون المُرْسِل من أهل الجرح والتعديل .

الجواب الثالث : سلمنا أنه من أهل الجرح والتعديل ، وأن الساقط عنده ثقة ، لكن مما هو معلوم أن الراوي قد يكون مختلفا فيه جرحا وتعديلا ، والجرح المفسر أرجح على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى ، فكيف السبيل إلى الترجيح بين الجرح والتعديل في راوي لم يذكر في الإسناد أصلا.

الجواب الرابع : أنه قد يكون الساقط ثقة عند المُرسِل ضعيف عند غيره ، فكيف نقبل من لا نعلم حاله .

الجواب الخامس : أن الثقات عرف اعتناؤهم بالأسانيد وذكرهم للرواة وهو الذي عرف به ضبطهم وإتقانهم ، فإذا ذكر من حدثه بالحديث فقد أُعذر ، فعدول أحدهم إلى الإرسال وعدم ذكر من حدثه يورد مظنة القدح في الراوي الذي أُسقط من الإسناد والشك فيه لأنه لو كان ثقة لحدث به وذكره في الإسناد ، ولهذا قال يحي بين سعيد القطان : (سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء لأنه لو كان فيه إسنادٌ صَاحَ به)([25]) .

الجواب السادس : أن المرسل منقطع لجهالة الساقط فلا يصح الاحتجاج به إلا مع وجود قرائن تدل على ثبوته ، ولهذا تجد المخالف لا يقبل الاحتجاج بالحديث المرسل لانقطاعه ، ولهذا يقول ابن عبد البر([26]) : (ثُمَّ إنِّي تَأَمَّلْت كُتُبَ الْمُنَاظِرِينَ والمختلفين من المتفقهين وأصحاب الأثر من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، فلم أَرَ أَحَدًا منهم يقنع من خَصَمَهُ إذَا احْتَجَّ عليه بِمُرْسَلٍ ، وَلَا يَقْبَلُ منه في ذلك خَبَرًا مَقْطُوعًا ، وَكُلُّهُمْ عِنْدَ تَحْصِيلِ الْمُنَاظَرَةِ يُطَالِبُ خَصْمَهُ بِالِاتِّصَالِ في الْأَخْبَارِ) .

وقال ابن رجب([27]) : (واعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ وكلام الفقهاء في هذا الباب ، فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلاً ، وهو ليس بصحيح على طريقتهم ، لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي ﷺ ، وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث ، فإذا عضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلاً قوي الظن بصحة ما دل عليه ، فاحتج به مع ما اختلف به من القرائن . وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة ) .

تنبيه :

نلاحظ أن السلف في زمن التابعين يتساهلون في قبول المرسل أكثر ممن بعدهم ، أما من بعد عصر التابعين فصار التشديد في قبول المرسل ، لأن عصر التابعين أقرب إلى زمن النبي ﷺ ، فالساقط من السند إلى الثقة أقرب منه للضعيف ولهذا كانوا ينظرون إلى المُرْسِل إذا كان ثقة تساهلوا في قبول إرساله ، بخلاف من بعدهم من العصور فالسقط والجهالة تزيد من حيث العدد والصفة ، إلا أنك عرفت أن المرسل ضعيف ولا يقبل حتى يوجد ما يقويه ، ولكن لا شك أن مرسل كبار التابعين أقوى من مرسل من دونهم . والله أعلم .

 

  ([1])ينظر : معجم مقاييس اللغة (2/392) ، والمحكم (8/472) ، وتهذيب اللغة (12/391) ، ولسان العرب (5/211) .

  ([2])ينظر : تيسير التحرير (3/102) ، وكشف الإسرار (2/40) ، والبحر المحيط (6/338) ، وفواتح الرحموت (2/222) ، والإحكام للآمدي (2/123) ، والمستصفى (2/281) ، والتحقيقات في شرح الورقات ص (500) ، والتحبير شرح التحرير (5/2136) ، وشرح الكوكب المنير (2/574) ، وشرح الورقات لابن الفركاح ص (294) ، وشرح اللمع (2/347) ، ونهاية السول للإسنوي (2/721) ، الأنجم الزاهرات ص (213) ، وشرح مختصر الروضة (2/230) ، والمذكرة ص (258) .

  ([3])ينظر : الاقتراح في الاصطلاح ص (208) ، وشرح أليفية العراقي للأنصاري (2/144) ، وتدريب الراوي (1/219) ، وكفاية الحفظة شرح الموقظة ص (120) ، وإسبال المطر على قصب السكر ص (110) ، والباعث الحثيث (1/153) ، وفتح الباقي شرح ألفية العراقي ص (141) ، والتقيد والإيضاح شرح مقدمة ابن صلاح ص (55) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح (2/540) ، وشرح نخبة الفكر ص (399) ، وكتاب إرشاد الحقائق (1/167) ، الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح (1/147) ، والنكت على نزهة النظر ص (109) ، واليواقيت والدرر على نخبة ابن حجر  (1/498) .

  ([4])النكت (2/546) .

 ([5])في الموطأ رقم (774) ، باب بيع الغرر  .

 ([6])النهي عن بيع الغرر رواه مسلم رقم (2783) بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : (( نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ))  . وروى البخاري معناه عن ابن عمر –رضي الله عنهما- رقم (2143) .

  ([7])تعريف الصحابي : هو من لقي النبي ﷺ مؤمناً به ومات على الإسلام ولو تخللت ردة في الأصح .

  ([8])تاريخ ابن معين رواية الدوري (3/46) رقم (187) .

  ([9])ينظر : أسد الغابة (1/539) ، ومعرفة الثقات للعجلي (1/268) ، وكتاب الجرح والتعديل (2/526) ، ومعجم أسامي الرواة (1/367) .

  ([10])بخلاف الرواية المرسلة فإنه قد يكون الساقط صحابي فقط أو صحابي وتابعي أما هذه الصورة فإنه لا يمكن أن يكون الساقط صحابي فقط .

  ([11])ينظر : تحرير علوم الحديث (2/923) .

  ([12])سنن أبي داود (4/106) رقم الحديث (4106) .

  ([13])وسبق بيان الراجح في أن له شرف الصحبة أما حكم الرواية فلا لأنه لم يسمع النبي ﷺ .

  ([14])أصول السرخسي (1/359) .

  ([15])شرح مسلم للنووي (2/197) .

  ([16])التقيد والإيضاح ص (63) .

  ([17])روضة الناظر (2/425) .

  ([18])الكفاية ص (424) .

  ([19])رواه الإمام أحمد في المسند برقم (18493) .

  ([20])أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ ، قال في تحرير علوم الحديث (2/949) : إسناده حسن .

  ([21])ينظر : الرسالة للإمام الشافعي ص (465)، ومقدمة صحيح مسلم بشرح النووي (1/132) ، والمجموع (1/60) ، والنكت على ابن الصلاح (2/546) ، والتمهيد (1/7) ، وشرح علل الترمذي لابن رجب ص (227) ، والكفاية في علم الرواية ص (426) ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/2) .

  ([22])شرح علل الترمذي (1/225) .

  ([23])تنظر : الرسالة للإمام الشافعي ص (461) .

  ([24])إن أراد بعامة أهل العلم الإجماع بنوعية فصحيح ، وإن أراد بعامة أهل العلم الكثرة مع وجود المخالف فلا ، فكم في كتب الفقه من المسائل أصلها حديث ضعيف جداً وعامة الفقهاء يقولون بها ، وأيضا ربما عامة الفقهاء قالوا بهذه المسألة بناء على هذا الحديث المرسل ، فيلزم من تقويته بقول عامة أهل العلم الدور ، فقوينا قول عامة أهل العلم بالمرسل الذي كنا قد قويناه بقول عامة أهل العلم .

  ([25])ينظر : الكفاية ص (426) ، وتدريب الراوي ص (205) ، وشرح علل الترمذي (1/212) .

  ([26])التمهيد (1/7) .

  ([27])شرح علل الترمذي (1/223) .